إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيۡهِمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فِيهَا وَهُمۡ فِيهَا لَا يُبۡخَسُونَ} (15)

{ مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا } أي ما يزيِّنها ويحسِّنها من الصحة والأمنِ والسعةِ في الرزق وكثرةِ الأولادِ والرياسةِ وغيرِ ذلك ، والمرادُ بالإرادة ما يحصُل عند مباشرةِ الأعمالِ لا مجردُ الإرادةِ القلبية لقوله تعالى : { نُوَفّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } وإدخالُ كان عليها للدِلالة على استمرارها منهم بحيث لا يكادون يريدون الآخِرةَ أصلاً ، وليس المرادُ بأعمالهم أعمالَ كلِّهم فإنه لا يجد كلُّ متمنَ ما يتمناه ولا كلُّ أحدٍ ينال كلَّ ما تهواه ، فإن ذلك منوطٌ بالمشيئة الجاريةِ على قضية الحِكمة كما نطَق به قولُه تعالى : { من كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نرِيدُ } ولا كلَّ أعمالِهم بل بعضَها الذي يترتب عليه الأمورُ المذكورةُ بطريق الأجرِ والجزاءِ من أعمال البرِّ وقد أُطلقت وأريد بها ثمراتُها ، فالمعنى نوصِلُ إليهم ثمراتِ أعمالِهم في الحياة الدنيا كاملةً ، وقرئ يُوفِّ على الإسناد إلى الله عز وجل وتُوَفَّ بالفوقانية على البناء للمفعول ورفعِ أعمالَهم ، وقرئ نُوْفي بالتخفيف والرفع لكون الشرط ماضياً كقوله : [ البسيط ]

وإن أتاه خليلٌ يومَ مسغَبة *** يقولُ لا غائبٌ مالي ولا حرِمُ{[405]}

{ وَهُمْ فِيهَا } أي في الحياة الدنيا { لاَ يُبْخَسُونَ } أي لا يُنقَصون ، وإنما عبّر عن ذلك بالبخْس الذي هو نقصُ الحقِّ مع أنه ليس لهم شائبةُ حقَ فيما أوتوه كما عبّر عن إعطائه بالتوفية التي هي إعطاءُ الحقوقِ مع أن أعمالَهم بمعزل من كونها مستوجبةً لذلك بناءً للأمر على ظاهر الحالِ ومحافظةً على صور الأعمالِ ومبالغةً في نفي النقص ، كأن ذلك نقصٌ لحقوقهم فلا يدخُل تحت الوقوعِ والصدورِ عن الكريم أصلاً ، والمعنى أنهم فيها خاصةً لا يُنقصون ثمراتِ أعمالِهم وأجورَها نقصاً كلياً مطرداً ولا يُحرَمونها حِرماناً كلياً ، وأما في الآخرة فهم في الحِرمان المطلقِ واليأسِ المحقق كما ينطِق به قوله تعالى : { أولئك } .


[405]:البيت لزهير بن أبي سلمى في ديوانه ص 153، والإنصاف 2/625، وجمهرة اللغة ص 108، وخزانة الأدب 9/48، والدرر 5/82، ورصف المباني ص 104، وشرح أبيات سيبويه 2/75، وشرح التصريح 2/249، وشرح شواهد المغني 2/838، ومغني اللبيب 2/422، والكتاب 3/66، ولسان العرب (خلل، حرم) والمقاصد النحوية 4/429.