85- ما أنشأنا السماوات والأرض وما بينهما - من فضاء ، وما فيهما من أناس وحيوان ونبات وجماد ، وغيرها مما لا يعلمه البشر - إلا بالعدل والحكمة والصلاح والذي لا يتفق معه استمرار الفساد وعدم نهايته ، ولذا كان اليوم الذي يكون فيه انتهاء الشر آتيا لا محالة ، واصفح - أيها النبي - الكريم عن المشركين بالنسبة للعقاب الدنيوي ، وعاملهم بالصبر علي أذاهم ، والدعوة بالحكمة معاملة الصفوح الحليم .
أي : ما خلقناهما عبثا وباطلا كما يظن ذلك أعداء الله ، بل ما خلقناهما { إِلَّا بِالْحَقِّ } الذي منه أن يكونا بما فيهما دالتين على كمال خالقهما ، واقتداره ، وسعة رحمته وحكمته ، وعلمه المحيط ، وأنه الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له ، { وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ } لا ريب فيها لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس { فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } وهو الصفح الذي لا أذية فيه بل يقابل إساءة المسيء بالإحسان ، وذنبه بالغفران ، لتنال من ربك جزيل الأجر والثواب ، فإن كل ما هو آت فهو قريب ، وقد ظهر لي معنى أحسن مما ذكرت هنا .
وهو : أن المأمور به هو الصفح الجميل أي : الحسن الذي قد سلم من الحقد والأذية القولية والفعلية ، دون الصفح الذي ليس بجميل ، وهو الصفح في غير محله ، فلا يصفح حيث اقتضى المقام العقوبة ، كعقوبة المعتدين الظالمين الذين لا ينفع فيهم إلا العقوبة ، وهذا هو المعنى .
فقوله - سبحانه - { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق } توجيه للناس إلى التأمل في مظاهر قدرة الله - تعالى - ، وإلى الحق الأكبر الذي قام عليه هذا الوجود ، بعد أن بين - سبحانه - قبل ذلك ، سنته التي لا تتخلف ، وهى أن حسن العاقبة للمتقين ، وسوء المصير للمكذبين .
والحق : هو الأمر الثابت الذي تقتضيه عدالة الله - تعالى - وحكمته .
أى : وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما من كائنات لا يعلمها إلا الله ، إلا خلقًا ملتبسًا بالحق الذي لا يحوم حوله باطل ، وبالعدل الذي لا يخالطه جور وبالحكمة التي تتنزه عن العبث ، وتأبى استمرار الفساد ، واستبقاء ضعف الحق أمام الباطل .
والمراد بالساعة في قوله - تعالى - : { وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ } ساعة البعث والحساب والثواب والعقاب في الآخرة .
أى : وإن ساعة إعطاء كل ذى حق حقه ، ومعاقبة كل ذى باطل على باطله ، لآتية لا ريب فيها ، فمن فاته أخذ حقه في الدنيا فسيأخذه وافيا غير منقوص في الآخرة ، ومن أفلت من عقوبة الدنيا فسينال ما هو أشد وأخزى منها في يوم الحساب .
فالجملة الكريمة انتقال من تهديد المجرمين بعذاب الدنيا ، إلى تهديدهم بعذاب الآخرة ، والمقصود من ذلك تسليته صلى الله عليه وسلم عما أصابه من المكذبين من أذى .
وأكد - سبحانه - هذه الجملة بإن وبلام التوكيد ، ليدل على أن الساعة آتية لا محالة ، وليخرس ألسنة الذين ينكرون وقوعها وحدوثها . . .
وجملة { فاصفح الصفح الجميل } تفريع على ما قبلها .
والصفح الجميل : ترك المؤاخذة على الذنب ، وإغضاء الطرف عن مرتكبه بدون معاتبة .
أى : ما دام الأمر كما ذكرنا لك أيها الرسول الكريم - من أن هذا الكون قد خلقناه بالحق ، ومن أن الساعة آتية لا ريب فيها . . . فاصفح عن هؤلاء المكذبين لك صفحًا جميلاً ، لا عتاب معه ولا حزن ولا غضب . . . حتى يحكم الله بينك وبينهم .
وهذا التعبير فيه ما فيه من تسليته صلى الله عليه وسلم وتكريمه ، لأنه - سبحانه - أمره بالصفح الجميل عن أعدائه ، ومن شأن الذي يصفح عن غيره ، أن يكون أقوى وأعز من هذا الغير - فكأنه - سبحانه - يقول له : اصفح عنهم فعما قريب ستكون لك الكلمة العليا عليهم .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وقوله - سبحانه - : { . . . فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }
يقول تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلا بِالْحَقِّ } أي : بالعدل ؛ { لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى } [ النجم : 31 ] وقال تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ } [ ص : 27 ] وقال { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } [ المؤمنون : 115 - 116 ]
ثم أخبر نبيه بقيام الساعة ، وأنها كائنة لا محالة ، ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين ، في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم{[16226]} به ، كما قال تعالى : { فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ }{[16227]} [ الزخرف : 89 ]
وقال مجاهد وقتادة وغيرهما : كان هذا قبل القتال . وهو كما قالا فإن هذه مكية ، والقتال إنما شرع بعد الهجرة .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاّ بِالْحَقّ وَإِنّ السّاعَةَ لاَتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنّ رَبّكَ هُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : وما خلقنا الخلائق كلها ، سماءها وأرضَها ، ما فيهما وما بَيْنَهُما يعني بقوله : وَما بَيْنَهُما مما في أطباق ذلك . إلاّ بالحَقّ يقول : إلا بالعدل والإنصاف ، لا بالظلم والجَور . وإنما يعني تعالى ذكره بذلك أنه لم يظلم أحدا من الأمم التي اقتصّ قَصَصَها في هذه السورة وقصص إهلاكه إياها بما فعل به من تعجيل النقمة له على كفره به ، فيعذّبه ويهلكه بغير استحقاق لأنه لم يخلق السموات والأرض وما بينهما بالظلم والجور ، ولكنه خالق ذلك بالحقّ والعدل .
وقوله : وإنّ السّاعَةَ لاَتِيَةٌ فاصْفَحِ الصّفْحِ الجَمِيلَ يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : وإن الساعة ، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة لجائية ، فارض بها لمشركي قومك الذين كذّبوك وردّوا عليك ما جئتهم به من الحقّ . فاصْفَحِ الصّفْحِ الجَمِيلَ يقول : فأعرض عنهم إعراضا جميلاً ، واعف عنهم عفوا حسنا .