والفاء فى قوله - تعالى - : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } للتفريع على ما تقدم من طلب سليمان من ربه أو يهبه ملكا لا ينبغى لأحد من بعده . والتسخير : التذليل والانقياد . أى : دعانا - سليمان - عليه السلام والتمس منا أن نعطيه ملكا لا ينبغى لأحد من بعده ، فاستجبنا له دعاءه ، وذللنا له الريح ، وجعلناها منقادة لأمره بحيث تجرى بإذنه رخية لينة ، إلى حيث يريدها أن تجرى .
وقوله : { تَجْرِي } حال من الريح . وقوله { بِأَمْرِهِ } من إضافة المصدر لفاعله . أى : بأمره إياها . ولا تنافى بين هذه الآية وبين قوله - تعالى - فى آية أخرى : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا . . . } لأن المقصود من الآيتين بيان أن الريح تجرى بأمر سليمان ، فهى تارة تون لينة وتارة تكون عاصفة ، وفى كلتا الحالتين هى تسير بأمره ورغبته .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَسَخّرْنَا لَهُ الرّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } :
يقول تعالى ذكره : فاستجبنا له دعاءه ، فأعطيناه مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده فَسَخّرَنَا لَهُ الرّيحَ مكان الخيل التي شغلته عن الصلاة تَجْرِي بأمْرِهِ رُخاءً يعني : رخوة لينة ، وهي من الرخاوة ، كما :
حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، أن نبيّ الله سليمان صلى الله عليه وسلم لما عرضت عليه الخيل ، فشغله النظر إليها عن صلاة العصر حتى تَوَارَتْ بالحِجابِ فغضب لله ، فأمر بها فعُقرت ، فأبد له الله مكانها أسرع منها ، سخر الريح تجري بأمره رُخاء حيث شاء ، فكان يغدو من إيلياء ، ويقيل بقَزْوين ، ثم يروح من قزوين ويبيت بكابُل .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( وَهَبْ لي مُلْكا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدي ) فإنه دعا يوم دعا ولم يكن في مُلكه الريح ، وكلّ بنّاء وغوّاص من الشياطين ، فدعا ربه عند توبته واستغفاره ، فوهب الله له ما سأل ، فتمّ مُلكه .
واختلف أهل التأويل في معنى الرخاء ، فقال فيه بعضهم : نحو الذي قلنا فيه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : تَجْرِي بأَمْرِهِ رُخاءً قال : طَيّبة .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد بنحوه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( فَسَخّرْنا لَهُ الرّيحَ تَجْرِي بأمْره رُخاءً حَيْثُ أصَابَ ) قال : سريعة طيبة ، قال : ليست بعاصفة ولا بطيئة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : رُخاءً قال : الرخاء اللينة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو عامر ، قال : حدثنا قرة ، عن الحسن ، في قوله : ( رُخاءً حَيْثُ أصَابَ ) قال : ليست بعاصفة ، ولا الهَيّنة بين ذلك رُخاء . وقال آخرون : معنى ذلك : مطيعة لسليمان . ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ( رُخاءً ) يقول : مُطيعة له .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ( تَجْرِي بأَمْرِهِ رُخاءً ) قال : يعني بالرّخاء : المطيعة .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : ( تَجْرِي بأمْرِهِ رُخاءً ) قال : مطيعة .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( رُخاءً ) يقول : مطيعة .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ( رُخاءً )قال : طوعا .
وقوله : حَيْثُ أصَابَ يقول : حيث أراد ، من قولهم : أصاب الله بك خيرا : أي أراد الله بك خيرا . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك : حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ عن ابن عباس ، قوله : ( حَيْثُ أصَابَ ) يقول : حيث أراد .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : ( حَيْثُ أصَابَ ) يقول : حيث أراد ، انتهى عليها .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : ( حَيْثُ أصَابَ ) قال : حيث شاء .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي رجاء ، عن الحسن ، في قوله : ( حَيْثُ أصَابَ ) قال : حيث أراد .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : ( حَيْثُ أصَابَ ) قال : إلى حيث أراد .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : ( حَيْثُ أصَابَ ) قال : حيث أراد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن بعض أهل العلم ، عن وهب بن منبه حَيْثُ أصَابَ : أي حيث أراد .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ( حَيْثُ أصَابَ ) قال : حيث أراد .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : ( حَيْثُ أصَابَ ) قال : حيث أراد .
قرأ الحسن وأبو رجاء : «الرياح » ، والجمهور على الإفراد .
وسخر الله تعالى الريح لسليمان وكان له كرسي عظيم يقال يحمل أربعة آلاف فارس ، ويقال أكثر ، وفيه الشياطين وتظله الطير ، وتأتي عليه الريح الإعصار فتقله من الأرض حتى يحصل في الهواء يتولاه الرخاء ، وهي اللينة القوية المتشابهة لا يتأتي فيها دفع مفرطة فتحمله غدوها شهر ورواحها شهر ، و { حيث أصاب } حيث أراد ، قاله وهب وغيره ، وأنشد الثعلبي : [ المتقارب ]
أصاب الكلام فلم يستطع***فأخطى الجواب لدى المفصل
ويشبه أن { أصاب } معدى : صاب يصوب ، أي حيث وجه جنوده وجعلهم يصوبون صوب السحاب والمطر . قال الزجاج معناه : قصد ، وكذلك قولك للمتكلم أصبت : معناه قصدت الحق .