{ 17 - 23 } وقوله تعالى : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى * قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى * وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى * لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى }
لما بين الله لموسى أصل الإيمان ، أراد أن يبين له ويريه من آياته ما يطمئن به قلبه ، وتقر به عينه ، ويقوي إيمانه ، بتأييد الله له على عدوه فقال : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } هذا ، مع علمه تعالى ، ولكن لزيادة الاهتمام في هذا الموضع ، أخرج الكلام بطريق الاستفهام ، فقال موسى : { هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي } .
ثم بين - سبحانه - بعض التوجيهات والأوامر التى وجهها - عز وجل - إلى نبيه موسى - عليه السلام - كما حكى ما التمسه موسى من خالقه - تعالى - فقال : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ . . . } .
الاستفهام فى قوله - تعالى - : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } للتقرير ، لأن الله - تعالى - عالم بما فى يمين موسى ، فالمقصود من هذا السؤال اعتراف موسى وإقراره بأن ما في يده إنما هى عصا فيزداد بعد ذلك يقينه بقدرة الله - تعالى - عندما يرى العصا التى بيمينه قد انقلبت حية تسعى .
قال صاحب الكشاف : إنما سأله - سبحانه - ليريه عظم ما يخترعه - عز وعلا - فى الخشبة اليابسة من قلبها حية نضاضة - أى تحرك لسانه فى فمها - ، وليقرر فى نفسه المباينة البعيدة بين المقلوب عنه ، والمقلوب إليه ، وينبهه على قدرته الباهرة . ونظيره أن يريك الزراد زبرة من حديد - أى قطعة من حديد - ويقول لك : ما هى ؟ فتقول : زبرة حديد . ثم يريك بعد أيام لبوسا مسردا فيقول لك : هى تلك الزبرة صيرتها إلى ما ترى من عجيب الصنعة ، وأنيق السرد . . .
والآية الكريمة : شروع فى بيان ما كلف الله - تعالى - به عبده موسى - عليه السلام - من الأمور المتعلقة بالخلق ، إثر حكاية ما أمر - سبحانه - به موسى من إخلاص العبادة له ، والإيمان بالساعة وما فيها من حساب وثواب وعقاب .
والمعنى : وأى شىء بيدك اليمنى يا موسى ؟
فأجاب موسى بقوله - كما حكى القرآن عنه { قَالَ هِيَ عَصَايَ }
هذا برهان من الله تعالى لموسى ، عليه السلام ، ومعجزة عظيمة ، وخرق للعادة باهر ، دال{[19237]} على أنه لا يقدر على مثل هذا إلا الله عز وجل ، وأنه لا يأتي به إلا نبي مرسل ، وقوله : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } قال بعض المفسرين : إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له . وقيل : إنما قال له ذلك على وجه التقرير ، أي : أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها ، فسترى ما نصنع بها الآن ، { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى } استفهام تقرير .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَمُوسَىَ } .
يقول تعالى ذكره : وما هذه التي في يمينك يا موسى ؟ فالباء في قوله بِيَمِينِكَ من صلة تلك ، والعرب تصل تلك وهذه كما تصل الذي ومنه قول يزيد بن مفرغ :
عَدسْ ما لِعَبّادٍ عَلَيْكِ إمارَةٌ *** أمِنْتِ وَهَذَا تَحْمَلِينَ طَلِيقُ
كأنه قال : والذي تحملين طليق .
ولعلّ قائلاً أن يقول : وما وجه استخبار الله موسى عما في يده ؟ ألم يكن عالما بأن الذي في يده عصا ؟ قيل له : إن ذلك على غير الذي ذهبتَ إليه ، وإنما قال ذلك عزّ ذكره له إذا أراد أن يحوّلها حية تسعى ، وهي خشبة ، فنبهه عليها ، وقرّره بأنها خشبة يتوكأ عليها ، ويهشّ بها على غنمه ، ليعرّفه قُدرته على ما يشاء ، وعظم سلطانه ، ونفاذ أمره فيما أحبّ بتحويله إياها حيّة تسعى ، إذا أراد ذلك به ليجعل ذلك لموسى آية مع سائر آياته إلى فرعون وقومه .
وقوله عز وجل { وما تلك بيمينك يا موسى } تقرير مضمنه التنبيه وجمع النفس لتلقي ما يورد عليها وإلا فقد علم ما هي في الأزل ، وقوله { بيمينك } من صلة تلك وهذا نظير قول الشاعر يزيد بن ربيعة : [ الطويل ]
عدسْ ما لعباد عليك إمارة . . . نجوت وهذا تحملين طليق{[8094]}
قال ابن الجوهري : وروي في بعض الآثار أن الله تعالى عتب على موسى إضافة العصا إلى نفسه في ذلك الموطن فقيل له { ألقها } [ طه : 19 ] ليرى منها العجب فيعلم أنه لا ملك له عليها ولا تضاف إليه .