قوله تعالى : { المص كتاب } ، أي : هذا كتاب .
قوله تعالى : { أنزل إليك } ، وهو القرآن .
قوله تعالى : { فلا يكن في صدرك حرج منه } ، قال مجاهد : شك ، فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة . وقال أبو العالية : حرج أي ضيق ، معناه لا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به .
قوله تعالى : { لتنذر به } ، أي : كتاب أنزل إليك لتنذر به .
قوله تعالى : وذكرى للمؤمنين } ، أي عظة لهم ، وهو رفع ، مردود على الكتاب .
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مبينا له عظمة القرآن : { كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } أي : كتاب جليل حوى كل ما يحتاج إليه العباد ، وجميع المطالب الإلهية ، والمقاصد الشرعية ، محكما مفصلا { فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ } أي : ضيق وشك واشتباه ، بل لتعلم أنه تنزيل من حكيم حميد { لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } وأنه أصدق الكلام فلينشرح له صدرك ، ولتطمئن به نفسك ، ولتصدع بأوامره ونواهيه ، ولا تخش لائما ومعارضا .
{ لِتُنْذِرَ بِهِ } الخلق ، فتعظهم وتذكرهم ، فتقوم الحجة على المعاندين .
{ و } ليكون { ذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } كما قال تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ } يتذكرون به الصراط المستقيم ، وأعماله الظاهرة والباطنة ، وما يحول بين العبد ، وبين سلوكه .
ثم مدح - سبحانه - الكتاب الذي أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال : { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } .
المراد بالكتاب جملة القرآن الكريم ، وقيل : المراد به هنا السورة . وحرج الصدر ضيقه وغمه ، مأخوذ من الحرجة التي هى مجتمع الشجر المشتبك الملتف الذي لا يجد السالك فيه طريقا يخرج منه .
والمعنى ، هذا كتاب كريم أنزلناه إليك يا محمد فيه هداية الثقلين ، فبلغ تعاليمه للناس . ولا تحزن أو تضجر إذا وجدت من بعضهم صدوداً عنه ، فأنت عليك البلاغ ونحن علينا الحساب .
ولقد حكى لنا القرآن أن المشركين وصفوا النبى صلى الله عليه وسلم بأنه صاحر . أو مجنون ، كما وصفوا القرآن بأنه ليس من عند الله ، فكان صلى الله عليه وسلم يضيق صدره لذلك .
قال تعالى : { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } تقوية قلب النبى صلى الله عليه وسلم ، وتثبيت فؤاده ، وتسليته عما يتقوله المشركون من أكاذيب وأباطيل ، وإفهام الداعى إلى الله في كل زمان ومكان أن من الواجب عليه أن يكون قوى القلب في تحمل مهمته ، مطمئن البال على حسن عاقبته ، لا يتأثر بالمخالفة ، ولا يضيق صدره بالإنكار .
وقد فسر صاحب الكشاف الحرج بالشك فقال : { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } أى شك منه كقوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } وسمى الشك حرجا لأن الشاك ضيق الصدر حرجه ، كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه . أى : لا تشك في أنه منزل من الله ، ولا تتحرج من تبليغه ، لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم . فكان ضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له ، فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم " .
وعلى أية حال فإن من فسر الحرج بالضيق راعى مدلول الكلمة الأصلى ومن فسره بالشك راعى الاستعمال المجازى ولذا قال الآلوسى :
قوله تعالى - : { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } أى : شك . وأصله الضيق ، واستعماله في الشك مجاز علاقته اللزوم ، فإن الشاك يعتريه ضيق الصدر ، كما أن المتيقن يعتريه انشرحه وانفساحه " .
ولفظ { كِتَابٌ } يكون مبتدأ إذا جعلنا " ألمص " اسما للسورة ، وإلا كان خبراً لمبتدأ محذوف والتقدير : هذا كتاب . وتنكيره للتفخيم والتعظيم وجملة { أُنزِلَ إِلَيْكَ } صفة له دالة على كمال تعظيم قدره وقدر من أنزل عليه .
وإنما قيل : { أُنزِلَ } ولم يقل أنزله الله وأنزلناه ، للإيذان بأن المنزل مستغن عن التعريف لشرفه وغاية ظهوره .
ثم بين - سبحانه - العلة في إنزال الكتاب فقال : { لِتُنذِرَ بِهِ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ } .
الإنذار : هو الإعلام المقترن بالتخويف من سوء عاقبة المخالفة .
أى : أنزلنا إليك الكتاب لتنذر به قومك وسائر الناس ، وتذكر به أهل الإيمان والطاعة ذكرى نافعة مؤثرة ، لأنهم هم المستعدون لذلك ، وهم المنتفعون بإرشادك .
قال تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } وقال تعالى : { تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } وقال تعالى : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } قال صاحب الكشاف : فما محل ذكرى ؟ قلت يحتمل الحركات الثلاث . النصب بإضمار فعلها . كأنه قيل : لتنذر به وتذكر تذكيرا ، لأن الذكرى اسم بمعنى التذكير ، والرفع عطفا على كتاب ، أو لأنه خبر مبتدأ محذوف . والجر للعطف على محل لتنذر ، أى : للإنذار وللذكر " .
{ كتاب } خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب ، أو خبر { المص } والمراد به السورة أو القرآن . { أُنزل إليك } صفته { فلا يكن في صدرك حرج منه } أي شك ، فإن الشك حرج الصدر أو ضيق قلب من تبليغه مخافة أن تكذب فيه ، أو تقصر في القيام بحقه ، وتوجيه النهي إليه للمبالغة كقولهم لا أرينك ها هنا . والفاء تحتمل العطف والجواب فكأنه قيل : إذا نزل إليك لتنذر به فلا يحرج صدرك . { لتنذر به } متعلق بأنزل أو بلا يكن لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر على الإنذار ، وكذا إذا لم يخفهم أو علم أنه موفق للقيام بتبليغه . { وذكرى للمؤمنين } يحتمل النصب بإضمار فعلها أي : لتنذر وتذكر ذكرى فإنها بمعنى التذكير ، والجر عطفا على محل تنذر والرفع عطفا على كتاب أو خبرا لمحذوف .
وقوله تعالى : { كتاب أنزل إليك } الآية ، قال الفراء وغيره { كتاب } رفع على الخبر للحروف ، كأنه قال هذه الحروف كتاب أنزل إليك ، ورد الزجّاج على هذا القول بما لا طائل فيه ، وقال غيره : { كتاب } رفع على خبر ابتداء مضمر تقديره هذا كتاب و { أنزل إليك } في موضع الصفة ل { كتاب } ، ثم نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبرم أو يستصحب من هذا الكتاب أو بسبب من أسبابه حرجاً ، ولفظ النهي هو للحرج ومعناه للنبي عليه السلام ، وأصل الحرج الضيق ، ومنه الحرجة الشجر الملتف الذي قد تضايق ، و «الحرج » ها هنا يعم الشك والخوف والهم وكل ما يضيق الصدر ، وبحسب سبب الحرج يفسر الحرج ها هنا ، وتفسيره بالشك قلق ، والضمير في { منه } عائد على الكتاب أي بسبب من أسبابه ، و «من » ها هنا لابتداء الغاية ، وقيل يعود على التبليغ الذي يتضمنه معنى الآية ، وقيل على الابتداء .
قال القاضي أبو محمد : وهذا التخصيص كله لا وجه له إذ اللفظ يعم الجهات التي هي من سبب الكتاب ولأجله وذلك يستغرق التبليغ والإنذار وتعرض المشركين وتكذيب المكذبين وغير ذلك .
وقوله تعالى : { فلا يكن في صدرك حرج منه } اعتراض في أثناء الكلام ، ولذلك قال بعض الناس إن فيه تقديماً وتأخيراً ، وقوله { لتنذر } اللام متعلقة ب { أنزل } . وقوله { وذكرى } معناه تذكرة وإرشاد ، و { ذكرى } في موضع رفع عطفاً على قوله { كتاب } . فالتقدير هذه الحروف كتاب وذكرى ، وقيل رفعه على جهة العطف على صفة الكتاب فالتقدير هذه الحروف كتاب منزل إليك وذكرى ، فهي عطف على ( منزل ) داخلة في صفة الكتاب ، وقيل { ذكرى } في موضع نصب بفعل مضمر تقديره لتنذر به وتذكر ذكرى للمؤمنين ، وقيل نصبها على المصدر وقيل { ذكرى } في موضع خفض عطفاً على قوله { لتنذر } أي لإنذارك وذكرى .
ذكرنا في طالعة سورة البقرة أنّ الحروف المقطّعة في أوائل السّور أعقبت بذكر القرآن أو الوحي أو ما في معنى ذلك ، وذلك يرجح أن المقصود من هذه الحروف التّهجي ، إبلاغاً في التّحدي للعرب بالعجز عن الإتيان بمثل القرآن وتخفيفاً للعبء عن النّبيء صلى الله عليه وسلم فتلك جملة مستقلّة وهي هنا معدودة آية ولم تعدّ في بعض السّور .
فقوله : { كتب } مبتدأ ووقع الابتداء ، بالنّكرة إمّا لأنّها أريد بها النّوع لا الفرد فلم يكن في الحكم عليها إبهام وذلك كقولهم : رجلٌ جاءني ، أي لا امرأة ، وتمرة خيرٌ من جرادة ، وفائدة إرادة النّوع الردّ على المشركين إنكارهم أن يكون القرآن من عند الله ، واستبعادهم ذلك ، فذكّرهم الله بأنّه كتاب من نوع الكُتب المنزّلة على الأنبياء ، فكما نزلت صحف إبراهيم وكتاب موسى كذلك نَزَل هذا القرآن ، فيكون تنكير النّوعية لدفع الاستبعاد ، ونظيره قوله تعالى : { قالوا لا تخف خَصْمَان بغى بعضنا على بعض } [ ص : 22 ] فالتّنكير للنّوعيّة .
وإما لأن التّنكير أريد به التّعظيم كقولهم : « شرّ أهَرّ ذَا نَاب » أي شرٌ عظيم . وقول عُوَيْف القوافي :
خَبَرٌ أتَانِي عن عُيَيْنَةَ موجِع *** كادَت عليه تَصَدعّ الأكْبَادُ
أي هو كتاب عظيم تنويهاً بشأنه فصار التنكير في معنى التوصيف .
وإمّا لأنّه أريد بالتّنكير التعجيب من شأن هذا الكتاب في جميع ما حفّ به من البلاغة والفصاحة والإعجاز والإرشاد ، وكونه نازلاً على رجل أمّيّ .
وقوله : { أنزل إليك } يجوز أن يكون صفة ل { كتاب } فيكون مسوغاً ثانياً للابتداء بالنّكرة ويجوز أن يكون هو الخبر فيجُوز أن يكون المقصود من الأخبار تذكير المنكرين والمكابرين ، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يعلمون أنّه أنزل من عند الله ، فلا يحتاجون إلى الإخبار به ، فالخبر مستعمل في التّعريض بتغليط المشركين والمكابرين والقاصدين إغاظة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بالإعراض ، ويجوز أن يكون المقصود من الخبر الامتنان والتّذكير بالنّعمة ، فيكون الخبر مستعملاً في الامتنان على طريقة المجاز المرسل المركب .
ويجوز أن يجعل الخبر هو قوله : { أنزل إليك } مع ما انضمّ إليه من التّفريع والتّعليل ، أي هو كتاب أنزل إليك فكن منشرح الصّدر به ، فإنّه أنزل إليك لتنذر به الكافرين وتذكِّر المؤمنين ، والمقصود : تسكين نفس النّبي صلى الله عليه وسلم وإغاظة الكافرين ، وتأنيس المؤمنين ، أي : هو كتاب أنزل لفائدة ، وقد حصلت الفائدة فلا يكن في صرك حرج إن كذّبوا . وبهذه الاعتبارات وبعدم منافاة بعضها لبعض يحمل الكلام على إرادة جميعها وذلك من مطالع السّور العجيبة البيان .
ومن المفسّرين من قدّروا مبتدأ محذوفاً ، وجعلوا { كتب } خبراً عنه ، أي هذا كتاب ، أي أنّ المشار إليه القرآن الحاضر في الذّهن ، أو المشار إليه السّورة أطلق عليها كتاب ، ومنهم من جعل { كتاب } خبراً عن كلمة { آلمص } [ الأعراف : 1 ] وكلّ ذلك بمعزل عن متانة المعنى .
وصِيغ فعل : { أنزل } بصيغة النائب عن الفاعل اختصاراً ، للعِلم بفاعل الإنزال ، لأنّ الذي يُنزل الكتب على الرّسل هو الله تعالى ، ولما في مادة الإنزال من الإشعار بأنّه من الوحي لملائكة العوالم السّماوية .
والفاء في قوله : { فلا يكن في صدرك } اعتراضية إذ الجملة معترضة بين فعل { أنزل } ومتعلّقة وهو { لتنذر به } ، فإنّ الاعتراض يكون مقترناً بالفاء كما يكون مقترناً بالواو كما في قوله تعالى : { هذا فليذوقوه حميم وغساق } [ ص : 57 ] وقوله : { إن يكن غنياً أو فقيراً فالله أولى بهما فلا تتّبعوا الهوى } [ النساء : 135 ] . وقول الشّاعر وهو من الشّواهد :
اعْلَمْ فعِلْمُ المرء يَنْفَعُه *** أنْ سَوف يأتي كُلّ ما قُدّرا
كقائلة إنّ الحمار فَنَحِّه *** عن القتّ أهلُ السّمسم المُتهذّبِ
وليست الفاء زائدة للاعتراض ولكنّها ترجع إلى معنى التّسبّب ، وإنّما الاعتراض حصل بتقديم جملتها بين شيئين متّصلين مبادرة من المتكلّم بإفادته لأهمّيته ، وأصل ترتيب الكلام هنا : كتاب أنزل إليك لتنذر به وذِكْرَى للمؤمنين فلا يكن في صدرك حرج منه ، وقد ذكَر في « مغني اللّبيب » دخول الفاء في الجملة المعترضة ولم يذكر ذلك في معاني الفاء فتوهّم متوهّمون أنّ الفاء لا تقع في الجملة المعترضة .
والمعنى أنّ الله أنزله إليك لا ليكون في صدرك حرج ، بل لينشرح صدرك به . ولذلك جاء في نفي الحرج بصيغة نَهْي الحرج عن أن يحصل في صدر النّبيء صلى الله عليه وسلم ليكون النّهي نهي تكوين ، بمعنى تكوين النّفي ، عكس أمر التّكوين الذي هو بمعنى تكوين الإثبات . مُثِّلَ تكوين نفي الحرج عن صدره بحالة نهي العاقل المدرِك للخطاب ، عن الحصول في المكان . وجَعَل صاحب « الكشاف » النّهي متوجّهاً في الحقيقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي نهيه عن المبالاة بالمكذّبين بالقرآن ، والغمّ من صنيعهم ، وجعل النّهي في ظاهر اللّفظ متوجّهاً إلى الحرج للمبالغة في التّكليف ، باقتلاعه من أصله على طريقة قول العرب : « لاَ أرَيَنَّكَ ههنا » أي لا تحضر فأراك ، وقولهم : « لا أعْرِفَنَّك تفعل كذا » أي لا تفعلْه فأعرّفَك به ، نهياً بطريق الكناية ، وأيّاً ما كان فالتّفريع مناسب لمعاني التّنكير المفروض في قوله : { كتاب } ، أي فلا يكن في صدرك حرج منه من جهة ما جَرّه نزوله إليك من تكذيب قومك وإنكارهم نزوله ، فلا يكن في صدرك حرج منه من عظم أمره وجلالتِه ، ولا يكن في صدرك حرج منه فإنّه سبب شرح صدرك بمعانيه وبلاغته .
و ( مِنْ ) ابتدائيّة ، أي حرج ينشأ ويسري من جرّاء المذكور ، أي من تكذيب المكذّبين به ، فلمّا كان التّكذيب به من جملة شؤونه ، وهو سبب الحرج ، صح أن يجعل الحرج مسبّباً عن الكتاب بواسطة . والمعنى على تقدير مضاف أي حرج من إنكاره أي إنكار إنزاله من الله .
والحرج حقيقته المكان الضيّق من الغَابات الكثيرة الأشجار ، بحيث يعسر السلوك فيه ، ويستعار لِحالة النّفس عند الحزن والغضب والأسف ، لأنّهم تخيّلوا للغاضب والآسِف ضيقاً في صدره لما وجدوه يعسر منه التّنفّس من انقباض أعْصاب مجاري النفَس ، وفي معنى الآية قوله تعالى : { فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير } [ هود : 12 ] .
و { لتنذر } متعلّق ب { أنزل } على معنى المفعول لأجله ، واقترانه بلام التعليل دون الإتيان بمصدر منصوب لاختلاف فاعل العامل وفاعِل الإنذار . وجعل الإنذار به مقدّماً في التّعليل لأنّه الغرض الأهم لإبطال ما عليه المشركون من الباطل وما يخلفونه في النّاس من العوائد الباطلة التي تُعاني أزالتها من النّاس بعدَ إسلامهم .
{ ذكرى } يجوز أن يكون معطوفاً على { لتنذر به } ، باعتبار انسباكه بمصدر فيكون في محلّ جرّ ، ويجوز أن يكون العطف عطف جملة ، ويكون { ذكرى } مصدراً بدلاً من فعله ، والتّقدير : وذَكِّرْ ذكرى للمؤمنين ، فيكون في محلّ نصب فيكون اعتراضاً .
وحذف متعلّق { تنذر } ، وصرح بمتعلّق { ذكرى } لظهور تقدير المحذوف من ذكر مقابله المذكور ، والتّقدير : لتنذر به الكافرين ، وصرح بمتعلّق الذّكرى دون متعلّق { تنذر } تنويها بشأن المؤمنين وتعريضاً بتحقِير الكافرين تجاه ذكر المؤمنين .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره: هذا القرآن يا محمد في كتاب أنزله الله إليك. ورفع «الكتاب» بتأويل: هذا كتاب.
"فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ منه". يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلا يضق صدرك يا محمد من الإنذار به من أرسلتك لإنذاره به، وإبلاغه من أمرتك بإبلاغه إياه، ولا تشكّ في أنه من عندي، واصبر بالمضي لأمر الله واتباع طاعته فيما كلفك وحَمّلك من عبء أثقال النبوة، كما صبر أولو العزم من الرسل، فإن الله معك. والحرج: هو الضيق في كلام العرب، وقد بينا معنى ذلك بشواهده وأدلته في قوله: "ضَيّقا حَرَجا "بما أغنى عن إعادته... عن ابن عباس، في قوله: "فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ "قال: لا تكن في شك منه...
وهذا الذي ذكرته من التأويل عن أهل التأويل هو معنى ما قلنا في الحرج لأن الشك فيه لا يكون إلا من ضيق الصدر به وقلة الاتساع لتوجيهه وجْهته التي هي وجهته الصحيحة. وإنما اخترنا العبارة عنه بمعنى الضيق، لأن ذلك هو الغالب عليه من معناه في كلام العرب، كما قد بيناه قبل.
"لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى للْمُؤمِنِينَ" يعني بذلك تعالى ذكره: هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد لتنذر به من أمرتك بإنذاره، "وذِكْرى للمُؤْمِنِينَ" وهو من المؤخّر الذي معناه التقديم، ومعناه: كتاب أنزل إليك لتنذر به، وذكرى للمؤمنين، فلا يكن في صدرك حرج منه. وإذا كان معناه كان موضع قوله: "وَذِكْرَى" نصبا بمعنى: أنزلنا إليك هذا الكتاب لتنذر به، وتذكّر به المؤمنين. ولو قيل: معنى ذلك: هذا كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه أن تنذر به وتذكّر به المؤمنين، كان قولاً غير مدفوعة صحته...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
.. {وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} أي عظة لهم وموعظة...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
{فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} معناه: فلا يضيق صدرك خوفاً ألاّ تقوم بحقه.
ثم قال: {لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} فجعله إنذاراً للكافرين وذكرى للمؤمنين ليعود نفعه على الفريقين...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
والخطاب للرسول، والأمة هم المراد.
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
ظاهره النهي، ومعناه نفي الحرج عنه، أي لا يضيقن صدرك أن لا يؤمنوا به، فعليك البلاغ، وليس عليك سوى الإنذار به...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مّنْهُ} أي شك منه، كقوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ} [يونس: 94] وسمى الشك حرجاً، لأن الشاك ضيق الصدر حرجه، كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسحه. أي لا تشكّ في أنه منزل من الله، ولا تحرج من تبليغه، لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم، فكان يضيق صدره من الأداء ولا ينبسط له، فأمّنه الله ونهاه عن المبالاة بهم.
فإن قلت: بم تعلق قوله: {لّتُنذِرَ}؟ قلت: بأنزل، أي أنزل إليك لإنذارك به، أو بالنهي؛ لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم، وكذلك إذا أيقن أنه من عند الله شجعه اليقين على الإنذار؛ لأن صاحب اليقين جسور متوكل على ربه، متكل على عصمته.
فإن قلت؛ فما محل ذكرى؟ قلت: يحتمل الحركات الثلاث. النصب بإضمار فعلها. كأنه قيل: لتنذر به وتذكر تذكيراً لأن الذكرى اسم بمعنى التذكير، والرفع عطفاً على كتاب، أو بأنه خبر مبتدأ محذوف. والجر للعطف على محل أن تنذر، أي للإنذار وللذكرى.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{كتاب أنزل إليك...}... نُهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يبرم أو يستصحب من هذا الكتاب أو بسبب من أسبابه حرجاً، ولفظ النهي هو للحرج ومعناه للنبي عليه السلام، وأصل الحرج الضيق، ومنه الحرجة الشجر الملتف الذي قد تضايق، و «الحرج» ها هنا يعم الشك والخوف والهم وكل ما يضيق الصدر، وبحسب سبب الحرج يفسر الحرج ها هنا، وتفسيره بالشك قلق، والضمير في {منه} عائد على الكتاب أي بسبب من أسبابه، و «من» ها هنا لابتداء الغاية، وقيل يعود على التبليغ الذي يتضمنه معنى الآية، وقيل على الابتداء.
قال القاضي أبو محمد: وهذا التخصيص كله لا وجه له إذ اللفظ يعم الجهات التي هي من سبب الكتاب ولأجله وذلك يستغرق التبليغ والإنذار وتعرض المشركين وتكذيب المكذبين وغير ذلك...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ قَوْلُهُ: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِك حَرَجٌ مِنْهُ} نَهْيٌ فِي الظَّاهِرِ، وَلَكِنَّهُ لِنَفْيِ الْحَرَجِ. وَعَجَبًا لَهُ مَعَ عَمَلٍ يَقَعُ فِي مِثْلِهِ، وَالنَّهْيُ عَن الشَّيْءِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَهُ؛ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ يَنْهَى عَنْ أَشْيَاءَ وَتُوجَدُ، وَيَأْمُرُ بِأَشْيَاءَ فَلَا تُوجَدُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ نَهْيٌ عَنْ حَالِهِ؛ قِيلَ لِمُحَمَّدٍ: {فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِك حَرَجٌ مِنْهُ}، وَأُعِينَ عَلَى امْتِثَالِ النَّهْيِ بِخَلْقِ الْقُدْرَةِ لَهُ عَلَيْهِ؛ كَمَا فَعَلَ بِهِ فِي سَائِرِ التَّكْلِيفَاتِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: الْحَرَجُ هُوَ الضِّيقُ. وَقِيلَ: هُوَ الشَّكُّ. وَقِيلَ: هُوَ التَّبَرُّمُ؛ وَإِلَى الْأَوَّلِ يَرْجِعُ؛ فَإِنْ كَانَ هُوَ الشَّكُّ فَقَدْ أَنَارَ اللَّهُ فُؤَادَهُ بِالْيَقِينِ، وَإِنْ كَانَ التَّبَرُّمُ فَقَدْ حَبَّبَ اللَّهُ إلَيْهِ الدِّينَ، وَإِنْ كَانَ الضِّيقُ فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ قَلْبَهُ بِالْعُلُومِ، وَشَرَحَ صَدْرَهُ بِالْمَعَارِفِ، وَذَلِكَ مِمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ من عُلُومِ الْقُرْآنِ...
... ثم قال تعالى: {لتنذر به} هذه «اللام» بماذا تتعلق؟ فيه أقوال: الأول: قال الفراء: إنه متعلق بقوله: {أنزل إليك} على التقديم والتأخير، والتقدير: كتاب أنزل إليك لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه.
فإن قيل: فما فائدة هذا التقديم والتأخير؟
قلنا: لأن الإقدام على الإنذار والتبليغ لا يتم ولا يكمل إلا عند زوال الحرج عن الصدر، فلهذا السبب أمره الله تعالى بإزالة الحرج عن الصدر، ثم أمره بعد ذلك بالإنذار والتبليغ...
والرابع: تقدير الكلام: أن هذا الكتاب أنزله الله عليك، وإذا علمت أنه تنزيل الله تعالى، فاعلم أن عناية الله معك، وإذا علمت هذا فلا يكن في صدرك حرج، لأن من كان الله حافظا له وناصرا، لم يخف أحدا، وإذا زال الخوف والضيق عن القلب، فاشتغل بالإنذار والتبليغ والتذكير اشتغال الرجال الأبطال، ولا تبال بأحد من أهل الزيغ والضلال والإبطال.
ثم قال: {وذكرى للمؤمنين} قال ابن عباس: يريد مواعظ للمصدقين...
فإن قيل: لم قيد هذه الذكرى بالمؤمنين؟
قلنا: هو نظير قوله تعالى: {هدى للمتقين} والبحث العقلي فيه أن النفوس البشرية على قسمين: نفوس بليدة جاهلة، بعيدة عن عالم الغيب، غريقة في طلب اللذات الجسمانية، والشهوات الجسدانية ونفوس شريفة مشرقة بالأنوار الإلهية مستعدة بالحوادث الروحانية، فبعثة الأنبياء والرسل في حق القسم الأول، إنذار وتخويف، فإنهم لما غرقوا في نوم الغفلة ورقدة الجهالة، احتاجوا إلى موقظ يوقظهم، وإلى منبه ينبههم. وأما في حق القسم الثاني فتذكير وتنبيه، وذلك لأن هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية مستعدة للانجذاب إلى عالم القدس والاتصال بالحضرة الصمدية، إلا أنه ربما غشيها غواش من عالم الجسم، فيعرض لها نوع ذهول وغفلة، فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصل بها أنوار أرواح رسل الله تعالى، تذكرت مركزها وأبصرت منشأها، واشتاقت إلى ما حصل هنالك من الروح والراحة والريحان، فثبت أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب على رسوله ليكون إنذارا في حق طائفة، وذكرى في حق طائفة أخرى، والله أعلم.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
..أي لا يضيق صدرك بالإبلاغ؛ لأنه روي عنه عليه السلام أنه قال: (إني أخاف أن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة) الحديث. خرجه مسلم.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
...لأنّ ما أنزله الله تعالى إليه يناسب أن يسرّ به وينشرح لما فيه من تخصيصه بذلك وتشريفه حيث أهّله لإنزال كتابه عليه وجعله سفيراً بينه وبين خلقه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
...لما ذكر سبحانه في آخر التي قبلها أنه أنزل إليهم كتاباً مباركاً، وأمر باتباعه وعلل إنزاله وذكر ما استتبعه ذلك مما لا بد منه في منهاج البلاغة 5وميدان البراعة، وكان من جملته أن أمر المدعوين به ليس إلا إليه، إن شاء هداهم وإن شاء أضلهم، واستمر فيما لا بد منه في تتميم ذلك إلى أن ختم السورة بما انعطف على ما افتتحت به، فاشتد اعتناقه له حتى صارا كشيء واحد؛ أخذ يستدل على ما ختم به تلك من سرعة العقاب وعموم البر والثواب وما تقدمه، فقال مخبراً عن مبتدأ تقديره: هو {كتاب} أي عظيم أوضح الطريق المستقيم فلم يدع بها لبساً ولم يذر خيراً إلا أمر به ولا شراً إلا نهى عنه، فإنزاله من عظيم رحمته؛ ثم وصفه بما أكد ما أشار إليه من رحمته بقوله: {أنزل إليك} أي وأنت أكرم الناس نفساً وأوسعهم صدراً وأجملهم قلباً وأعرقهم أصالة وأعرفهم باستعطاف المباعد واستجلاب المنافر المباغض، وهذا شيء قد خصك به فرفعك على جميع الخلق درجات لا تحصى ومراتب لا حد لها فتستقصى. ولما كان المقصود من البعثة أولاً النذارة للرد عما هم عليه من الضلال، وكانت مواجهة الناس بالإنذار شديدة على النفوس، وكان الإقدام عليها من الصعوبة بمكان عظيم؛ قدم قوله مسبباً عن تخصيصه بهذه الرحمة: {فلا يكن} وعبر عن القلب بمسكنه الذي هو أوسع منه مبالغة في الأمر فقال: {في صدرك حرج} أي شيء من ضيق بهم أو خوف أو نحو ذلك {منه} على ما تعلق ب "أنزل "من قوله: {لتنذر به} أي نذري لكل من بلغه أو للمخالفين من سرعة العقاب على نحو ما أوقع سبحانه بالقرون الماضية والأمم السابقة -كما أشار إليه آخر الأنعام، و سيقص من أخبارهم من هذه السورة {و} لتنذر به {ذكرى} أي عظيمة {للمؤمنين} أي بالبشر والمواعظ والغفران والرحمة على ما أشار إليه ختام الأنعام،
{فلا يكن في صدرك حرج منه} [الأعراف: 2] أي أنه قد تضمن مما أحلناك عليه ما يرفع الحرج ويسلي النفوس لتنذر به كما أنذر من قبلك ممن نقص خبره من الرسل، ولتستن في إنذارك ودعائك وصبرك سننهم، وليتذكر المؤمنون.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
...وتخصيصُ التذكيرِ بالمؤمنين للإيذان باختصاص الإنذارِ بالكفرة أي لتنذرَ به المشركين وتذكرَ المؤمنين، وتقديمُ الإنذار لأنه أهمُّ بحسب المقام.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ} إذا قيل إن {المص} اسم للسورة، فهو مبتدأ خبره كتاب وإلا فهذا خبر لمبتدأ محذوف تقديره ذلك كتاب، كقوله: ألم ذلك الكتاب: وتنكير كتاب للتعظيم والتفخيم. والمراد به على القول الثاني جملة القرآن المشار إلى بعضه المنزل بالفعل وجملة "أنزل إليك "صفة له دالة على كمال تعظيم قدره وقدر من أنزل إليه، ولذلك سميت الليلة التي كان بدء نزوله فيها بليلة القدر. وإنما قيل: "أنزل" ولم يقل أنزله الله أو أنزلناه إيجازا مؤذنا بأن المنزل مستغن عن التعريف وعن إسناده إلى الضمير أو الاسم الصريح فإن هذا الكتاب البديع لا يمكن أن يكون إلا من فوق ذلك العرش الرفيع.
{فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ} حرج الصدر ضيقه وغمه، وهو من الحرجة التي هي مجتمع الشجر المشتبك الملتف الذي لا يجد السالك فيه سبيلا ينفذ منه، أو الذي لا يقبل الزيادة كما قال الراغب، وقد فسر الحرج هنا بمعناه اللغوي... وقال الراغب في هذه الجملة قيل هي نهي وقيل دعاء وقيل حكم منه نحو {ألم نشرح لك صدرك} (الشرح 1) اه.
والنهي أو الدعاء عن أمر يتعلق بالمستقبل دليل على أنه مظنة الوقوع في نفسه، وبحسب سنن الله ونظام الأسباب في خلقه، والأمر هنا كذلك إلا أن يحول دون وقوعه مانع كعناية الله وتأييده، فإن هذا القرآن أمر عظيم بل هو أعظم شأن بين الله تعالى وبين عباده، وقد كان في أول ما نزل قوله عز وجل: {إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا} (المزمل 5) ثم نزل في تفسيره {لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون} (الحشر 21) وكان ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه الوحي وهو يتفصد عرقا، وكان يكاد يهيم بشدة وقعه وعظم تأثيره حتى كاد يلقى بنفسه من شاهق الجبل، وأي قلب يحتمل وصدر يتسع لكلام الله العظيم ينزل به عليه الروح الأمين إذا لم يتول سبحانه بفضله شرحه وإعانته على حمله وهو ما امتن به على رسوله بقوله {ألم نشرح لك صدرك ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك} (الشرح 1- 3) فهذا وجه مظنة وقوع الحرج بمعناه اللغوي الأصلي بالنسبة إلى الرسول نفسه، وكونه تعالى صرفه عنه بشرحه لصدره، ويصح فيه أن يكون النهي تكوينيا.
وله وجه آخر باعتبار تبليغه إياه فإنه صلى الله عليه وسلم كلف به هداية الثقلين، وإصلاح أهل الخافقين، ومن المتوقع المعلوم بالبداهة أن المتصدي لذلك لا بد أن يلقى أشد الإيذاء والمقاومة، والطعن في كتاب الله، والإعراض عن آيات الله، وهي أسباب لضيق الصدر كما قال تعالى في آخر سورة الحجر: {ولقد نعلم إنك يضيق صدرك بما يقولون} (الحجر 97) وفي آخر سورة النحل بعدها {واصبر وما صبرك إلا بالله ولا تحزن عليهم ولا تك في ضيق مما يمكرون} (النحل 127) ومثله في سورة النمل. وقال تعالى في أوائل سورة هود {فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك؟ إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل} (هود 12) والمراد من النهي عن أمر طبيعي كهذا الاجتهاد في مقاومته والتسلي عنه وبوعد الله والتأسي بمن سبق من رسله عليهم السلام.
فهذان الوجهان الوجيهان من تفسير القرآن بالقرآن ينافيان ما روي من تفسير الحرج بالشك، ويغنيان عما تمحله المفسرون في توجيهه بالتأويل الشبيه بالمحل...
وقوله تعالى: {لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِين} تعليل لإنزال الكتاب، والجملة قبله معترضة بين العلة والمعلول لإفادة أن الإنذار به إنما يكون مطلقا أو على وجه الكمال مع انتفاء الحرج من الصدر، وانشراحه للنهوض بأعباء هذا الأمر. وقيل تعليل للنهي عن الحرج على أن اللام مصدرية كقوله: {يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم} (الصف 8) أي فلا يكن في صدرك حرج منه لأجل الإنذار به لئلا يكذبك الناس، والإنذار: التعليم المقترن بالتخويف من سوء عاقبة المخالفة، وهو يتعدى إلى مفعولين: المنذر والعقاب الذي ينذره أي يخوف من وقوعه به، ومنه قوله: {إنا أنذرناكم عذابا قريبا} (النبأ 40) وقوله: {وينذرونكم لقاء يومكم هذا} (الأنعام 130) والمفعولان يذكران كلاهما تارة ويذكر أحدهما تارة بعد أخرى بحسب المناسبات وقد حذف كل منهما هنا لإفادة العموم حسب القاعدة أي: لتنذر به جميع الناس إذ تبلغهم دين الله وكل ما يتلى عليك في الكتاب من عقابه تعالى لمن يعصي رسله في الدنيا والآخرة، فهو إيجاز بليغ يدل على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم كقوله في سورة الأنعام {ولتنذر أم القرى ومن حولها} (الأنعام 93) وقد صرح بجعل الإنذار عاما لأمة البعثة كافة بقوله: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} (الفرقان 1) وكثيرا ما يوجه إلى الكفار والظالمين لأنهم هم الذين يعاقبون حتما، وقد يُخص به المؤمنون المتقون بأنهم هم المنتفعون به قطعا، كقوله تعالى: {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب} (فاطر 18) وقوله {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب} (يس 11) وقوله: {وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم} (الأنعام 51) الآية.
وأما الذكرى فهي مصدر لذكر الشيء بقلبه وبلسانه... وقال الراغب: والذكرى كثرة الذكر وهو أبلغ من الذكر. اه، ولعله أخذ هذا المعنى من كثرة استعمالها في القرآن بمعنى التذكر النافع والموعظة المؤثرة ولا أذكر أنها استعملت فيه بمعنى ذكر اللسان إلا في قوله تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها؟ فيما أنت من ذكراها} (النازعات 42- 43) ولا بمعنى مطلق التذكر إلا في قوله: {فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين} (الأنعام 68) لأنه في مقابل الإنساء. وقد خصها هنا بالمؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون بالمواعظ كما قال في الذاريات {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين} (الذاريات 55) ومثله في سورة العنكبوت {وذكرى لقوم يؤمنون} (العنكبوت 51) وفي سورة الأنبياء {وذكرى للعابدين} (الأنبياء 84) وفي سورة ص {وذكرى لأولي الألباب} (ص 43) وفي سورة ق {تبصرة وذكرى لكل عبد منيب} (ق 8).
والمراد بالمؤمنين هنا من كتب الله لهم الإيمان سواء كانوا آمنوا عند نزول السورة أم لا. وتقدير الكلام مع ما قبله. أنزل إليك الكتاب لتنذر به قومك وسائر الناس، وتذكر به أهل الإيمان وتعظهم ذكرى نافعة مؤثرة لأنهم هم المستعدون للاهتداء به، أو أنزل إليك للإنذار العام والذكرى الخاصة، أو وهو ذكرى أو حال كونه ذكرى لمن آمنوا ولمن علم الله أنهم يؤمنون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
...كتاب أنزل إليك للإنذار به والتذكير.. كتاب للصدع بما فيه من الحق ولمواجهة الناس بما لا يحبون؛ ولمجابهة عقائد وتقاليد وارتباطات؛ ولمعارضة نظم وأوضاع ومجتمعات. فالحرج في طريقه كثير، والمشقة في الإنذار به قائمة.. لا يدرك ذلك -كما قلنا في التعريف بالسورة- إلا من يقف بهذا الكتاب هذا الموقف؛ وإلا من يعاني من الصدع به هذه المعاناة؛ وإلا من يستهدف من التغيير الكامل الشامل في قواعد الحياة البشرية وجذورها، وفي مظاهرها وفروعها، ما كان يستهدفه حامل هذا الكتاب أول مرة صلى الله عليه وسلم ليواجه به الجاهلية الطاغية في الجزيرة العربية وفي الأرض كلها...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فقوله: {كتب}... ووقع الابتداء، بالنّكرة إمّا لأنّها أريد بها النّوع لا الفرد فلم يكن في الحكم عليها إبهام... وفائدة إرادة النّوع الردّ على المشركين إنكارهم أن يكون القرآن من عند الله، واستبعادهم ذلك، فذكّرهم الله بأنّه كتاب من نوع الكُتب المنزّلة على الأنبياء، فكما نزلت صحف إبراهيم وكتاب موسى كذلك نَزَل هذا القرآن، فيكون تنكير النّوعية لدفع الاستبعاد، ونظيره قوله تعالى: {قالوا لا تخف خَصْمَان بغى بعضنا على بعض} [ص: 22] فالتّنكير للنّوعيّة...
وإمّا لأنّه أريد بالتّنكير التعجيب من شأن هذا الكتاب في جميع ما حفّ به من البلاغة والفصاحة والإعجاز والإرشاد، وكونه نازلاً على رجل أمّيّ.
وقوله: {أنزل إليك} يجوز أن يكون صفة ل {كتاب} فيكون مسوغاً ثانياً للابتداء بالنّكرة ويجوز أن يكون هو الخبر فيجُوز أن يكون المقصود من الأخبار تذكير المنكرين والمكابرين، لأنّ النّبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين يعلمون أنّه أنزل من عند الله، فلا يحتاجون إلى الإخبار به، فالخبر مستعمل في التّعريض بتغليط المشركين والمكابرين والقاصدين إغاظة الرّسول عليه الصّلاة والسّلام بالإعراض، ويجوز أن يكون المقصود من الخبر الامتنان والتّذكير بالنّعمة، فيكون الخبر مستعملاً في الامتنان على طريقة المجاز المرسل المركب.
ويجوز أن يجعل الخبر هو قوله: {أنزل إليك} مع ما انضمّ إليه من التّفريع والتّعليل، أي هو كتاب أنزل إليك فكن منشرح الصّدر به، فإنّه أنزل إليك لتنذر به الكافرين وتذكِّر المؤمنين، والمقصود: تسكين نفس النّبي صلى الله عليه وسلم وإغاظة الكافرين، وتأنيس المؤمنين، أي: هو كتاب أنزل لفائدة، وقد حصلت الفائدة فلا يكن في صرك حرج إن كذّبوا. وبهذه الاعتبارات وبعدم منافاة بعضها لبعض يحمل الكلام على إرادة جميعها وذلك من مطالع السّور العجيبة البيان...
وصِيغ فعل: {أنزل} بصيغة النائب عن الفاعل اختصاراً، للعِلم بفاعل الإنزال، لأنّ الذي يُنزل الكتب على الرّسل هو الله تعالى، ولما في مادة الإنزال من الإشعار بأنّه من الوحي لملائكة العوالم السّماوية...
والمعنى أنّ الله أنزله إليك لا ليكون في صدرك حرج، بل لينشرح صدرك به. ولذلك جاء في نفي الحرج بصيغة نَهْي الحرج عن أن يحصل في صدر النّبيء صلى الله عليه وسلم ليكون النّهي نهي تكوين، بمعنى تكوين النّفي، عكس أمر التّكوين الذي هو بمعنى تكوين الإثبات. مُثِّلَ تكوين نفي الحرج عن صدره بحالة نهي العاقل المدرِك للخطاب، عن الحصول في المكان. وجَعَل صاحب « الكشاف» النّهي متوجّهاً في الحقيقة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أي نهيه عن المبالاة بالمكذّبين بالقرآن والغمّ من صنيعهم، وجعل النّهي في ظاهر اللّفظ متوجّهاً إلى الحرج للمبالغة في التّكليف باقتلاعه من أصله... نهياً بطريق الكناية، وأيّاً ما كان فالتّفريع مناسب لمعاني التّنكير المفروض في قوله: {كتاب}، أي فلا يكن في صدرك حرج منه من جهة ما جَرّه نزوله إليك من تكذيب قومك وإنكارهم نزوله، فلا يكن في صدرك حرج منه من عظم أمره وجلالتِه، ولا يكن في صدرك حرج منه فإنّه سبب شرح صدرك بمعانيه وبلاغته.
و (مِنْ) ابتدائيّة، أي حرج ينشأ ويسري من جرّاء المذكور، أي من تكذيب المكذّبين به، فلمّا كان التّكذيب به من جملة شؤونه، وهو سبب الحرج، صح أن يجعل الحرج مسبّباً عن الكتاب بواسطة. والمعنى على تقدير مضاف أي حرج من إنكاره أي إنكار إنزاله من الله.
والحرج حقيقته المكان الضيّق من الغَابات الكثيرة الأشجار، بحيث يعسر السلوك فيه، ويستعار لِحالة النّفس عند الحزن والغضب والأسف، لأنّهم تخيّلوا للغاضب والآسِف ضيقاً في صدره لما وجدوه يعسر منه التّنفّس من انقباض أعْصاب مجاري النفَس، وفي معنى الآية قوله تعالى: {فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير} [هود: 12].
و {لتنذر} متعلّق ب {أنزل} على معنى المفعول لأجله، واقترانه بلام التعليل دون الإتيان بمصدر منصوب لاختلاف فاعل العامل وفاعِل الإنذار. وجعل الإنذار به مقدّماً في التّعليل لأنّه الغرض الأهم لإبطال ما عليه المشركون من الباطل وما يخلفونه في النّاس من العوائد الباطلة التي تُعاني أزالتها من النّاس بعدَ إسلامهم.
{ذكرى} يجوز أن يكون معطوفاً على {لتنذر به}، باعتبار انسباكه بمصدر فيكون في محلّ جرّ، ويجوز أن يكون العطف عطف جملة، ويكون {ذكرى} مصدراً بدلاً من فعله، والتّقدير: وذَكِّرْ ذكرى للمؤمنين، فيكون في محلّ نصب فيكون اعتراضاً.
وحذف متعلّق {تنذر}، وصرح بمتعلّق {ذكرى} لظهور تقدير المحذوف من ذكر مقابله المذكور، والتّقدير: لتنذر به الكافرين، وصرح بمتعلّق الذّكرى دون متعلّق {تنذر} تنويها بشأن المؤمنين وتعريضاً بتحقِير الكافرين تجاه ذكر المؤمنين.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
...قال تعالى: (وذكرى للمؤمنين) والذكرى هي التذكير الدائم، فهذا الأمر ذكرى لكذا، أي مذكر دائم مستمر يرجعون إليه، والقرآن ذكرى دائمة فيه التذكير الدائم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، وفيه تذكير بالشريعة لأن فيه كلياتها، وفيه تذكير بالرسل أجمعين لأنه سجل معجزاتهم، وفيه تذكير دائم بالله تعالى وهو العلي الحكيم، وفيه الأوامر والنواهي...
..وساعة تسمع "أنزل "فافهم أنه جاء من جهة العلو أي أن التشريع من أعلى. وقال بعض العلماء: وهل يوجد في صدر رسول الله حرج؟. لننتبه أنه ساعة يأتي أمر من ربنا ويوضح فيه {فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ}، فالنهي ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما النهي للحرج أو الضيق أن يدخل لرسول الله، وكأنه سبحانه يقول: يا حرج لا تنزل قلب محمد.
وقوله سبحانه: {فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} قد جاء لأمر من اثنين: إما أن يكون الأمر للحرج إلا يسكن صدر رسول الله، وإما أن يكون الأمر للرسول طمأنة له وتسكينا، أي لا تتضايق لأنه أنزل إليك من إله، وهل ينزل الله عليك قرآنا ليصبح منهج خلقه وصراطا مستقيما لهم، ثم يسلمك إلى سفاهة هؤلاء؟ لا، لا يمكن، فاطمئن تماما...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(كتابٌ أُنزِلَ إِلَيكَ فلا يكن في صدرك حَرَجٌ منه).
و«الحرج» في اللغة يعني الشعور بالضيق وأي نوع من أنواع المعاناة، والحرج في الأصل يعني مجتمع الشجر الملتفّ أوّلا ثمّ المنتشر، وهو يُطلق على كل نوع من أنواع الضيق.
إنَّ العبارة الحاضرة تسلّي النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وتطمئن خاطره بأنّ هذه الآيات نازلة من جانب الله تعالى فيجب أن لا يشعر (صلى الله عليه وآله وسلم) بأيّ ضيق وحرج، لا من ناحية ثقل الرسالة الملقاة على عاتقه، ولا من ناحية ردود فعل المعارضين والأعداء الألدّاء تجاه دعوته، ولا من ناحية النتيجة المتوقعة من تبليغه ودعوته.
هذا ويمكن إِدراك المشكلات التي كانت تعرقل حركة النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إِدراكاً كاملا إذا عرفنا أن هذه السورة من السور المكّية، ونحن وإِن كنّا نعجز عن تصوّر جميع الجزئيات والتفاصيل المرتبطة بحياة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وصحبه في المحيط المكي، وفي مطلع الدّعوة الإِسلامية، ولكن مع الالتفات إلى حقيقة أن النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان عليه أن يقوم بنهضة ثورية في جميع المجالات والأصعدة في تلك البيئة المتخلفة جداً وفي مدّة قصيرة، يمكن أن نتصور على نحو الإجمال أبعاد وأنواع الصعاب التي كانت تنتظره.
وعلى هذا الأساس يكون من الطبيعي أن يعمد الله سبحانه إلى تسلية النّبي وتطمينه بأن لا يشعر بالضيق والحرج، وأنّ يطمئنَّ إلى نتيجة جهوده.
ثمّ يضيف تعالى في الجملة اللاحقة أن الهدف من نزول هذا الكتاب العزيز هو إِنذار الناس وتحذيرهم من عواقب نواياهم وأعمالهم الشريرة، وتذكير المؤمنين الصادقين، إذا يقول: (لتنذر به وذكرى للمؤمنين) 173.
هذا ومجيء قضية «الإِنذار» في صورة الأمر العام الموجّه للجميع، واختصاص «التذكير» بالمؤمنين خاصّة، إِنّما هو لأجل أنَّ الدعوة إلى الحق، ومكافحة الانحرافات يجب أن تتمّ بصورة عامّة وشاملة، ولكن من الواضح أنّ المؤمنين هم وحدهم الذين ينتفعون بهذه الدعوة، أُولئك الذين تتوفر لديهم أرضيات مستعدّة لقبول الحق، وقد أبعدوا عن أنفسهم روح العناد واللجاج وسلّموا أمام الحقائق.