الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{ٱرۡجِعُوٓاْ إِلَىٰٓ أَبِيكُمۡ فَقُولُواْ يَـٰٓأَبَانَآ إِنَّ ٱبۡنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدۡنَآ إِلَّا بِمَا عَلِمۡنَا وَمَا كُنَّا لِلۡغَيۡبِ حَٰفِظِينَ} (81)

قوله تعالى : " ارجعوا إلى أبيكم " قاله الذي قال : " فلن أبرح الأرض " . " فقولوا يا أبانا إن ابنك سَرَق " وقرأ ابن عباس والضحاك وأبو رزين " إن ابنك سُرِّقَ " النحاس : وحدثني محمد بن أحمد بن عمر قال حدثنا ابن شاذان{[9229]} قال حدثنا أحمد بن أبي سريج البغدادي قال : سمعت ، الكسائي يقرأ : " يا أبانا إن ابنك سُرِّق " بضم السين وتشديد الراء مكسورة ، على ما لم يسم فاعله ، أي نسب إلى السرقة ورمي بها ، مثل خوّنته وفسّقته وفجّرته إذا نسبته إلى هذه الخلال . وقال الزجاج : " سرق " يحتمل معنيين : أحدهما : علم منه السرق ، والآخر : اتهم بالسرق . قال الجوهري : والسرق والسرقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق ، والمصدر يسرق سرقا بالفتح .

قوله تعالى : " وما شهدنا إلا بما علمنا " .

فيه أربع مسائل :

الأولى : قوله تعالى : " وما شهدنا إلا بما علمنا " يريدون فقد شهدنا قط إلا بما علمنا ، وأما الآن فقد شهدنا بالظاهر وما نعلم الغيب ، كأنهم وقعت لهم تهمة من قول بنيامين : دس هذا في رحلي من دس بضاعتكم في رحالكم ، قال معناه ابن إسحاق . وقيل المعنى : ما شهدنا عند يوسف بأن السارق يسترق إلا بما علمنا من دينك ، قاله ابن زيد . " وما كنا للغيب حافظين " أي لم نعلم وقت أخذناه منك أنه يسرق فلا نأخذه . وقال مجاهد وقتادة : ما كنا نعلم أن ابنك يسترق ويصير أمرنا إلى هذا ، وإنما قلنا : نحفظ أخانا فيما نطيق . وقال ابن عباس : يعنون أنه سرق ليلا وهم نيام ، والغيب هو الليل بلغة حمير ، وعنه : ما كنا نعلم ما يصنع في ليلة ونهاره وذهابه وإيابه . وقيل : ما دام بمرأى منا لم يجر خلل ، فلما غاب عنا خفت عنا حالاته . وقيل معناه : قد أخذت السرقة من رحله ، ونحن أخرجناها وننظر إليها ، ولا علم لنا بالغيب ، فلعلهم سرقوه ولم يسرق .

الثانية : تضمنت هذه الآية جواز الشهادة بأي وجه حصل العلم بها ، فإن الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعا ، فلا تسمع إلا ممن علم ، ولا تقبل إلا منهم ، وهذا هو الأصل في الشهادات ؛ ولهذا قال أصحابنا : شهادة الأعمى جائزة ، وشهادة المستمع جائزة ، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة ، وكذلك الشهادة على الخط - إذا تيقن أنه خطه أو خط فلان - صحيحة فكل من حصل له العلم بشيء جاز أن يشهد به وإن لم يشهده المشهود عليه ، قال الله تعالى : " إلا من شهد بالحق وهم يعلمون{[9230]} " [ الزخرف : 86 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ألا أخبركم بخير الشهداء خير الشهداء الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها ) وقد مضى في " البقرة " {[9231]} .

الثالثة : اختلف قول مالك في شهادة المرور ، وهو أن يقول : مررت بفلان فسمعته يقول كذا فإن استوعب القول شهد في أحد قوليه ، وفي القول الآخر لا يشهد حتى يشهداه . والصحيح أداء الشهادة عند الاستيعاب ، وبه قال جماعة العلماء ، وهو الحق ؛ لأنه قد{[9232]} حصل المطلوب وتعين عليه أداء العلم ، فكان خير الشهداء إذا أعلم المشهود له ، وشر الشهداء إذا كتمها والله أعلم{[9233]} .

الرابعة : إذا ادعى رجل شهادة لا يحتملها عمره ردت ؛ لأنه ادعى باطلا فأكذبه العيان ظاهرا .


[9229]:هو العباس بن الفضل بن شاذان كما في "غاية النهاية".
[9230]:راجع ج 16 ص 122.
[9231]:راجع ج 3 ص 399.
[9232]:من ع.
[9233]:من ك و ي.