المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيۡهِمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فِيهَا وَهُمۡ فِيهَا لَا يُبۡخَسُونَ} (15)

وقوله تعالى : { من كان يريد الحياة الدنيا } الآية ، قالت فرقة : ظاهرها العموم ومعناها الخصوص في الكفرة : هذا قول قتادة والضحاك{[6273]} ، وقال مجاهد : هي في الكفرة وفي أهل الرياء من المؤمنين : وإلى هذا ذهب معاوية حين حدثه سيافه ُشِفي بن ماتع الأصبحي{[6274]} عن أبي هريرة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرجل المتصدق والمجاهد المقتول والقائم بالقرآن ليله ونهاره وكل ذلك رياء ، «إنهم أول من تسعر به النار يوم القيامة » فلما حدثه شفي بهذا الحديث ، بكى معاوية وقال : صدق الله ورسوله : وتلا : { من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها } الآية ، إلى قوله : { وباطل ما كانوا يعملون }{[6275]} .

فأما من ذهب إلى أنها في الكفرة فمعنى قوله { يريد } يقصد ويعتمد ، أي هي وجهه ومقصده لا مقصد له غيرها . فالمعنى : من كان يريد بأعماله الدنيا فقط إذ لا يعتقد آخرة ، فإن الله يجازيه على حسن أعماله - في الدنيا - بالنعم والحواس وغير ذلك : فمنهم مضيق عليه ومنهم موسع له ، ثم حكم عليهم بأنهم لا يحصل لهم يوم القيامة إلا بالنار ولا تكون لهم حال سواها .

قال القاضي أبو محمد : فاستقام هذا المعنى على لفظ الآية . وهو عندي أرجح التأويلات - بحسب تقدم ذكر الكفار المناقضين في القرآن - فإنما قصد بهذه الآية { أولئك }{[6276]} .

وأما من ذهب إلى أنها في العصاة من المؤمنين فمعنى { يريد } عنده يحب ويؤثر ويفضل ويقصد ، وإن كان له مقصداً آخر بإيمانه فإن الله يجازيه على تلك الأعمال الحسان التي لم يعملها لله بالنعم في الدنيا ، ثم يأتي قوله : { ليس لهم } بمعنى ليس يجب لهم أو يحق لهم إلا النار ، وجائز أن يتغمدهم الله برحمته ، وهذا ظاهر ألفاظ ابن عباس وسعيد بن جبير{[6277]} .

وقال أنس بن مالك : هي في أهل الكتاب .

قال القاضي أبو محمد : ومعنى هذا أن أهل الكتاب الكفرة يدخلون في هذه الآية ، لا أنها ليست في غيرهم .

وقرأ جمهور الناس : : نوف «بنون العظمة ؛ وقرأ طلحة{[6278]} وميمون بن مهران » يوف «بياء الغائب{[6279]} .

و { يبخسون } معناه : يعطون أقل من ثوابهم .


[6273]:- قال القرطبي: "واختاره النحاس، بدليل الآية التي بعدها {أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار}، فمن أتى منهم بصلة رحم أو صدقة نكافئه بها في الدنيا بصحة وكثرة الرزق، لكن لا حسنة له في الآخرة".
[6274]:-شُفي بن ماتع هذا كان سيافا لمعاوية، ومات سنة 105هـ.
[6275]:- الحديث رواه مسلم بمعناه، والترمذي أيضا، وهو في ابن جرير، وفيه أن أبا هريرة قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة نزل إلى أهل القيامة ليقضي بينهم وكل أمة جاثية، فأول من يُدعى به رجل جمع القرآن، ورجل قُتل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ، ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما عُلّمت؟ قال: كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له، كذبت، وتقول الملائكة: كذبت: ويقول الله له: بل أردت أن يقال: "فلان قارئ" فقد قيل ذلك. ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: "فلان جواد"، فقد قيل ذلك. ويُؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقال له: في ماذا قُتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله له: بل أردت أن يقال: "فلان جريء"، وقد قيل ذلك ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تسعّر لهم النار يوم القيامة).
[6276]:- ولقوله تعالى بعد ذلك: {أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار} كما سبق أن ذكرنا.
[6277]:- وهذا الرأي يلتقي مع قوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات)، فالمرء إنما يعطى على وجه قصده، وبحكم ضميره ونيته.
[6278]:- هو طلحة بن ميمون كما ذكر ذلك في البحر، وإلا فهناك طلحة بن مصرف مثلا، وغيره.
[6279]:-في إعراب هذه الآية: {من كان يريد..} إلخ ذكر عن الفراء أن (كان) زائدة ولهذا جزم الجواب وهو [نوف]، قال أبو حيان: "ولعله لا يصح، إذ لو كانت زائدة لكان (يريد) هو فعل الشرط، وكان يكون مجزوما". وهذا التركيب من مجيء فعل الشرط ماضيا والجواب مضارعا ليس مخصوصا بكان، بل هو جائز في غيرها، كما روي في بيت زهير بن أبي سلمى: ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ولو رام أن يرقى السماء بسلّم