المسألة الثانية : احتج القائلون بخلق القرآن بقوله : { كتاب أنزل إليك } قالوا إنه تعالى وصفه بكونه منزلا ، والإنزال يقتضي الانتقال من حال إلى حال ، وذلك لا يليق بالقديم ، فدل على أنه محدث .
وجوابه : أن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز هو هذه الحروف ، ولا نزاع في كونها محدثة مخلوقة ، والله أعلم .
فإن قيل : فهب أن المراد منه الحروف ، إلا أن الحروف أعراض غير باقية ، بدليل أنها متوالية ، وكونها متوالية يشعر بعدم بقائها ، وإذا كان كذلك ، فالعرض الذي لا يبقى زمانين ، كيف يعقل وصفه بالنزول ؟
والجواب : أنه تعالى أحدث هذه الرقوم والنقوش في اللوح المحفوظ ، ثم إن الملك يطالع تلك النقوش ، وينزل من السماء إلى الأرض ، ويعلم محمدا تلك الحروف والكلمات ، فكان المراد بكون تلك الحروف نازلة ، هو أن مبلغها نزل من السماء إلى الأرض بها .
المسألة الثالثة : الذين أثبتوا لله مكانا تمسكوا بهذه الآية فقالوا : إن كلمة «من » لابتداء الغاية . وكلمة «إلى » لانتهاء الغاية . فقوله : { أنزل إليك } يقتضي حصول مسافة مبدؤها هو الله تعالى وغايتها محمد ، وذلك يدل على أنه - تعالى- مختص بجهة فوق ، لأن النزول هو الانتقال من فوق إلى أسفل .
وجوابه : لما ثبت بالدلائل القاهرة أن المكان والجهة على الله تعالى محال وجب حمله على التأويل الذي ذكرناه ، وهو أن الملك انتقل به من العلو إلى أسفل .
ثم قال تعالى : { فلا يكن في صدرك حرج منه } وفي تفسير الحرج قولان : الأول : الحرج الضيق ، والمعنى : لا يضيق صدرك بسبب أن يكذبوك في التبليغ . والثاني : { فلا يكن في صدرك حرج منه } أي شك منه ، كقوله تعالى : { فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك } وسمي الشك حرجا ، لأن الشاك ضيق الصدر حرج الصدر ، كما أن المتيقن منشرح الصدر منفسح القلب .
ثم قال تعالى : { لتنذر به } هذه «اللام » بماذا تتعلق ؟ فيه أقوال : الأول : قال الفراء : إنه متعلق بقوله : { أنزل إليك } على التقديم والتأخير ، والتقدير : كتاب أنزل إليك لتنذر به فلا يكن في صدرك حرج منه .
فإن قيل : فما فائدة هذا التقديم والتأخير ؟
قلنا : لأن الإقدام على الإنذار والتبليغ لا يتم ولا يكمل إلا عند زوال الحرج عن الصدر ، فلهذا السبب أمره الله تعالى بإزالة الحرج عن الصدر ، ثم أمره بعد ذلك بالإنذار والتبليغ . الثاني : قال ابن الأنباري : اللام ههنا بمعنى : كي . والتقدير : فلا يكن في صدرك شك كي تنذر غيرك . الثالث : قال صاحب «النظم » : اللام ههنا : بمعنى : أن . والتقدير : لا يضق صدرك ولا يضعف عن أن تنذر به ، والعرب تضع هذه اللام في موضع «أن » قال تعالى :
{ يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } وفي موضع أخر { يريدون ليطفئوا } وهما بمعنى واحد . والرابع : تقدير الكلام : أن هذا الكتاب أنزله الله عليك ، وإذا علمت أنه تنزيل الله تعالى ، فاعلم أن عناية الله معك ، وإذا علمت هذا فلا يكن في صدرك حرج ، لأن من كان الله حافظا له وناصرا ، لم يخف أحدا ، وإذا زال الخوف والضيق عن القلب ، فاشتغل بالإنذار والتبليغ والتذكير اشتغال الرجال الأبطال ، ولا تبال بأحد من أهل الزيغ والضلال والإبطال .
ثم قال : { وذكرى للمؤمنين } قال ابن عباس : يريد مواعظ للمصدقين . قال الزجاج : وهو اسم في موضع المصدر . قال الليث : ( الذكرى ) اسم للتذكرة ، وفي محل ذكرى من الإعراب وجوه قال الفراء : يجوز أن يكون في موضع نصب على معنى : لتنذر به ولتذكر ، ويجوز أن يكون رفعا بالرد على قوله : { كتاب } والتقدير : كتاب حق وذكرى ، ويجوز أيضا أن يكون التقدير ، وهو ذكرى ، ويجوز أن يكون خفضا ، لأن معنى تنذر به ، لأن تنذر به فهو في موضع خفض ، لأن المعنى للإنذار والذكرى .
فإن قيل : لم قيد هذه الذكرى بالمؤمنين ؟
قلنا : هو نظير قوله تعالى : { هدى للمتقين } والبحث العقلي فيه أن النفوس البشرية على قسمين : نفوس بليدة جاهلة ، بعيدة عن عالم الغيب ، غريقة في طلب اللذات الجسمانية ، والشهوات الجسدانية ونفوس شريفة مشرقة بالأنوار الإلهية مستعدة بالحوادث الروحانية ، فبعثة الأنبياء والرسل في حق القسم الأول ، إنذار وتخويف ، فإنهم لما غرقوا في نوم الغفلة ورقدة الجهالة ، احتاجوا إلى موقظ يوقظهم ، وإلى منبه ينبههم . وأما في حق القسم الثاني فتذكير وتنبيه ، وذلك لأن هذه النفوس بمقتضى جواهرها الأصلية مستعدة للانجذاب إلى عالم القدس والاتصال بالحضرة الصمدية ، إلا أنه ربما غشيها غواش من عالم الجسم ، فيعرض لها نوع ذهول وغفلة ، فإذا سمعت دعوة الأنبياء واتصل بها أنوار أرواح رسل الله تعالى ، تذكرت مركزها وأبصرت منشأها ، واشتاقت إلى ما حصل هنالك من الروح والراحة والريحان ، فثبت أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب على رسوله ليكون إنذارا في حق طائفة ، وذكرى في حق طائفة أخرى ، والله أعلم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.