اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيۡهِمۡ أَعۡمَٰلَهُمۡ فِيهَا وَهُمۡ فِيهَا لَا يُبۡخَسُونَ} (15)

قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا } الآية .

قيل : إنَّها مختصةٌ بالكُفَّار لقوله : { أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ هود : 16 ] وهذا ليس إلاَّ للكفار ، فيكون التقدير : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط ، أي : تكون إرادته مقصورةٌ على حُبِّ الدنيا وزينتها ، ومن طلب السعادات الأخرويَّة كان حكمه كذا وكذا .

واختلف القائلون بهذا القول فقال الأصم : المرادُ مُنْكِرُو البعث فإنَّهم ينكرون الآخرة ويرغبون في سعادات الدنيا .

وقيل : المراد المنافقون ، كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول –عليه الصلاة والسلام- الغنائم من غير أن يؤمنوا بالآخرة .

وقال أنس - رضي الله عنه - : المرادُ اليهود والنَّصارى{[18702]} .

وقال القاضي : المراد من كان يريدُ بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها .

وعمل الخير قسمان :

العبادات وإيصال المنفعة إلى الحيوان كالبر ، وصلة الرَّحمِ ، والصَّدقة ، وبناء القناطر ، وتسوية الطرق ، ودفع الشر ، وإجراء الأنهار ، فهذه الأشياء إذا أتى بها الكافرُ لأجل الثناء في الدُّنيا ، فإنَّ بسببها تصل الخيرات والمنافع إلى المحتاجين ، وهي من أعمال الخير ، فقد تصدرُ من المسلم والكافر .

وأمَّا العباداتُ فإمَّا أن تكون طاعات بنيَّاتٍ مخصوصة ، فإذا لمْ يؤتَ بتلك النِّية ، وإنَّما أتى فاعلها بها طلباً لزينة الدنيا ، وتحصيل الرِّياء والسمعةِ ؛ فلا تكونُ طاعةً ووجودها كعدمها بل هو شر منها .

وعلى هذا فالمرادُ منه الطَّاعات التي يصحُّ صدورها من الكفار .

وقيل : الآية على ظاهرها في العموم ؛ فيندرج فيه المؤمنُ الذي يأتِي بالطَّاعات رياءً وسمعةً ويندرج فيه الكافرُ الذي هذا صفته .

ويشكلُ على هذا قوله في آخر الآية { أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار } إلاَّ إذا قلنا : إنَّ المراد : أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار بسبب الأعمال الفاسدة ، والأفعال الباطلة .

والقائلون بهذا القول أكَّدُوا قولهم بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " تعوَّذُوا بالله من جُبِّ الحُزْنِ " قيل : وما جُبُّ الحُزنِ ؟ قال : " وادٍ في جَهَنَّمَ يُلْقَى فيه القُرَّاء المُراءُونَ " {[18703]} .

وقال - صلوات الله وسلامه عليه - : " أشدُّ النَّاسِ عذاباً يوْمَ القيامةِ مَنْ يَرَى النَّاسُ فيه خَيْراً ولا خَيْرَ فِيهِ " {[18704]} .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كَانَ يَوْمَ القيامةِ يُؤتى برجُلٍ جَمَعَ القرآنَ فيقالُ : ما عَمِلْتَ فيه ؟ فيقولُ : يا رب قُمْتُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ ، والنَّهَارِ ، فيقُول الله - تبارك وتعالى - كذبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقالَ : فلانٌ قارىءٌ ، وقدْ قِيل ذلِكَ ، ويُؤتى بصاحبِ المَالِ فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ ألَمْ أوسِّعْ عليكَ ؟ فماذا عَمِلْتَ فيما آتَيْتُكَ ؟ فيقُولُ : وصَلْتُ الرَّحِمَ وتصدَّقْتُ ، فيقُولُ : كذَبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقال فلانٌ جوادٌ ، وقد قِيلَ ذلك ، ويُؤتى بمن قُتِلَ في سبيل الله فيقول : قاتَلْتُ في سَبِيل اللهِ حتَّى قُتِلْتُ ، فيقُولُ اللهُ عزَّ وجلَّ كذبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقال : فلانٌ فارسٌ " .

ثم ضربَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي وقال : " يا أبا هريرة أولئك الثَّلاثةُ أوَّلُ خَلْقٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْم القِيامَةِ " .

وقد روي أن أبا هريرة - رضي الله عنه - ذكر هذا الحديث عند معاوية - رضي الله عنه {[18705]}- . قال الراوي : فبكى حتَّى ظننا أنَّهُ هالك ثمَّ أفاق وقال : صدق الله ورسوله { مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } [ هود : 15 ] .

فصل

نقل القرطبيُّ عن بعض العلماء :

أنَّ معنى هذه الآية : هو قوله صلى الله عليه وسلم : " إنَّما الأعمالُ بالنِّياتِ " {[18706]} ، وهذا يدلُّ على من صام في رمضان لا عن رضمان لا يقعُ عن رمضان ، وتدلُّ على أن من توضَّأ للتبرد والتنظف لا يقعُ عن جهة الصَّلاةِ ، وكذلك كل من كان في معناه .

قوله : " نُوَفِّ " .

الجمهور على " نُوفِّ " بنون العظمة وتشديد الفاء من " وفَّى يُوفِّي " .

وطلحة{[18707]} وميمون بياءِ الغيبةِ ، وزيد بن علي كذلك ، إلاَّ أنَّه خفَّف الفاء من " أوْفَى يُوفِي " ، والفاعلُ في هاتين القراءتين ضميرُ الله تعالى .

وقرئ{[18708]} " تُوفَّ " بضم التاء ، وفتح الفاء مشددة من " وُفِّيَ يُوَفَّى " مبنياً للمفعول .

" أعْمَالهم " بالرَّفع قائماً مقام الفاعل . وانجزم " نُوَفِّ " على هذه القراءاتِ لكونه جواباً للشَّرطِ ، كما في قوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [ الشورى : 20 ] .

وزعم الفرَّاء أنَّ " كان " هذه زائدة ، ولذلك جزم جوابه ، ولعلَّ هذا لا يصحُّ ، إذ لو كانت زائدة لكان " يُرِيدُ " هو الشَّرط ، ولو كان الشَّرط ، لانجزم ، فكان يقال : " مَنْ كَان يُرِدْ " وزعم بعضهم أنه لا يؤتى بفعل الشَّرط ماضياً ، والجزاء مضارعاً إلاَّ مع " كان " خاصة ، ولهذا لم يجىء في القرآن إلا كذلك ، وهذا ليس بصحيح لوروده في غير " كان " ؛ قال زهير : [ الطويل ]

ومَنْ هَابَ أسْبابَ المنَايَا يَنَلْنَهُ *** ولو رَامَ أسبابَ السَّمَاءِ بسُلَّمِ{[18709]}

وأمَّا القرآنُ فجاء من باب الاتفاق لذلك .

وقرأ الحسنُ{[18710]} " نُوفِي " بتخفيف الفاء وثبوتِ الياء من " أوْفَى " ، ثمَّ هذه القراءةُ محتملةٌ : لأن يكون الفعل مجزوماً ، وقُدِّر جزمه بحذفِ الحركةِ المقدرة ؛ كقوله : [ الوافر ]

ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي *** بِمَا لاقَتْ لبُونُ بَنِي زِيادِ{[18711]}

على أنَّ ذلك يأتي في السَّعةِ نحو : { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ } [ يوسف : 90 ] وسيأتي مُحَرَّراً في سورته ، ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعاً لوقوع الشَّرط ماضياً ؛ كقوله : [ الطويل ] .

وإنْ شُلَّ ريْعَانُ الجَميعِ مَخَافَةً *** نَقُولُ جِهَاراً : ويْلَكُمْ لا تُنَفِّرُوا{[18712]}

وكقول زهير : [ البسيط ]

وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ *** يقُولُ لا غَائِبٌ مالِي ولا حَرِمُ{[18713]}

وهل يجوزُ الرفع ؛ لأنه على نيَّة التقديم ، وهو مذهب سيبويه ، أو على نيَّة الفاءِ ، كما هو مذهب المبرد ؛ خلافٌ مشهورٌ .

ومعنى { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } أي : نُوفِّ إليهم أجور أعمالهم في الدنيا بسعةِ الرزق ودفع المكاره وما أشبهها .

{ وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } أي : في الدنيا لا ينقص حظهم .

" روى أنس - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف ومجد وكرم وبجل وعظم قال : " إنَّ الله لا يَظْلِمُ المؤمنَ حَسَنَةً يُثاب عليْهَا الرزقَ في الدُّنيا ، ويُجْزَى عليها فِي الآخِرةِ ، وأمَّا الكَافِرُ فيُطْعَمُ بِحسنَاتِهِ في الدُّنْيَا حتَّى إذا أفْضَى إلى الآخرةِ لمْ تَكُنْ لهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بها خَيْراً " {[18714]} .


[18702]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (3/584) وعزاه إلى الطبري وابن أبي حاتم وأبي الشيخ وابن مردويه عن أنس.
[18703]:أخرجه الترمذي (4/512) كتاب الزهد: باب ما جاء في الرياء والسمعة حديث (2383) وابن ماجه (1/94) المقدمة: باب الانتفاع بالعلم والعمل به حديث (256) من حديث أبي هريرة. وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
[18704]:ذكره السيوطي في الجامع الكبير (3264) وذكره المتقي الهندي في "كنز العمال" (3/473) رقم (7485) وعزاه إلى أبي عبد الرحمن السلمي في الأربعين الصوفية والديلمي في "مسند الفردوس" عن ابن عمر .
[18705]:تقدم.
[18706]:تقدم.
[18707]:ينظر: المحرر الوجيز 3/156 والبحر المحيط 5/210، والدر المصون 4/84.
[18708]:ينظر: الكشاف 2/384، والبحر المحيط 5/210.
[18709]:تقدم.
[18710]:ينظر: الكشاف 2/384، والدر المصون 4/84.
[18711]:البيت لقيس بن زهير. ينظر: الكتاب 3/316 والخصائص 1/333 والمحتسب 1/67 وأمالي ابن الشجري 1/84 والنوادر (203) وشرح ديوان الحماسة 3/1481 وشرح المفصل لابن يعيش 8/24 والخزانة 8/359 واللسان (أتى) والمغني 1/108 والإنصاف 1/30 والمنصف 2/81، 14 والدر المصون 4/84.
[18712]:تقدم.
[18713]:تقدم.
[18714]:أخرجه مسلم 4/2162، كتاب صفات المنافقين: باب جزاء المؤمن بحسناته (56-2808)، وأحمد في المسند 3/123-283.