قوله تعالى : { من كان يريد الحياة الدنيا } ، أي : من كان يريد بعمله الحياة الدنيا ، { وزينتها } ، نزلت في كل من عمل عملا يريد به غير الله عز وجل { نوف إليهم أعمالهم فيها } ، أي : نوف لهم أجور أعمالهم في الدنيا بسعة الرزق ودفع المكاره وما أشبهها . { وهم فيها لا يبخسون } ، أي : في الدنيا لا ينقص حظهم .
{ 15 - 16 } { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
يقول تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } أي : كل إرادته مقصورة على الحياة الدنيا ، وعلى زينتها من النساء والبنين ، والقناطير المقنطرة ، من الذهب ، والفضة ، والخيل المسومة ، والأنعام والحرث . قد صرف رغبته وسعيه وعمله في هذه الأشياء ، ولم يجعل لدار القرار من إرادته شيئا ، فهذا لا يكون إلا كافرا ، لأنه لو كان مؤمنا ، لكان ما معه من الإيمان يمنعه أن تكون جميع إرادته للدار الدنيا ، بل نفس إيمانه وما تيسر له من الأعمال أثر من آثار إرادته الدار الآخرة .
ولكن هذا الشقي ، الذي كأنه خلق للدنيا وحدها { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } أي : نعطيهم ما قسم لهم في أم الكتاب من ثواب الدنيا .
{ وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ } أي : لا ينقصون شيئا مما قدر لهم ، ولكن هذا منتهى نعيمهم .
ثم بين - سبحانه - سوء مصير الذين لا يريدون بأقوالهم وأعمالهم وجه الله - تعالى - فقال :
{ مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا . . . }
أى : من كان يريد بأقواله الحسنة وبأعماله الطيبة على حسب الظاهر ، الحصول على ( الحياة الدنيا وزينتها ) من مال وجاه ومنصب وغير ذلك من المتع الدنيوية ، بدون التفات إلى ما يقربه من ثواب الآخرة .
من كان يريدون ذلك { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } أى : نوصل إليهم - بإرادتنا ومشيئتنا - ثمار جهودهم وأعمالهم فى هذه الدنيا .
والتعبير بكان فى قوله { مَن كَانَ يُرِيدُ . . . } يفيد أنهم مستمرون على إرادة الدنيا بأعمالهم ، بدون تطلع إلى خير الآخرة .
وعدى الفعل { نوف } بإلى ، مع أنه يتعدى بنفسه ، لتضمينه معنى نوصل .
وقوله - سبحانه - { وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } تذييل قصد به تأكيد ما سبقه ، وتبيين مظهر من مظاهر عدل الله - تعالى - مع عباده فى دنياهم .
والبخس : نقص الحق ظلما . يقال : بخس فلان فلانا حقه إذا ظلمه ونقصه .
أى : وهم فى هذه الدنيا لا ينقصون شيئا من نتائج جهودهم وأعمالهم ، حتى ولو كانت جهودا لا إخلاص معها ولا إيمان .
قال العوفي ، عن ابن عباس ، في هذه الآية : إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا ، وذلك أنهم لا يظلمون نقيرا ، يقول : من عمل صالحا التماس الدنيا ، صوما أو صلاة أو تهجدا بالليل ، لا يعمله{[14523]} إلا التماس الدنيا ، يقول الله : أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة ، وحبط عمله الذي كان يعمله التماس الدنيا ، وهو في الآخرة من الخاسرين .
وهكذا روي عن مجاهد ، والضحاك ، وغير واحد .
وقال أنس بن مالك ، والحسن : نزلت في اليهود والنصارى . وقال مجاهد وغيره : نزلت في أهل الرياء{[14524]} .
وقال قتادة : من كانت الدنيا همه وَسَدَمه{[14525]} وطَلِبَته ونيته ، جازاه الله بحسناته في الدنيا ، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء . وأما المؤمن فيجازى بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة .
وقد ورد في الحديث المرفوع نحو من هذا{[14526]} .
وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا } [ الإسراء : 18 - 21 ]{[14527]} ، وقال تعالى : { مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } .
يقول تعالى ذكره : مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله الحَياةَ الدّنْيا وأثاثها وَزِينَتَها يطلب به ، نوَفّ إلَيْهِمْ أجور أعْمَالَهُمْ فِيها وثوابها . وَهُمْ فِيها يقول : وهم في الدنيا لا يُبْخَسُونَ يقول : لا يُنقصون أجرها ، ولكنهم يُوَفّونه فيها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وَزِينَتَها . . . الآية ، وهي ما يعطيهم الله من الدنيا بحسناتهم وذلك أنهم لا يظلمون نقيرا ، يقول : من عمل صالحا التماس الدنيا صوما أو صلاة أو تهجدا بالليل لا يعمله إلا لالتماس الدنيا يقول الله : أُوَفّيه الذي التمس في الدنيا من المثابة ، وحبط عمله الذي كان يعمل التماس الدنيا ، وهو في الاَخرة من الخاسرين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها قال : ثواب ما عملوا في الدنيا من خير أعطوه في الدنيا ، وَلَيْس لهُمْ في الاَخِرِةِ إلاّ النّارُ وحَبِط ما صَنُعوا فِيها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير ، قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها قال : وربما عملوا من خير أعطوه في الدنيا ، ولَيْسَ لَهُمْ في الاَخِرِةِ إلاّ النّارُ وحَبِط ما صنَعُوا فِيها قال : هي مثل الآية التي في الروم : وما أتَيْتُمْ مِنْ رِبا لِيَرْبُوَ في أمْوَالِ النّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْد اللّهِ .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن منصور ، عن سعيد بن جبير : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها قال : من عمل للدنيا وُفّيَهُ في الدنيا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها قال : من عمل عملاً مما أمر الله به من صلاة أو صدقة لا يريد بها وجه الله أعطاه الله في الدنيا ثواب ذلك مثل ما أنفق فذلك قوله : نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها في الدنيا ، وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ أجر ما عملوا فيها ، أولَئِكَ الّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الاَخِرَةِ إلاّ النّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها . . . الآية .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن عيسى ، يعني ابن ميمون ، عن مجاهد ، في قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها قال : ممن لا يقبل منه جُوزي به يُعطي ثوابه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن يمان ، عن سفيان ، عن عيسى الجرشي ، عن مجاهد : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها قال : ممن لا يقبل منه يعجل له في الدنيا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ أي لا يظلمون . يقول : من كانت الدنيا همه وسَدَمه وطلبته ونيته ، جازاه الله بحسناته في الدنيا ، ثم يُفْضِي إلى الاَخرة وليس له حسنة يُعْطَي بها جزاء . وأما المؤمن فيجازي بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الاَخرة . وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ : أي في الاَخرة لا يظلمون .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق جميعا ، عن معمر ، عن قتادة : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها . . . . الآية ، قال : من كان إنما همته الدنيا إياها يطلب أعطاه الله مالاً وأعطاه فيها ما يعيش ، وكان ذلك قصاصا له بعمله . وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ قال : لا يظلمون .
قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ليث بن أبي سلم ، عن محمد بن كعب الُقَرِظيّ : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : «مَنْ أحْسَنَ مِنْ مُحْسِنٍ فَقَدْ وَقَعَ أجْرُهُ على اللّهِ فِي عاجِلِ الدّنْيا وآجِلِ الاَخِرَةِ » .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها . . . . الآية ، يقول : من عمل عملاً صالحا في غير تقوى يعني من أهل الشرك أعطي على ذلك أجرا في الدنيا يصل رحما ، يعطي سائلاً ، يرحم مضطرّا في نحو هذا من أعمال البرّ يعجل الله له ثواب عمله في الدنيا ، ويوسع عليه في المعيشة والرزق ، ويقرّ عينه فيما خوّله ، ويدفع عنه من مكاره الدنيا في نحو هذا ، وليس له في الاَخرة من نصيب .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا حفص بن عمرو أبو عمر الضرير ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة ، عن أنس في قوله : نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ قال : هي في اليهود والنصارى .
قال : حدثنا حفص بن عمر ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن أبي رجاء الأزدي ، عن الحسن : نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها قال : طيباتهم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن وهب أنه بلغه أن مجاهدا كان يقول في هذه الآية : هم أهل الرياء ، هم أهل الرياء .
قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن حيوة بن شريح ، قال : ثنى الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان ، أن عقبة بن مسلم حدثه ، أن شُفي بن ماتع الأصبحي حدثه : أنه دخل المدينة ، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس ، فقال من هذا ؟ فقالوا أبو هريرة . فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدّث الناس ، فلما سكت وخَلا قلت : أنشدك بحقّ وبحقّ لما حدثتني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عقلته وعلمته قال : فقال أبو هريرة : أفعل ، لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نشغ نشغة ، ثم أفاق ، فقال : لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت ما فيه أحد غيري وغيره ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة ، ثم مال خارّا على وجهه ، واشتدّ به طويلاً ، ثم أفاق ، فقال : حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى أهل القيامة ليقضي بينهم وكل أمة جاثية ، فأوّل من يدعى به رجل جمع القرآن ، ورجل قتل في سبيل الله ، ورجل كثير المال ، فيقول الله للقارىء : ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي ؟ قال : بلى يا ربّ قال : فماذا عملت فيما علمت ؟ قال : كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار . فيقول الله له : كذبت وتقول له الملائكة : كذبت ويقول الله له : بل أردت أن يقال : فلان قارىء فقد قيل ذلك . ويؤتي بصاحب المال فيقول الله له : ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد ؟ قال : بلى يا ربّ قال : فماذا عملت فيما آتيتك ؟ قال : كنت أصل الرحم وأتصدّق . فيقول الله له : كذبت وتقول الملائكة : كذبت ويقول الله له : بل أردت أن يقال : فلان جواد ، فقد قيل ذلك . ويؤتى بالذي قُتل في سبيل الله ، فيقال له : فبماذا قتلت ؟ فيقول : أمرت بالجهاد في سبيلك ، فقاتلت حتى قتلت . فيقول الله له : كذبت وتقول له الملائكة : كذبت ويقول الله له : بل أردت أن يقال : فلان جريء ، وقد قيل ذلك » . ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي ، فقال : «يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أوّل خلق الله تسعر بهم النار يوم القيامة » .
قال الوليد أبو عثمان : فأخبرني عقبة أن شفيّا هو الذي دخل على معاوية ، فأخبره بهذا .
قال أبو عثمان : وحدثني العلاء بن أبي حكيم أنه كان سيافا لمعاوية ، قال : فدخل عليه رجل فحدثه بهذا عن أبي هريرة ، فقال أبو هريرة وقد فعل بهؤلاء هذا ، فكيف بمن بقي من الناس ؟ ثم بكى معاوية بكاء شديدا حتى ظننا أنه هلك ، وقلنا : قد جاءنا هذا الرجل شرّ . ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه فقال : صدق الله ورسوله مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها نُوفّ إلَيْهِمْ أعْمالَهُمْ فِيها وقرأ إلى : وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن عيسى بن ميمون ، عن مجاهد : مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدّنْيا وزَينَتَها . . . الآية ، قال : ممن لا يتقبل منه ، يصوم ويصلي يريد به الدنيا ، ويدفع عنه وهم الاَخرة . وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ لا ينقصون .
{ من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } بإحسانه وبره . { نُوفّ إليهم أعمالهم فيها } نوصل إليهم جزاء أعمالهم في الدنيا من الصحة والرئاسة وسعة الزرق وكثرة الأولاد . وقرئ " يوف " بالياء أي يوف الله و " نوف " على البناء للمعفول و " نوف " بالتخفيف والرفع لأن الشرط ماض كقوله :
وإن أتاه كريم يوم مسغبةٍ *** يقول لا غائب مالي ولا حرمُ
{ وهم فيها لا يُبخسون } لا ينقصون شيئا من أجورهم . والآية في أهل الرياء . وقيل في المنافقين . وقيل في الكفرة وغرضهم وبرهم .
استئناف اعتراضي بين الجملتين ناشىء عن جملة { فهل أنتم مسلمون } [ هود : 14 ] لأنّ تلك الجملة تفرّعت على نهوض الحجة فإن كانوا طالبين الحق والفوز فقد استتبّ لهم ما يقتضي تمكن الإسلام من نفوسهم ، وإن كانوا إنّما يطلبون الكبرياء والسيادة في الدنيا ويأنفون من أن يكونوا تبعاً لغيرهم فهم مريدون الدنيا فلذلك حذّرُوا من أن يغتروا بالمتاع العاجل وأعْلِموا بأنّ وراء ذلك العذابَ الدائم وأنّهم على الباطل ، فالمقصود من هذا الكلام هو الجملة الثانية ، أعني جملة { أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلاّ النّار } الخ . . . وما قبل ذلك تمهيد وتنبيه على بوارق الغرور ومزالق الذهول .
ولمّا كان ذلك هو حالهم كان في هذا الاعتراض زيادة بيان لأسباب مكابرتهم وبعدهم عن الإيمان ، وفيه تنبيه المسلمين بأن لا يغتروا بظاهر حسن حال الكافرين في الدنيا ، وأن لا يحسبوا أيضاً أنّ الكفر يوجب تعجيل العذاب فأوقظوا من هذا التوهم ، كما قال تعالى : { لا يغرنّك تقلّب الذين كفروا في البلاد متاعٌ قليلٌ ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } [ آل عمران : 196 ، 197 ] .
وفعل الشرط في المقام الخطابي يفيد اقتصار الفاعل على ذلك الفعل ، فالمعنى من كان يريد الحياة الدنيا فقط بقرينة قوله : { أولئك الذين ليس لَهمْ في الآخرة إلاّ النّار } إذ حصر أمرهم في استحقاق النار وهو معنى الخلود . ونظير هذه الآية { من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموماً مدحوراً ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً } [ الإسراء : 18 ، 19 ] . فالمعنى من كان لا يطلب إلاّ منافع الحياة وزينتها . وهذا لا يصدر إلاّ عن الكافرين لأنّ المؤمن لا يخلو من إرادة خير الآخرة وما آمن إلاّ لذلك ، فموْرد هذه الآيات ونظائرها في حال الكافرين الذين لا يؤمنون بالآخرة .
فأمّا قوله تعالى : { يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتنّ تردْن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتّعْكنّ وأسرّحْكن سراحاً جميلاً وإن كنتُنّ تُردن الله ورسوله والدّار الآخرة فإنّ الله أعدّ للمُحْسنات منكُنّ أجراً عظيماً } [ الأحزاب : 28 ، 29 ] فذلك في معنى آخر من معاني الحياة وزينتها وهو ترف العيش وزينة اللباس ، خلافاً لما يَقتضيه إعراض الرسول صلى الله عليه وسلم عن كثير من ذلك الترَف وتلك الزينة .
وضمير { إليهم } عائد إلى { مَن } الموصولة لأنّ المراد بها الأقوام الذين اتصفوا بمضمون الصلة .
والتوفية : إعطاء الشيء وافياً ، أي كاملاً غير منقوص ، أي نجعل أعمالهم في الدّنيا وافية ومعنى وفائها أنّها غير مشوبة بطلب تكاليف الإيمان والجهاد والقيام بالحق ، فإن كل ذلك لا يخلو من نقصان في تمتع أصحاب تلك الأعمال بأعمالهم وهو النقصان الناشىء عن معاكسة هوى النفس ، فالمراد أنهم لا يُنقصون من لذاتهم التي هيّأوها لأنفسهم على اختلاف طبقاتهم في التمتع بالدنيا ، بخلاف المؤمنين فإنهم تتهيّأ لهم أسباب التمتع بالدنيا على اختلاف درجاتهم في ذلك التهيؤ فيتركون كثيراً من ذلك لمراعاتهم مرضاة الله تعالى وحذرهم من تبعات ذلك في الآخرة على اختلاف مراتبهم في هذه المراعاة .
وعُدّي فعل { نُوفّ } بحرف ( إلى ) لتضمنه معنى نوصل أو نبلغ لإفادة معنيين .
فليس معنى الآية أن من أراد الحياة وزينتها أعطاه الله مراده لأن ألفاظ الآية لا تفيد ذلك لقوله : { نُوَفّ إليهم أعمالهم } ، فالتوفية : عدم النقص . وعلقت بالأعمال وهي المساعي . وإضافة الأعمال إلى ضمير { هم } تفيد أنها الأعمال التي عُنوا بها وأعدُّوها لصالحهم أي نتركها لهم كما أرادوا لا نُدخل عليهم نقصاً في ذلك . وهذه التوفية متفاوتة والقدر المشترك فيها بينهم هو خلوّهم من كُلف الإيمان ومصاعب القيام بالحق والصبر على عصيان الهوى ، فكأنه قيل نتركهم وشأنهم في ذلك .
وقوله : { وهم فيها لا يُبخسون } أي في الدنيا لا يجازون على كفرهم بجزاء سَلب بعض النعم عنهم بل يتركون وشأنهم استدراجاً لهم وإمهالاً . فهذا كالتكملة لمعنى جملة { نوف إليهم أعمالهم فيها } ، إذ البَخس هو الحط من الشيء والنقص منه على ما ينبغي أن يكون عليه ظلماً . وفي هذه الآية دليل لما رآه الأشعري أنّ الكفر لا يمنع من نعمة الله .
وضمير { فيها } يجوز أن يعود إلى { الحياة } وأن يعود إلى ( الأعمال ) .