اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{كِتَٰبٌ أُنزِلَ إِلَيۡكَ فَلَا يَكُن فِي صَدۡرِكَ حَرَجٞ مِّنۡهُ لِتُنذِرَ بِهِۦ وَذِكۡرَىٰ لِلۡمُؤۡمِنِينَ} (2)

قال مُجَاهِدٌ : " شكٌّ{[15713]} ، والخِطَابُ للرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم والمرادُ به الأمة ، ويُسَمَّى الشكُّ حَرَجاً ؛ لأن الشَّاكَّ ضَيِّقُ الصَّدْرِ كما أن المتيقن منشرح{[15714]} القَلْبِ " .

وقال أبُو العالية رحمه الله عليه ، حَرَجٌ : ضِيقٌ{[15715]} ، والمعنى : لا يَضِيقُ صدركَ بسبب أن يكذِّبُوكَ في التَّبْلِيعِ .

قال الكيا : فظاهرُهُ النَّهْي ومعناه : نَفْيُ الحَرَج عنه صلى الله عليه وسلم أي : لا يضيقُ صَدْرُكَ ألاَّ يؤمنوا به فإنَّما عليك منه البلاغ وليس عليك سوى الإنْذَارِ به ، ومثله قوله عزَّ وجلَّ : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] .

قوله : " مِنْهُ " متعلق ب " حَرَجٌ " . و " مِنْ " سببيَّةٌ أي حرج بسببه تقول : حَرِجْتُ منه أي : ضقْتُ بسببه ، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنَّهُ صفةٌ له أي : حَرَجٌ كَائِنٌ وصادر منه ، والضَّمِيرُ في " مِنْهُ " يجوز أن يعود على الكِتابِ وهو الظَّاهِرُ ، ويجوزُ أن يعود على الإنزالِ المدلول عليه ب " أُنْزِلَ " ، أو عَلى الإنذارِ ، أو على التَّبْليغِ المدلُولِ عليهما بسياق الكلامِ ، أو على التَّكْذِيبِ الَّذِي تضمنه المعنى ، والنهي في الصُّورةِ للحَرَج ، والمرادُ الصَّادِرُ منه مبالغةً في النَّهْيِ عن ذلك كأنَّهُ قيل : لا تتعاطى أسباباً ينشأ عنها حرج ، وهو من باب " لا أرَيَنَّكَ ههنا " ، النهي متوجه على المتكلم والمراد به المخاطب كأنه قال : لا تكن بحضرتي فأراك ومثله : { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا } [ طه : 16 ] .

قوله : " لتُنْذِرَ بِهِ " في متعلق هذا " اللاَّم " ثلاثة أوجه .

أحده : أنَّها متعلِّقة ب " أنْزلَ " أي : أنْزِلَ إليك للإنذار ، وهذا قول الفرَّاء{[15716]} قال : اللاَّم في " لِتُنْذِرَ " منظومٌ بقوله : " أُنْزِلَ " على التَّقْديمِ والتَّأخِير ، على تقدير : كتاب " أُنْزِلَ إليك لِتُنْذِرَ بِهِ فلا يَكُنْ " . وتبعه الزَّمَخْشَرِيُّ{[15717]} والحُوفِيُّ ، وأبُو البقاءِ{[15718]} على ذلك ، وعلى هذا تَكُونُ جُمْلَةُ النَّهْي معترِضَةً بَيْنَ العِلَّة ومعلولها ، وهو الذي عناه الفرَّاءُ بقوله : " على التَّقْدِيم والتَّأخير " .

والثاني : أنَّ اللامَ متعلِّقةٌ بما تعلَّقَ به خَبَرُ " الكَوْنِ " إذ التقدير : فلا يكن حَرَجٌ مستقراً في صَدْرِكَ لأجْلِ الإنْذَارِ . كذا قاله أبو حيَّان{[15719]} عن الأنْبَارِيِّ ، فإنَّهُ قال : " وقال ابْنُ الأنْبَارِيّ : التقدير : فلا يكن في صدرك حرجٌ منه كي تُنْذِرَ بِهِ فجعله متعلقاً بما تعلَّق به " في صَدْرِكَ " ، وكذا علَّقه به صاحبُ " النَّظْمِ " ، فعلى هذا لا تكون الحملة معترضة " .

قال شهابُ الدِّين{[15720]} : الذي نقله الواحديُّ عن نصِّ ابْنِ الأنباريِّ في ذلك أن " اللاَّمَ " متعلِّقةٌ ب " الكون " ، وعن صاحب " النَّظْمِ " أنَّ اللاَّمَ بمعنى " أنْ " وسنأتي بنصَّيْهما إن شاء الله تعالى ، فيجوز أن يكون لهما كلامان .

الثالث : أنَّها متعلِّقةٌ بنفس الكَوْنِ ، وهو مَذْهَبُ ابن الأنْبَارِيِّ والزَّمَخْشَرِيِّ ، وصاحب " النَّظْمِ " على ما نقله أبُو حيَّان{[15721]} .

قال أبُو بَكْرِ بْن الأنْبَارِيِّ : ويجوزُ أن تكون اللاَّمُ صلةً للكون على معنى : " فلا يَكُن في صَدْرِكَ شيء لتنذر ، كما يقول الرجُلُ للرَّجُل لا تكن ظالماً لتقضي صاحبك دينه فتحمل لام كي على الكون " .

وقال الزَّمَخْشَريُّ{[15722]} : فإن قُلْتَ : بِمَ تعلَّق به " لِتُنْذِرُ " ؟ قُلْتُ : ب " أُنزل " أي : أنزل لإنذارك به ، أو بالنَّهي ؛ لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم ، وكذا إذا علم أنَّهُ من عند الله شجعه اليقين على الإنْذَارِ .

قال أبُو حيَّان{[15723]} : " فقوله : بالنَّهْي ظاهره أنَّهُ يتعلَّقُ بفعل النهي فيكونُ متعلقاً بقوله : " فَلاَ يَكُنْ " ، وكان في تعليق المجرور والعمل في الظَّرْفِ فيه خلاف ، وَمَبْنَاهُ على أنَّ " كان " النَّاقِصَة هل تدل على حدثٍ أم لا ؟

فمن قال : إنَّهَا تدلُّ على الحدثِ جوَّزَ ذلك ، ومن قال : لا تَدُلُّ عليه منعه " .

قال شهابُ الدِّين{[15724]} : الزَّمَخْشَرِيُّ{[15725]} مسبوق إلى هذا الوجه ، بل ليس في عبارته ما يدلُّ على أنَّهُ متعلق ب " يَكُونُ " بل قال " بالنَّهْي " فقد يريدُ بما تضمَّنه من المعنى ، وعلى تقدير ذلك فالصَّحيحُ أنَّ الأفعالَ النَّاقِصَةَ كلَّهَا لها دلالةٌ على الحدثِ إلاَّ " لَيْسَ " ، وقد أقمت على ذلك أدلَّةً وأتيتُ من أقوالِ النَّاسِ بما يَشْهَدُ لصحَّةِ ذلك كقولِ سيبويه{[15726]} ، وغيره في غير هذا المَوْضُوعِ .

وقال صاحبُ " النَّظْم " : وفيه وجهٌ آخرُ ، وهو أن تكون اللاَّمُ بمعنى أنْ والمعنى : لا يضيقُ صَدْرُكَ ولا يَضْعُفْ [ عن ] أن تُنْذِرَ به ، والعربُ تضعُ هذه اللام في موضع " أنْ " كقوله تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله } [ التوبة : 32 ] وفي موضع آخر : { لِيُطْفِئُواْ } [ الصف : 8 ] فهما بمعنى واحد .

قال شهابُ الدِّين{[15727]} : هذا قولٌ ساقطٌ جدّاً ، كيف يكون حرفُ مختص بالأفعال يقع موضع آخر مختص بالسماء ؟

قوله : " وَذِكْرَى " يجوزُ أن يكون في محلِّ رَفْعٍ ، أو نَصْبٍ ، أو جَرٍّ .

فالرَّفْعُ من وجهين ، أحدهما : أنها عطف على " كِتَابٌ " أي : كتابٌ وذكرى أي : تَذْكِيرٌ ، فهي اسم مَصْدَرٍ وهذا قول الفرَّاءِ{[15728]} .

والثاني من وجهي الرَّفْع : أنَّهَا خبر مُبتدأ مُضْمرٍ أي : هو ذكرى ، وهذا قولُ الزَّجَّاج{[15729]} .

والنَّصْبُ من ثلاثة أوْجُهٍ :

أحدها : أنَّهُ منصوبٌ على المصدر بفعل من لَفْظِهِ تَقْديرُهُ : وتذكر ذكرى أي تَذْكِيراً .

الثاني : [ أنها ] في محلِّ نَصْبٍ نَسَقاً على مَوْضِع " لِتُنْذِرَ " فإن موضعه نصب ، فيكونُ إذْ ذاكَ معطُوفاً على المَعْنَى ، وهذا كما تعطفُ الحال الصريحة على الحالِ المؤوَّلة كقوله تعالى : { دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً } [ يونس : 12 ] ، ويكونُ حينئذٍ مفعولاً من أجْلِهِ كما نقُولُ : " جِئْتُكَ لِتُكْرمَنِي وإحْسَاناً إليَّ " .

الثالث : قال أبُو البقاء{[15730]} : - وبه بَدَأ - : " إنَّها حال من الضمير في " أنزل " وما بينهما مُعْتَرِضٌ " . وهذا سَهْوٌ فإنَّ " الواو " مانعة من ذلك ، وكيف تَدْخُلُ الواوُ على حالٍ صريحةٍ ؟ والجرُّ من وجهين أيضاً .

أحدهما : العطفُ على المَصْدَرِ [ المُنْسَبِك من " أنْ " المقدَّرة بعد لام كي ، والفعل ، والتَّقديرُ : للإنْذَارِ والتَّذْكِيرِ .

والثاني : العطفُ ] على الضَّميرِ في " بِهِ " ، وهذا قول الكُوفيِّين ، والذي حسَّنَهُ كون " ذِكْرَى " في تقدير حرفٍ مصدريٍّ - وهو " أنْ " - والفعل لو صرح ب " أنْ " لحسُنَ معها حذفُ حرفِ الجرِّ ، فهو أحْسَنُ من " مررتُ بِكَ وَزَيْدٍ " إذ التَّقْديرُ : لأن تنذر به وبأن تُذَكِّر .

وقوله : " لِلمُؤمِنِيْنَ " يجوز أن تكون " اللاَّمُ " مزيدةً في المفعولِ به تقويةً له ؛ لأنَّ العاملَ فَرْعٌ ، والتقديرُ : وتذكِّرَ المُؤمنينَ .

ويجوزُ أنْ يتعلَّقَ بمحذُوفٍ ؛ لأنَّهُ صِفَةٌ ل " ذِكْرَى " .

فصل في معنى الآية

قال ابْنُ عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - يريدُ مَوْعِظَةً للمصدِّقين{[15731]} .

فإن قيل : لم قيَّد هذه الذِّكْرَى بالمؤمنين ؟

فالجوابُ : هو نَظِيرُ قوله : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] .

قال ابْنُ الخَطيب{[15732]} : والبَحْثُ العقلِيُّ فيه أنَّ النُّفُوس البشريَّةَ على قِسْمَيْنِ : بَلِيدةٌ جَاهِلَةٌ بعِيدَةٌ عن عَالمِ الغَيْبِ غَريقَةٌ في طلب اللَّذَّاتِ الجُسْمَانِيَّةِ ، ونفوسٌ شريقةٌ مشرقةٌ بأنوار الإلهيَّةِ ، فبعثه الأنبياء في حق القسم الأول للإنْذَارِ والتَّخْوِيفِ فإنَّهُم لمَّا غرقوا في نومِ الغَفْلَةِ ورَقْدَةِ الجَهالةِ احْتَاجُوا إلى مُوقِظٍ يُقِظُهُمْ .

وأمَّا في حقِّ القسم الثَّانِي فتذكير وتنبيه ؛ لأنه ربما غَشِيَهَا من غَوَاشِي عالم الجِسْمِ فيعرضُ لها نوعُ ذُهُولٍ وغَفْلَةٍ ، فإذا سَمِعَتْ دعوةَ الأنبياء واتَّصل لها أنوارُ أرواحِ رُسُلَ اللَّهِ ؛ تَذكَّرَتْ مركزَهَا ؛ فثبت أنَّهُ تعالى إنَّمَا أنزلَ هذا الكتاب على رَسُولِه ؛ ليكونَ إنذاراً في حقِّ طائفةٍ ، وذكرى في حقِّ طائفة أخْرَى .


[15713]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (5/425) عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/126) عن ابن عباس وعزاه لعبد بن حميد وابن أبي حاتم.
[15714]:في الرازي متقح.
[15715]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/126) وعزا ه لأبي الشيخ عن الضحاك.
[15716]:ينظر: معاني القرآن للفراء 1/370.
[15717]:ينظر: الكشاف 2/86.
[15718]:ينظر: الإملاء 1/267.
[15719]:ينظر: البحر المحيط 4/267.
[15720]:ينظر: الدر المصون 3/230.
[15721]:ينظر: البحر المحيط 4/267.
[15722]:ينظر: الكشاف 2/86.
[15723]:ينظر: البحر المحيط 4/267.
[15724]:ينظر: الدر المصون 3/230.
[15725]:ينظر: الكشاف 2/86.
[15726]:ينظر: الكتاب 1/21.
[15727]:ينظر: الدر المصون 3/230.
[15728]:ينظر: معاني القرآن 1/370.
[15729]:ينظر: الزجاج 2/348.
[15730]:ينظر: الإملاء 1/268.
[15731]:ذكره الفخر الرازي في "التفسير الكبير" (14/15) عن ابن عباس.
[15732]:ينظر: الفخر الرازي 14/15.