قوله تعالى : { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق } وهم عيسى وعزير والملائكة فإنهم عبدوا من دون الله ، ولهم الشفاعة ، وعلى هذا يكون من في محل الرفع ، وقيل : من في محل الخفض ، وأراد بالذين يدعون عيسى وعزير والملائكة ، يعني أنهم لا يملكون الشفاعة إلا لمن شهد الحق ، والأول أصح ، وأراد بشهادة الحق قوله لا إله إلا الله كلمة التوحيد ، { وهم يعلمون } بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم .
{ وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ } أي : كل من دعي من دون اللّه ، من الأنبياء والملائكة وغيرهم ، لا يملكون الشفاعة ، ولا يشفعون إلا بإذن اللّه ، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ، ولهذا قال : { إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ } أي : نطق بلسانه ، مقرا بقلبه ، عالما بما شهد به ، ويشترط أن تكون شهادته بالحق ، وهو الشهادة للّه تعالى بالوحدانية ، ولرسله بالنبوة والرسالة ، وصحة ما جاءوا به ، من أصول الدين وفروعه ، وحقائقه وشرائعه ، فهؤلاء الذين تنفع فيهم شفاعة الشافعين ، وهؤلاء الناجون من عذاب اللّه ، الحائزون لثوابه .
ثم بين - سبحانه - أنه لا شفاعة لأحد إلا بإذنه ، فقال : ولا يملك الذين يدعون من دون الشفاعة إلا من شهد بالحق وهم يعلمون . والمراد بالموصول فى قوله : { وَلاَ يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ } الأصنام وغيرها مما عبد من دون الله - تعالى - ، وهو فاعل ، وجملة { يَدْعُونَ } صلة لا محل لها من الإِعراب ، والعائد محذوف .
والشفاعة من الشفع بمعنى الضم ، لأن الشفيع ينضم إلى المشفوع له ، فيصير شفعا بعد أن كان فردا .
والاستثناء فى قوله { إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق } متصل ، لأن المستثنى منه عام ، ثم استثنى منه الموحدون ، كعيسى ابن مريم .
والمعنى : ولا يملك المعبودون من دون الله - تعالى - الشفاعة لأحد من الناس ، إلا من شهد بالحق منهم ، وأخلص العبادة لله - تعالى - وحده ، كعيسى ابن مريم ، وعزيز ، والملائكة ، فهؤلاء يملكونها إذا أذن الله - سبحانه - لهم بها .
ويجوز أن يكون الاستثناء منقطعا ، إذا كان المستثنى منه خاصا بالأصنام فيكون المعنى : ولا تملك الصنام الشفاعة لأحد ، لكن من شهد بالحق وبوحدانية الله كعيسى ابن مريم وغيره ، فإنه يملكها بإذن الله - تعالى - .
ويصح أن يكون المراد بقوله : { إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق } المؤمن المشفوع فيه فيكون المعنى : ولا يملك أحد الشفاعة لأحد . إلا لمن آمن بالله - تعالى - ويشهد الشهادة الحق وهو المؤمن ، فإنه تجوز الشافعة له ، أما الكافر فلا يملك أحد أن يشفع له . كما قال - تعالى - : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } وجملة { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } حالية . أى : والحال أنهم يعلمون علما يقينا ، أن المستحق للعباد هو الله - تعالى - .
وقيد - سبحانه - الشهادة بقوله { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } للإِشعار بأن الشهادة بالحق مع العلم بها هى المعتدة ، أما الشهادة بدون علم بالمشهود بها فإنها لا تكون كذلك .
وجمع - سبحانه - الضمير { هُمْ } باعتبار معنى { مَّنْ } ، وأفرده فى ضمير { شَهِدَ } باعتبار لفظها .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ يَمْلِكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشّفَاعَةَ إِلاّ مَن شَهِدَ بِالْحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معنى ذلك : ولا يملك عيسى وعزير والملائكة الذين يعبدهم هؤلاء المشركون بالساعة ، الشفاعة عند الله لأحد ، إلا من شهد بالحقّ ، فوحد الله وأطاعه ، بتوحيد علم منه وصحة بما جاءت به رسله . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَلا يَمْلِكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونه الشّفاعَةَ قال : عيسى ، وعُزير ، والملائكة .
قوله : إلاّ مَنْ شَهِدَ بالحَقّ قال : كلمة الإخلاص ، وهم يعلمون أن الله حقّ ، وعيسى وعُزير والملائكة يقول : لا يشفع عيسى وعُزير والملائكة إلاّ من شهد بالحقّ ، وهو يعلم الحق .
وقال آخرون : عني بذلك : ولا تملك الاَلهة التي يدعوها المشركون ويعبدونها من دون الله الشفاعة إلاّ عيسى وعُزير وذووهما ، والملائكة الذين شهدوا بالحقّ ، فأقرّوا به وهم يعلمون حقيقة ما شهدوا به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَلا يَمْلِكُ الّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دونِهِ الشّفاعَةَ إلاّ مَنْ شَهِدَ بالحَقّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ : الملائكة وعيسى وعُزير ، قد عُبِدوا من دون الله ولهم شفاعة عند الله ومنزلة .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة إلاّ مَنْ شَهِدَ بالحَقّ قال : الملائكة وعيسى ابن مريم وعُزير ، فإن لهم عند الله شهادة .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لا يملك الذين يعبدهم المشركون من دون الله الشفاعة عنده لأحد ، إلاّ من شهد بالحقّ ، وشهادته بالحقّ : هو إقراره بتوحيد الله ، يعني بذلك : إلاّ من آمن بالله ، وهم يعلمون حقيقة توحيده ، ولم يخصص بأن الذي لا يملك ملك الشفاعة منهم بعض من كان يعبد من دون الله ، فذلك على جميع من كان تعبد قريش من دون الله يوم نزلت هذه الاَية وغيرهم ، وقد كان فيهم من يعبد من دون الله الاَلهة ، وكان فيهم من يعبد من دونه الملائكة وغيرهم ، فجميع أولئك داخلون في قوله : ولا يملك الذين يدعو قريش وسائر العرب من دون الله الشفاعة عند الله . ثم استثنى جلّ ثناؤه بقوله : إلاّ مَنْ شَهِدَ بالحَقّ وَهُم يَعْلَمُونَ وهم الذين يشهدون شهادة الحقّ فيوحدون الله ، ويخلصون له الوحدانية ، على علم منهم ويقين بذلك ، أنهم يملكون الشفاعة عنده بإذنه لهم بها ، كما قال جلّ ثناؤه : وَلا يَشْفَعُونَ إلا لِمَن ارْتَضَى فأثبت جلّ ثناؤه للملائكة وعيسى وعُزير ملكهم من الشفاعة ما نفاه عن الاَلهة والأوثان باستثنائه الذي استثناه .
قوله تعالى : { ولا يملك } الآية مخاطبة لمحمد عليه السلام . و : { الذين } هم المعبودون ، والضمير في : { يدعون } هو للكفار الذين عبدوا غير الله عز وجل ، فأعلم تعالى أن من عبد من دون الله فإنه لا يملك شفاعة عند الله يوم القيامة .
وقرأ الجمهور : «يدعون » بالياء من تحت . وقرأ ابن وثاب : «تدعون » ، بالتاء من فوق ، ثم استثنى تعالى من هذه الأخبار ، واختلف الناس في المستثنى ، فقال قتادة : استثنى ممن عبد من دون الله : عيسى وعزيراً والملائكة ، والمعنى فإنهم يملكون شفاعة ، بأن يملكها الله إياهم ، إذ هم ممن شهد بالحق وهم يعلمونه في كل أحوالهم ، فالاستثناء على هذا التأويل متصل وقال مجاهد وغيره : استثنى من في المشفوع فيهم ، فكأنه قال : لا يشفع هؤلاء الملائكة وعزير وعيسى إلا فيمن شهد بالحق وهو يعلمه ، أي هو بالتوحيد ، فالاستثناء على هذا التأويل منفصل ، كأنه قال : لكن من يشهد بالحق يشفع فيهم هؤلاء ، والتأويل الأول أصوب ، والله أعلم .
لما أنبأهم أن لله ملكَ السماوات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة أعلمهم أن ما يعبدونه من دون الله لا يقدر على أن يشفع لهم في الدنيا إبطالاً لزعمهم أنهم شفعاؤهم عند الله . ولما كان من جملة من عُبدوا دون الله الملائكة استثناهم بقوله : { إلا من شهد بالحق وهم يعلمون } أي فهم يشفعون ، وهذا في معنى قوله : { وَقَالُوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عبادٌ مكرمون } [ الأنبياء : 26 ] ثم قال : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } وقد مضى في سورة الأنبياء ( 28 ) .
ووصف الشفعاء بأنهم شَهِدوا بالحق وهم يعلمون أي وهم يعلمون حال من يستحق الشفاعة . فقد علم أنهم لا يشفعون للذين خالف حالهم حال من يشهد لله بالحق .