مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{ٱرۡجِعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيكُمۡ فَقُولُواْ يَـٰٓأَبَانَآ إِنَّ ٱبۡنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدۡنَآ إِلَّا بِمَا عَلِمۡنَا وَمَا كُنَّا لِلۡغَيۡبِ حَٰفِظِينَ} (81)

قوله تعالى { ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين واسأل القرية التي كنا فيها والعير التي أقبلنا فيها وإنا لصادقون }

واعلم أنهم لما تفكروا في الأصوب ما هو ظهر لهم أن الأصوب هو الرجوع ، وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة على الوجه من غير تفاوت ، والظاهر أن هذا القول قاله ذلك الكبير الذي قال : { فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبى } قيل إنه روبيل ، وبقي هو في مصر وبعث سائر إخوته إلى الأب .

فإن قيل : كيف حكموا عليه بأنه سرق من غير بينة ، لا سيما وهو قد أجاب بالجواب الشافي ، فقال الذي جعل الصواع في رحلي هو الذي جعل البضاعة في رحلكم .

والجواب عنه من وجوه :

الوجه الأول : أنهم شاهدوا أن الصواع كان موضوعا في موضع ما كان يدخله أحد إلا هم ، فلما شاهدوا أنهم أخرجوا الصواع من رحله غلب على ظنونهم أنه هو الذي أخذ الصواع ، وأما قوله : وضع الصواع في رحلي من وضع البضاعة في رحالكم فالفرق ظاهر ، لأن هناك لما رجعوا بالبضاعة إليهم اعترفوا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم ، وأما هذا الصواع فإن أحدا لم يعترف بأنه هو الذي وضع الصواع في رحله فظهر الفرق . فلهذا السبب غلب على ظنونهم أنه سرق ، فشهدوا بناء على هذا الظن ، ثم بينهم غير قاطعين بهذا الأمر بقولهم : { وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين } .

والوجه الثاني : في الجواب أن تقدير الكلام { إن ابنك سرق } في قول الملك وأصحابه ومثله كثير في القرآن . قال تعالى : { إنك لانت الحليم الرشيد } أي عند نفسك ، وقال تعالى : { ذق إنك أنت العزيز الكريم } أي عند نفسك وأما عندنا فلا فكذا ههنا .

الوجه الثالث : في الجواب أن ابنك ظهر عليه ما يشبه السرقة ومثل هذا الشيء يسمى سرقة فإن إطلاق اسم أحد الشبيهين على الشبيه الآخر جائز في القرآن قال تعالى : { وجزاء سيئة سيئة مثلها } .

الوجه الرابع : أن القوم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت فلا يبعد أن يقال : إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة لا سيما وقد شاهدوا شيئا يوهم ذلك .

الوجه الخامس : أن ابن عباس رضي الله عنهما كان يقرأ { إن ابنك سرق } بالتشديد ، أي نسب إلى السرقة فهذه القراءة لا حاجة بها إلى التأويل لأن القوم نسبوه إلى السرقة ، إلا أنا ذكرنا في هذا الكتاب أن أمثال هذه القراآت لا تدفع السؤال ، لأن الإشكال إنما يدفع إذا قلنا القراءة الأولى باطلة ، والقراءة الحقة هي هذه . أما إذا سلمنا أن القراءة الأولى حقة كان الإشكال باقيا سواء صحت هذه القراءة الثانية أو لم تصح ، فثبت أنه لا بد من الرجوع إلى أحد الوجوه المذكورة أما قوله : { وما شهدنا إلا بما علمنا } فمعناه ظاهر لأنه يدل على أن الشهادة غير العلم بدليل قوله تعالى : { وما شهدنا إلا بما علمنا } وذلك يقتضي كون الشهادة مغايرة للعلم ولأنه عليه السلام قال : إذا علمت مثل الشمس فاشهد ، وذلك أيضا يقتضي ما ذكرنا وليست الشهادة أيضا عبارة عن قوله أشهد لأن قوله أشهد إخبار عن الشهادة والإخبار عن الشهادة غير الشهادة .

إذا ثبت هذا فنقول : الشهادة عبارة عن الحكم الذهني وهو الذي يسميه المتكلمون بكلام النفس ، وأما قوله : { وما كنا للغيب حافظين } ففيه وجوه : الأول : أنا قد رأينا أنهم أخرجوا الصواع من رحله ، وأما حقيقة الحال فغير معلومة لنا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله . والثاني : قال عكرمة معناه : لعل الصواع دس في متاعه بالليل ، فإن الغيب اسم لليل على بعض اللغات . والثالث : قال مجاهد والحسن وقتادة : وما كنا نعلم أن ابنك يسرق ، ولو علمنا ذلك ما ذهبنا به إلى الملك وما أعطيناك موثقا من الله في رده إليك . والرابع : نقل أن يعقوب عليه السلام قال لهم : فهب أنه سرق ولكن كيف عرف الملك أن شرع بني إسرائيل أن من سرق يسترق ، بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم فقالوا عند هذا الكلام : أنا قد ذكرنا له هذا الحكم قبل وقوعنا في هذه الواقعة وما كنا نعلم أن هذه الواقعة نقع فيها فقوله : { وما كنا للغيب حافظين } إشارة إلى هذا المعنى .

فإن قيل : فهل يجوز من يعقوب عليه السلام أن يسعى في إخفاء حكم الله تعالى على هذا القول .

قلنا : لعله كان ذلك الحكم مخصوصا بما إذا كان المسروق منه مسلما فلهذا أنكر ذكر هذا الحكم عند الملك الذي ظنه كافرا .