قوله تعالى : { ارجعوا إلى أبيكم } ، يقوله الأخ المحتبس بمصر لإخوته ارجعوا إلى أبيكم ، { فقولوا يا أبانا إن ابنك } ، بنيامين ، { سرق } . قرأ ابن عباس و الضحاك سرق بضم السين وكسر الراء وتشديدها ، يعني : نسب إلى السرقة ، كما يقال خونته إلى نسبته إلى الخيانة . { وما شهدنا إلا بما علمنا } يعني : ما قلنا هذا إلا بما علمنا ، فإنا رأينا إخراج الصاع من متاعه . وقيل : معناه : وما شهدنا أي : ما كانت منا شهادة في عمرنا على شيء إلا بما علمنا ، وليست هذه شهادة منا إنما هو خبر عن صنيع ابنك بزعمهم . وقيل : قال لهم يعقوب عليه السلام : ما يدري هذا الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته إلا بقولكم ، فقالوا : وما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا ، وكان الحكم ذلك عند الأنبياء ، يعقوب وبنيه .
قوله تعالى : { وما كنا للغيب حافظين } ، قال مجاهد وقتادة : ما كنا نعلم أن ابنك سيسرق ويصير أمرنا إلى هذا ولو علمنا ذلك ما ذهبنا إليه ، وإنما قلنا ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه من سبيل . وعن ابن عباس : ما كنا لليله ونهاره ومجيئه وذهابه حافظين . وقال عكرمة : وما كنا للغيب حافظين فلعلها دست بالليل في رحله .
ثم وصَّاهم بما يقولون لأبيهم ، فقال : { ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ } أي : وأخذ بسرقته ، ولم يحصل لنا أن نأتيك به ، مع ما بذلنا من الجهد في ذلك . والحال أنا ما شهدنا بشيء لم نعلمه ، وإنما شهدنا بما علمنا ، لأننا رأينا الصواع استخرج من رحله ، { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } أي : لو كنا نعلم الغيب لما حرصنا وبذلنا المجهود في ذهابه معنا ، ولما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا ، فلم نظن أن الأمر سيبلغ ما بلغ .
ثم واصل كبيرهم حديثه معهم فقال : { ارجعوا } يا إخوتى { إلى أَبِيكُمْ } يعقوب { فَقُولُواْ } له برفق وتلطف .
{ ياأبانا إِنَّ ابنك } بنيامين { سرق } صواع الملك ، ووجد الصواع في رحله وقولا له أيضاً : إننا { وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا } أى : وما شهدنا على أخينا بهذه الشهادة إلا على حسب علمنا ويقيننا بأنه سرق .
{ وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } أى : وما كنا نعلم الغيب بأنه سيسرق صواع الملك ، عندما أعطيناك عهودنا ومواثيقنا بأن نأتيك به معنا إلا أن يحاط بنا .
يخبر تعالى عن إخوة يوسف : أنهم لما يئسوا من تخليص أخيهم بنيامين ، الذي قد التزموا لأبيهم برده إليه ، وعاهدوه على ذلك ، فامتنع عليهم ذلك ، { خَلَصُوا } أي : انفردوا عن الناس { نَجِيًّا } يتناجون فيما بينهم .
{ قَالَ كَبِيرُهُمْ } وهو رُوبيل ، وقيل : يهوذا ، وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عندما همّوا بقتله ، قال لهم : { أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ } لتردنَّه إليه ، فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه ، { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرْضَ } أي : لن أفارق هذه البلدة ، { حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي } في الرجوع إليه راضيًا عني ، { أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي } قيل : بالسيف . وقيل : بأن يمكنني من أخذ أخي ، { وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ } {[15250]} .
ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع ، حتى يكون عذرا لهم عنده ويتنصلوا إليه ، ويبرءوا مما وقع بقولهم .
وقوله : { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } قال عكرمة وقتادة : ما [ كنا ]{[15251]} نعلم أن ابنك سرق{[15252]} .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : ما علمنا في الغيب أنه يسرق{[15253]} له شيئا ، إنما سألنا{[15254]} ما جزاء السارق ؟
{ وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا } قيل : المراد مصر . قاله قتادة ، وقيل : غيرها ، { وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا } أي : التي رافقناها ، عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا ، { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } فيما أخبرناك به ، من أنه سرق وأخذوه بسرقته .
{ ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق } على ما شاهدناه من ظاهر الأمر . وقرئ { سرق } أي نسب إلى السرقة . { وما شهدنا } عليه . { إلا بما علمنا } بأن رأينا أن الصواع استخرج من وعائه . { وما كنا للغيب } لباطن الحال . { حافظين } فلا ندري أنه سرق الصواع في رحله ، أو وما كنا للعواقب عالمين فلم ندر حين أعطيناك الموثق أنه سيسرق ، أو أنك تصاب به كما أصبت بيوسف .
ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ( 81 ) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ( 82 ) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ( 83 )
الأمر بالرجوع قيل : هو من قول كبيرهم ، وقيل : بل هو من قول يوسف لهم ، والأول أظهر .
وقرأ الجمهور «سرقَ » على تحقيق السرقة على بنيامين ، بحسب ظاهر الأمر . وقرأ ابن عباس وأبو رزين «سُرِّق » بضم السين وكسر الراء وتشديدها{[6779]} ، وكأن هذه القراءة فيها لهم تحر ، ولم يقطعوا عليه بسرقة ، وإنما أرادوا جعله سارقاً بما ظهر من الحال - ورويت هذه القراءة عن الكسائي - وقرأ الضحاك : «إن ابنك سارقٌ » بالألف وتنوين القاف ، ثم تحروا بعد - على القراءتين - في قولهم { وما شهدنا إلا بما علمنا } أي وقولنا لك : { إن ابنك سرق } إنما هي شهادة عندك بما علمناه من ظاهر ما جرى ، والعلم في الغيب إلى الله ، ليس في ذلك حفظنا ، هذا قول ابن إسحاق ، وقال ابن زيد : قولهم : { ما شهدنا إلا بما علمنا } أرادوا به : وما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترقّ في شرعك إلا بما علمنا من ذلك ، { وما كنا للغيب حافظين } أن السرقة تخرج من رحل أحدنا ، بل حسبنا أن ذلك لا يكون البتة ، فشهدنا عنده حين سألنا بعلمنا .
وقرأ الحسن «وما شهدنا عليه إلا بما علمنا » بزيادة «عليه » .
ويحتمل قوله : { وما كنا للغيب حافظين } أي حين واثقناك ، إنما قصدنا ألا يقع منا نحن في جهته شيء يكرهه ، ولم نعلم الغيب في أنه سيأتي هو بما يوجب رقه .
وروي أن معنى قولهم : { للغيب } أي الليل ، الغيب : الليل - بلغة حمير - فكأنهم قالوا : وما شهدنا عندك إلا بما علمناه من ظاهر حاله ، وما كنا بالليل حافظين لما يقع من سرقته هو أو التدليس عليه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق}، يعني بنيامين، {وما شهدنا إلا بما علمنا}، يعني رأينا الصواع حين أخرج من متاعه، {وما كنا للغيب حافظين} يعني: وما كنا نرى أنه يسرق، ولو علمنا ما ذهبنا به معنا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
...ارْجِعُوا إخوتي إلى أبِيكُمْ يعقوب فَقُولُوا له "يا أبانَا إنّ ابْنكَ "بنيامين "سَرَقَ"... "وَما شَهِدْنا إلاّ بِمَا عَلِمْنا"؛ واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: معناه: وما قلنا إنه سَرَق إلاّ بظاهر علمنا بأن ذلك كذلك، لأن صوَاع الملك أصيب في وعائه دون أوعية غيره...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما شهدنا عند يوسف بأن السارق يؤخذ بسرقته إلاّ بما علمنا...
وقوله: "وَما كُنّا للغَيْبِ حافِظِينَ" يقول: وما كنا نرى أن ابنك يَسْرِق ويصير أمرنا إلى هذا، وإنما قلنا "ونَحْفَظُ أخانا" مما لنا إلى حفظه منه السبيل...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(ارجعوا إلى أبيكم) يحتمل على الأمر على ما هو في الظاهر، ويحتمل ما ذكرنا؛ أي لو رجعتم إليه (فقولوا يا أبانا إنك ابنك سرق) يشبه أن يكون هذا منه تعريضا في التخطئة على ما كان يؤثره على غيره من الأولاد، أي الذي كنت تؤثره علينا بالمحبة وميل القلب إليه قد سرق. ويشبه أن يكون ليس على التعريض، ولكن على الإخبار على ما ظهر عندهم من ظاهر الأمر... (وما كنا للغيب حافظين) هذا يدل على التأويل الذي قيل في قوله: (إلا أن يحاط بكم) أي يعمكم، ويجمعكم؛ أي ما كنا نعلم وقت إعطاء العهد والميثاق أنه يسرق، وإلا لم نعطك العهد على ذلك...
ويحتمل (وما كنا للغيب حافظين) وقت ما أخرج المتاع من وعائه، واتهم أنه سرق، أهو لم يسرق؟ أم هو وضع الصاع في رحله؟ أو غيره وضع؟ أي ما كنا نعلم في الابتداء أن الأمر يرجع إلى هذا، وإلا لم نخرجه معنا...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقال ابن زيد: قولهم: {ما شهدنا إلا بما علمنا} أرادوا به: وما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترقّ في شرعك إلا بما علمنا من ذلك.
{وما كنا للغيب حافظين} أن السرقة تخرج من رحل أحدنا، بل حسبنا أن ذلك لا يكون البتة، فشهدنا عنده حين سألنا بعلمنا...
واعلم أنهم لما تفكروا في الأصوب ما هو، ظهر لهم أن الأصوب هو الرجوع، وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة على الوجه من غير تفاوت، والظاهر أن هذا القول قاله ذلك الكبير الذي قال: {فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي}... وبقي هو في مصر وبعث سائر إخوته إلى الأب.
فإن قيل: كيف حكموا عليه بأنه سرق من غير بينة، لا سيما وهو قد أجاب بالجواب الشافي، فقال الذي جعل الصواع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحلكم. والجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أنهم شاهدوا أن الصواع كان موضوعا في موضع ما كان يدخله أحد إلا هم، فلما شاهدوا أنهم أخرجوا الصواع من رحله غلب على ظنونهم أنه هو الذي أخذ الصواع، وأما قوله: وضع الصواع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم فالفرق ظاهر، لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم، وأما هذا الصواع فإن أحدا لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصواع في رحله فظهر الفرق. فلهذا السبب غلب على ظنونهم أنه سرق، فشهدوا بناء على هذا الظن، ثم بينهم غير قاطعين بهذا الأمر بقولهم: {وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين}.
والوجه الثاني: في الجواب أن تقدير الكلام {إن ابنك سرق} في قول الملك وأصحابه ومثله كثير في القرآن. قال تعالى: {إنك لانت الحليم الرشيد} أي عند نفسك، وقال تعالى: {ذق إنك أنت العزيز الكريم} أي عند نفسك وأما عندنا فلا فكذا ههنا.
الوجه الثالث: في الجواب أن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة ومثل هذا الشيء يسمى سرقة فإن إطلاق اسم أحد الشبيهين على الشبيه الآخر جائز في القرآن قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها}.
الوجه الرابع: أن القوم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت فلا يبعد أن يقال: إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة لا سيما وقد شاهدوا شيئا يوهم ذلك...
وأما قوله: {وما كنا للغيب حافظين} ففيه وجوه:
الأول: أنا قد رأينا أنهم أخرجوا الصواع من رحله، وأما حقيقة الحال فغير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله.
والثاني: قال عكرمة معناه: لعل الصواع دس في متاعه بالليل، فإن الغيب اسم لليل على بعض اللغات.
والثالث: قال مجاهد والحسن وقتادة: وما كنا نعلم أن ابنك يسرق، ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به إلى الملك وما أعطيناك موثقا من الله في رده إليك...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لقنّهم كبيرهم ما يقولون لأبيهم. ومعنى {وما كنا للغيب حافظين} احتراس من تحقق كونه سرق، وهو إما لقصد التلطف مع أبيهم في نسبة ابنه إلى السرقة وإما لأنهم علموا من أمانة أخيهم ما خالجهم به الشك في وقوع السرقة منه. والغيب: الأحوال الغائبة عن المرء. والحفظ: بمعنى العلم...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
المعنى الأول: أنهم استهانوا بالأمر، وأن الأمر لا يتجاوز أن ابنه سرق، وما عبروا بأنه أخوهم بل بأنه ابنه، وهي نغمة الافتراق الحاسدة.
المعنى الثاني: أنهم لم يقولوا اتهم بالسرقة، بل يقولون: إنه سرق، مؤمنين بذلك مستوثقين ومؤكدين، وذلك من بقايا حسدهم وحقدهم عليه.
المعنى الثالث: أنهم يؤكدون سرقته بثلاثة أمور:
الأمر الأول: شهادة القرية التي كانوا فيها وهي المدينة العظيمة بمصر.
الأمر الثاني: شهادة العير التي كنا فيها.
الأمر الثالث: تأكيد صدقهم، وكل هذا من انفعال نفوسهم بالحقد الدفين على يوسف وأخيه...