نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَلَا يَمۡلِكُ ٱلَّذِينَ يَدۡعُونَ مِن دُونِهِ ٱلشَّفَٰعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِٱلۡحَقِّ وَهُمۡ يَعۡلَمُونَ} (86)

ولما أرشد السياق قطعاً إلى التقدير : فلا شريك له في شيء من ذلك ولا ولده ولا يقدر أحد منهم على التخلف عن الرجوع إليه كما أنه لا يقدر أحد على مدافعة قضائه وقدره ، عطف عليه قوله : { ولا يملك } أي بوجه من الوجوه في وقت ما { الذين يدعون } أي يجعلونهم في موضع الدعاء بعبادتهم لهم ، وبين سفول رتبتهم بقوله تعالى : { من دونه } من أدنى رتبة من رتبته من الأصنام والملائكة والبشر وغيرهم { الشفاعة } أي فلا يكون منهم شفيع كما زعموا أنهم شفعاؤهم { إلا من شهد } أي منهم { بالحق } . أي التوحيد الذي يطابقه الواقع إذا انكشف أتم انكشاف وكذا ما يتبعه فإنه يكون أهلاً لأن يشفع كالملائكة والمسيح عليهم الصلاة والسلام ، والمعنى أن أصنامهم التي ادعوا أنها تشفع لهم لا تشفع غير أنه تعالى ساقه على أبلغ ما يكون لأنه كالدعوى .

ولما كان ذلك مركوزاً حتى في فطر الكفار فلا يفزعون في وقت الشدائد إلا إلى الله ، ولكنهم لا يلبثون أن يعملوا من الإشراك بما يخالف ذلك ، فكأنه لا علم لهم قال : { وهم } أي والحال أن من شهد { يعلمون } أي على بصيرة مما شهدوا به ، فلذلك لا يعملون بخلاف ما شهدوا إلا جهلاً منهم بتحقيق معنى التوحيد ، فلذلك يظنون أنهم لم يخرجوا عنه وإن أشركوا ، أو يكون المعنى : وهم من أهل العلم ، والأصنام ليسوا كذلك ، وكأنه أفرد أولاً إشارة إلى أن التوحيد فرض عين على كل أحد بخصوصه وإن خالفه كل غير ، وجمع ثانياً إيذاناً بالأمر بالمعروف ليجتمع الكل على العلم والتوحيد هو الأساس الذي لا تصح عبادة إلا به ، وتحقيقه هو العلم الذي لا علم يعدله ، قال الرازي في اللوامع : وجميع الفرق إنما ضلوا حيث لم يعرفوا معنى الواحد على الوجه الذي ينبغي إذ الواحد قد يكون مبدأ العدد ، وقد يكون مخالطاً للعدد ، وقد يكون ملازماً للعدد ، والله تعالى منزه عن هذه الوحدات - انتهى .

ففي الآية تبكيت لهم في أنهم يوحدون في أوقات ، فإذا أنجاهم الذي وحدوه جعلوا شكرهم له في الرخاء إشراكهم به ، ومنع لهم من ادعاء هذه الرتبة ، وهي الشهادة بالحق لأنهم انسلخوا بإشراكهم عن العلم ، وأن الملائكة لا تشفع لهم لأن ذلك يؤدي إلى أن تكون قد عملت بخلاف ما تعلم ، وذلك ينتج الانسلاخ من العلم المؤهل للشفاعة ، وقال ابن الجوزي : وفي الآية دليل على أن شرط جميع الشهادات أن يكون الشاهد عالماً بما يشهد به .