الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع  
{وَمَا خَلَقۡنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَآ إِلَّا بِٱلۡحَقِّۗ وَإِنَّ ٱلسَّاعَةَ لَأٓتِيَةٞۖ فَٱصۡفَحِ ٱلصَّفۡحَ ٱلۡجَمِيلَ} (85)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} يقول: لم يخلقهما الله عز وجل باطلا، خلقهما لأمر هو كائن، {وإن الساعة لآتية}، يقول: القيامة كائنة،

{فاصفح الصفح الجميل} يقول للنبي صلى الله عليه وسلم: فأعرض عن كفار مكة الإعراض الحسن.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وما خلقنا الخلائق كلها، سماءها وأرضَها، ما فيهما "وما بَيْنَهُما "يعني بقوله: "وَما بَيْنَهُما" مما في أطباق ذلك.

"إلاّ بالحَقّ" يقول: إلا بالعدل والإنصاف، لا بالظلم والجور. وإنما يعني تعالى ذكره بذلك أنه لم يظلم أحدا من الأمم التي اقتصّ قَصَصَها في هذه السورة وقصص إهلاكه إياها بما فعل به من تعجيل النقمة له على كفره به، فيعذّبه ويهلكه بغير استحقاق لأنه لم يخلق السموات والأرض وما بينهما بالظلم والجور، ولكنه خالق ذلك بالحقّ والعدل.

"وإنّ السّاعَةَ لآتِيَةٌ فاصْفَحِ الصّفْحِ الجَمِيلَ" يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإن الساعة، وهي الساعة التي تقوم فيها القيامة لجائية، فارض بها لمشركي قومك الذين كذّبوك وردّوا عليك ما جئتهم به من الحقّ. "فاصْفَحِ الصّفْحِ الجَمِيلَ" يقول: فأعرض عنهم إعراضا جميلاً، واعف عنهم عفوا حسنا.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} الحق الذي جعل تسميته على أهلها، والحق الذي لبعض على بعض. والحق هو اسم كل محمود مختار من القول والفعل، والباطل اسم كل مذموم من القول والفعل. قال بعضهم: تأويله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا} شهودا لله {بالحق} على أهلها.

{إلا بالحق} أي لم يخلقهما لغير شيء، ولكن خلقهما للمحنة؛ يمتحنهم بالعبادة فيها. وإلى هذا ذهب الحسن. وقيل: خلقهما وما بينهما لأمر كائن أي لعاقبة الثواب أو الجزاء، لم يخلقهم للفناء خاصة، ولكن للعاقبة؛ لأن خلق الشيء خاصة عبث، وهو ما قال: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا ترجعون} (المؤمنون: 115) أخبر أن خلقهم لا للرجوع إليه ولا للعاقبة عبث... وجائز أن يكون قوله: {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية} على الاحتجاج على أولئك لإنكارهم الساعة لوجهين: أحدهما: ما ذكرنا أنه لو لم تكن الساعة، حصل خلقهما وما بينهما للفناء خاصة، وخلق الشيء للفناء خاصة عبث باطل كبناء البناء للنقض خاصة لا لعاقبة تقصد عبث. والثاني: أنه يكون في ذلك التسوية بين الأعداء والأولياء. وفي الحكمة التفريق بينهما، وقال: {وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا} الآية (ص: 27) لم يكن ظنهم أنه خلقهما باطلا، ولكن لما أنكروا البعث صار في ظنهم خلقهما باطلا.

{وإن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل} أي أعرض عنهم، ولا تكافئهم بما آذوك بألسنتهم وفعلهم {وإن الساعة لآتية} فأنا كافيهم عنك على أذاهم إياك وصنيعهم يومئذ. الصفح الجميل: هو ما لا نقض فيه، ولا منة في العرف؛ أي اصفح الصفح ما توصف فيه بتمام الأخلاق، وما لا نقض فيه ولا منة. {وإن الساعة لآتية} فتجزى أنت على صفحك الجميل، وهم على أذاك، والله أعلم.

التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :

وجه اتصال هذه بما تقدم ذكره هو أن الأمم لما خالفوا الحق أهلكوا، لأن الله ما خلق "السموات والأرض إلا بالحق "وعلى "أن الساعة آتية" للجزاء وأن جميع ما خلق يرجع إلى عالم به وبتدبيره...وقال الجبائي: أمره بأن يحلم عنهم فيما كانوا يسفهون عليه من شتمه، وسفاهتهم عليه، فلا يقابلهم بمثله.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{إِلاَّ بالحق} إلا خلقاً ملتبساً بالحق والحكمة، لا باطلا وعبثاً. أو بسبب العدل والإنصاف يوم الجزاء على الأعمال {وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ} وإنّ الله ينتقم لك فيها من أعدائك، ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيآتهم؛ فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا لذلك {فاصفح} فأعرض عنهم واحتمل ما تلقى منهم إعراضاً جميلاً بحلم وإغضاء.

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

وقوله تعالى: {وما خلقنا السماوات والأرض} الآية، المراد أن هؤلاء المكتسبين للدنيا الذين لم يغن عنهم اكتسابهم ليسوا في شيء، فإن السماوات والأرض وجميع الأشياء لم تخلق عبثاً ولا سدى، ولا لتكون طاعة الله كما فعل هؤلاء ونظراؤهم، وإنما خلقت بالحق ولواجب مراد وأغراض لها نهايات من عذاب أو تنعيم {وإن الساعة لآتية} على جميع أمور الدنيا، أي فلا تهتم يا محمد بأعمال قومك فإن الجزاء لهم بالمرصاد، {فاصفح} عن أعمالهم، أي ولِّها صفحة عنقك بالإعراض عنها، وأكد الصفح بنعت الجمال إذ المراد منه أن يكون لا عتب فيه ولا تعرض.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

...

.

وفي الآية وجه آخر في النظم وهو أن المقصود من ذكر هذه القصص تصبير الله تعالى محمدا عليه الصلاة والسلام على سفاهة قومه، فإنه إذا سمع أن الأمم السالفة كانوا يعاملون أنبياء الله تعالى بمثل هذه المعاملات الفاسدة، سهل تحمل تلك السفاهات على محمد صلى الله عليه وسلم. ثم إنه تعالى لما بين أنه أنزل العذاب على الأمم السالفة فعند هذا قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وإن الساعة لآتية} وإن الله لينتقم لك فيها من أعدائك ويجازيك وإياهم على حسناتك وسيئاتهم، فإنه ما خلق السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق والعدل والإنصاف، فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك؟ ثم إنه تعالى لما صبره على أذى قومه رغبه بعد ذلك في الصفح عن سيئاتهم فقال: {فاصفح الصفح الجميل}..، وقيل: هو منسوخ بآية السيف وهو بعيد، لأن المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن والعفو والصفح، فكيف يصير منسوخا.

البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :

لم يخلق شيء من ذلك عبثاً ولا هملاً، بل ليطيع من أطاع بالتفكر في ذلك الخلق العظيم، وليتذكر النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى. ولذلك نبه من يتنبه بقوله:"وإن الساعة لآتية"..

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما كان المتعنت ربما قال: ما له يخلقهم ثم يهلكهم وهو عالم حين خلقهم أنهم يكذبون؟ وكانت هذه الآية ملتفتة -مع ما فيها من ذكر الأرض- إلى تلك التي أتبعها ذكر الخافقين، استدلالاً على الساعة، قال على ذلك النمط: {وما خلقنا} أي على عظمتنا {السماوات} أي على ما لها من العلو والسعة {والأرض} على ما بها من المنافع والغرائب {وما بينهما} من هؤلاء المكذبين وعذابهم، ومن المياه والرياح والسحاب المسبب عنه النبات وغير ذلك {إلا بالحق} أي خلقاً ملتبساً بالحق، فيتفكر فيه من وفقه الله فيعلم النشأة الآخرة بهذه النشأة الأولى، أو بسبب الحق من إثبات ثوابت الأمور ونفي مزلزلها، لتظهر عظمتنا بإنصاف المظلوم من الظالم، وإثابة الطائع وعقاب العاصي في يوم الفصل -إلى غير ذلك من الحكم كما قال تعالى: {ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساؤوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى} [النجم:31] فمن أمهلناه في الدنيا أخذنا منه الحق بعد قيام الساعة، فلا بد من فعل ذلك {وإن الساعة لآتية} لأجل إقامة الحق لا شك في إتيانها لحكم علمها سبحانه فيظهر فيها كل ذلك، ويمكن أن يكون التقدير: فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون، وما فعلنا ذلك إلا بالأمر من قولنا "كن "وهو الحق {وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} أي بالأمر

{ألا له الخلق والأمر} [الأعراف:54] يعني أنه لا مشقة علينا في شيء من ذلك، وسنعدم ذلك بالحق إذا أردنا قيام الساعة، وأن الساعة لآتيه، لأنا قد وعدنا بذلك، وليس بينكم وبين كونها إلا أن نريد فتكون كما كان غيرها مما أردناه {فاصفح الصفح} أي فأعرض- بسبب تحقق الأخذ بثأرك -الإعراض {الجميل} بالحلم والإغضاء وسعة الصدر، في مثل قولهم {ياأيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} فإنه لا بد من الأخذ لك منهم بالحق ولو لم يكن لك نصرة إلا في ذلك اليوم لكانت كافية.

روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :

وفسر الراغب {الصفح} نفسه بترك التثريب وذكر انه أبلغ من العفو وفي أمره صلى الله عليه وسلم بذلك إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام قادر على الانتقام منهم فكأنه قيل: أعرض عنهم وتحمل أذيتهم ولا تعجل بالانتقام منهم وعاملهم معاملة الصفوح الحليم، وحاصل ذلك أمره صلى الله عليه وسلم بمخالقتهم بخلق رضى وحلم وتأن بأن ينذرهم ويدعوهم إلى الله تعالى قبل القتال ثم يقاتلهم، وعلى هذا فالآية غير منسوخة...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

تلك السنن العامة التي لا تتخلف، والتي تحكم الكون والحياة، وتحكم الجماعات والرسالات، وتحكم الهدى والضلال، وتحكم المصائر والحساب والجزاء. والتي انتهى كل مقطع من مقاطع السورة بتصديق سنة منها، أو عرض نماذج منه في شتى هذه المجالات.. تلك السنن شاهد على الحكمة المكنونة في كل خلق من خلق الله، وعلى الحق الأصيل الذي تقوم عليه طبيعة هذا الخلق. ومن ثم يعقب السياق في ختام السورة ببيان هذا الحق الأكبر، الذي يتجلى في طبيعة خلق السماوات والأرض وما بينهما. وطبيعة الساعة الآتية لا ريب فيها. وطبيعة الدعوة التي يحملها الرسول [صلى الله عليه وسلم] وقد حملها الرسل قبله. ويجمع بينها كلها في نطاق الحق الأكبر الذي يربطها ويتجلى فيها؛ ويشير إلى أن ذلك الحق متلبس بالخلق، صادر عن أن الله هو الخالق لهذا الوجود: (إن ربك هو الخلاق العليم).. فليمض الحق الأكبر في طريقه، ولتمض الدعوة المستندة إلى الحق الأكبر في طريقها، وليمض الداعية إلى الحق لا يبالي المشركين المستهزئين: (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين).. وسنة الله ماضية فيطريقها لا تتخلف. والحق الأكبر من ورائها متلبسا بالدعوة وبالساعة وبخلق السماوات والأرض، وبكل ما في الوجود الصادر عن الخلاق العليم.. إنها لفتة ضخمة تختم بها السورة. لفتة إلى الحق الأكبر الذي يقوم به هذا الوجود.. (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق، وإن الساعة لآتية. فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم).. إن هذا التعقيب بتقرير الحق الذي تقوم به السماوات والأرض، والذي به كان خلقهما وما بينهما، لتعقيب عظيم الدلالة، عميق المعنى، عجيب التعبير. فماذا يشير إليه هذا القول: (وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق)؟ إنه يوحي بأن الحق عميق في تصميم هذا الوجود: عميق في تكوينه. عميق في تدبيره. عميق في مصير هذا الوجود وما فيه ومن فيه. عميق في تصميم هذا الوجود. فهو لم يخلق عبثا، ولم يكن جزافا، ولم يتلبس بتصميمه الأصيل خداع ولا زيف ولا باطل. والباطل طارئ عليه ليس عنصرا من عناصر تصميمه. عميق في تكوينه. فقوامه من العناصر التي يتألف منها حق لا وهم ولا خداع. والنواميس التي تحكم هذه العناصر وتؤلف بينها حق لا يتزعزع ولا يضطرب ولا يتبدل. ولا يتلبس به هوى أو خلل أو اختلاف. عميق في تدبيره. فبالحق يدبر ويصرف، وفق تلك النواميس الصحيحة العادلة التي لا تتبع هوى ولا نزوة، إنما تتبع الحق والعدل. عميق في مصيره. فكل نتيجة تتم وفق تلك النواميس الثابتة العادلة؛ وكل تغيير يقع في السماوات والأرض وما بينهما يتم بالحق وللحق. وكل جزاء يترتب يتبع الحق الذي لا يحابي. ومن هنا يتصل الحق الذي خلق الله به السماوات والأرض وما بينهما، بالساعة الآتية لا ريب فيها. فهي آتية لا تتخلف. وهي جزء من الحق الذي قام به الوجود. فهي في ذاتها حقيقة، وقد جاءت لتحق الحق.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

موقع الواو في صدر هذه الجملة بديع، فهذه الجملة صالحة لأن تكون تذييلاً لقصص الأمم المعذبة ببيان أن ما أصابهم قد استحقّوه فهو من عدل الله بالجزاء على الأعمال بما يناسبها، ولأن تكون تصديراً للجملة التي بعدها وهي جملة {وإن الساعة لآتية}. والمراد ساعة جزاء المكذّبين بمحمد صلى الله عليه وسلم أي ساعة البعث. فعلى الأول تكون الواو اعتراضية أو حالية، وعلى الثّاني عاطفةً جملة على جملة وخبراً على خبر. على أنه قد يكون العطف في الحالين لجعلها مستقلة بإفادة مضمونها لأهميته مع كونها مكمّلة لغيرها، وإنما أكسبها هذا الموقع البديع نظمُ الجمل المعجز والتنقل من غرض إلى غرض بما بينها من المناسبة.

وتشمل {السموات والأرض وما بينهما} أصناف المخلوقات من حيوان وجماد، فشمل الأمم التي على الأرض وما حلّ بها، وشمل الملائكة الموكّلين بإنزال العذاب، وشمل الحوادث الكونية التي حلّت بالأمم من الزلازل والصواعق والكِسف. والباء في {إلا بالحق} للملابسة متعلقة ب {خلقنا}، أي خلقا ملابساً للحقّ ومقارناً له بحيث يكون الحقّ بادياً في جميع أحوال المخلوقات. والملابسة هنا عرفية؛ فقد يتأخّر ظهور الحقّ عن خلق بعض الأحوال والحوادث تأخّراً متفاوتاً. فالملابسة بين الخلق والحقّ تختلف باختلاف الأحوال من ظهور الحقّ وخفائه؛ على أنّه لا يلبث أن يظهر في عاقبة الأمور كما دلّ عليه قوله تعالى: {بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق} [سورة الأنبياء: 18].

والحقّ: هنا هو إجراء أحوال المخلوقات على نظام ملائم للحكمة والمناسبة في الخير والشرّ، والكمال والنقص، والسموّ والخفض، في كلّ نوع بما يليق بماهيته وحقيقته وما يُصلحه، وما يصلح هو له، بحسب ما يقتضيه النظام العام لا بحسب الأميال والشهوات، فإذا لاح ذلك الحقّ الموصوف مقارناً وجودُه لوجود محقوقه فالأمر واضح، وإذا لاح تَخلّف شيء عن مناسبة فبالتأمّل والبحث يتّضح أن وراء ذلك مناسبة قضت بتعطيل المقارنة المحقوقة، ثم لا يتبدّل الحقّ آخر الأمر. وهذا التأويل يُظهره موقع الآية عقب ذكر عقاب الأمم التي طغت وظلمت، فإن ذلك جزاء مناسبٌ تمردَها وفسادَها، وأنها وإن أمهلت حيناً برحمة من الله لحكمة استبقاء عمران جزء من العالم زماناً فهي لم تُفلت من العذاب المستحقّ لها، وهو من الحقّ أيضاً فما كان إمهالها إلاّ حقّاً، وما كان حلول العذاب بها إلاّ حقّاً عند حلول أسبابه، وهو التمرّد على أنبيائهم وكذلك القول في جزاء الآخرة أن تعطّل الجزاء في الدّنيا بسبب عطل ما اقتضته الحكمة العامة أو الخاصة.

وموقع جملة {وإن الساعة لآتية} في الكلام يجعلها بمنزلة نتيجة الاستدلال، فمن عرف أن جميع المخلوقات خلقت خلقاً ملابساً للحقّ وأيقن به علم أن الحقّ لا يتخلّف عن مستحقِّه ولو غاب وتأخّر، وإن كان نظام حوادث الدنيا قد يعطّل ظهور الحقّ في نصابه وتخلّفه عن أربابه. فعُلم أنّ وراء هذا النّظام نظاماً مدّخراً يتّصل فيه الحقّ بكل مستحقّ إن خيراً وإن شراً، فلا يُحْسبَنّ من فات من الذين ظلموا قبل حلول العذاب بهم مفلتاً من الجزاء فإن الله قد أعدّ عالماً آخر يعطي فيه الأمور مستحقّيها فلذلك أعقب الله و {وما خلقنا السموات والأرض} بآية {وإن الساعة لأتية}، أي أن ساعة إنفاذ الحقّ آتية لا محالة فلا يريبك ما تراه من سلامة مكذّبيك وإمهالهم كما قال تعالى: {وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على ما يفعلون} [سورة يونس: 41]

وقد كانت هذه الجملة في مقتضى الظاهر حريّة بالفصل وعدم العطف لأن حقّها الاستئناف ولكنها عطفت لإبرازها في صورة الكلام المستقلّ اهتماماً بمضمونها، ولأنها تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام على ما يلقاه من قومه، وليصحّ تفريع أمره بالصّفح عنهم في الدنيا لأن جزاءهم موكول إلى الوَقت المقدر. وفي إمهال الله تعالى المشركين ثم في إنجائهم من عذاب الاستئصال حكمة تحقّق بها مراد الله من بقاء هذا الدّين وانتشاره في العالم بتبليغ العرب إيّاه وحمْله إلى الأمم.

وتفريع {فاصفح الصفح الجميل} على قوله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} باعتبار المعنى الكنائي له، وهو أن الجزاء على أعمالهم موكول إلى الله تعالى فلذلك أمر نبيّه صلى الله عليه وسلم بالإعراض عن أذاهم وسوء تلقّيهم للدّعوة.

و {الصفح}: العفو. وقد تقدم في قوله تعالى: {فاعف عنهم واصفح} في سورة العقود (13). وهو مستعمل هنا في لازمه وهو عدم الحزن والغضب من صنيع أعداء الدّين وحذف متعلق الصّفح لظهوره، أي عمن كذّبك وآذاك. {والجميل}: الحسن. والمراد الصفح الكامل.

ثمّ إن في هذه الآية ضرباً من ردّ العجز على الصدر، إذ كان قد وقع الاستدلال على المكذبين بالبعث بخلق السماوات والأرض عند قوله: {ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكّرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون ولقد جعلنا في السماء بروجاً} [سورة الحجر: 14 16] الآيات. وختمت بآية: وإنا لنحن نحيي ونميت ونحن الوارثون إلى قوله تعالى: {وإن ربك هو يحشرهم} [سورة الحجر: 23 25]. وانتقل هنالك إلى التذكير بخلق آدم عليه السلام وما فيه من العِبر. ثم إلى سَوق قصص الأمم الّتي عقبت عصور الخلقة الأولى فآن الأوان للعود إلى حيث افترق طريق النظم حيث ذكر خلق السماوات ودلالته على البعث بقوله تعالى: وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق} الآيات، فجاءت على وزان قوله تعالى: {ولقد جعلنا في السماء بروجاً} [سورة الحجر: 16] الآيات. فإن ذلك خلق بديع. وزيد هنا أن ذلك خُلق بالحقّ. وكان قوله تعالى: {وإن الساعة لآتية} فذلكة لقوله تعالى: {وإنا لنحن نحيي ونميت} إلى: {وإن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم} [سورة الحجر: 25]، فعاد سياق الكلام إلى حيث فارق مهيعه. ولذلك تخلص إلى ذكر القرآن بقوله: {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني} [سورة الحجر: 87] الناظر إلى قوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [سورة الحجر: 9].

زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :

{وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق}، ما خلق هذه الثلاث: سموات ذات أبراج، وأرض ذات طبقات، وما بينهما من فضاء فيه عجائب، وفيه أحياء، وفي أسرار للوجود التي لا يدركها الذين يرتفعون و ينخفضون، إنما يدركون المؤمنون برب هذا الوجود، ما خلق ذلك إلا بالحق إلا بأمر ثابت مؤكد الحصول هو غاية الوجود، ما خلق الناس ليتمتعوا، ويأكلوا، ويلهوا ويعبثوا، ما خلق الله ذلك بغير حكمة ظاهرة، ولا نهاية قاهرة، وإنما خلقها ليعمر هذا الوجود، وتسوده الفضيلة، وتبعد عنه الرذيلة، ويحكمه الخير، ولا يحكمه الشر، ويكون الحساب من بعد ذلك؛ ولذا قال: {وإن الساعة لآتية}...

{وإن الساعة لآتية}...وعبر عنه بالساعة إشارة إلى أنها ساعة فاصلة بين حياة دنيا فيها لهو ولعب، وحياة فيها الحساب والجزاء، إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، إنها للجنة أبدا، أو للنار أبدا، وهي الساعة التي لا يدرك كنهها إلا عند نزولها، وهي الجديرة وحدها بأن تسمى ساعة، وقد أكد سبحانه وتعالى مجيئها باللام وب (أن).

وقوله تعالى: {فاصفح الصفح الجميل}، والصفح يتضمن الإعراض عن الإساءة وعدم التخلي عن الدعوة والاستمرار فيها، وتضمنت كلمة الجميل بيان أن يلقاهم بقلب مفتوح ليفتحوا قلوبهم للاستجابة، أو ليفتح هو هذه القلوب التي أصابتها غشاوة. وفي هذا إشارة إلى معنى جليل في الداعي، وخصوصا الرسول الأمين رسول رب العالمين، وهو أن الداعي لا يستفزه غضب ولا يثيره أذى، ولا يمنعه تجهم وسوء معاملة، بل يجب أن يكون البشير النذير دائما في قرب للقلوب، وإدناء للنافر وإيناس للشارد؛ لأنه الطبيب المداوي، وليس الحاكم المسيطر {لست عليهم بمسيطر} (الغاشية 22).لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ذا شخصية قوي عالية، من شأنها أن تعلوا دائما، وهي ترهب الفجار، ولكن لم يدع محمد صلى الله عليه وسلم في مكة إلا بقوة الدليل، وبالنفس الأليف التي تقرب ولا تبعد...

وما كان النبي صلى الله عليه وسلم ليستخدم تلك الشخصية التي تفرض الحق على من يخاطبه، إنما تطامن ورضى بأن يكون الداعي غير الغليظ إدناء للنفوس. هذا معنى الصفح الجميل، أي الإعراض في قرب ومودة وإلف من جانبه؛ ولذا كان الإسلام ينمو ويزيد ولا ينقص ويقل.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

خلق السموات والأرض بالحق {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بِالْحَقِّ}، الذي يجعل لكل ظاهرةٍ من ظواهرها، ولكل حركةٍ من حركاتها، ولكل موجود فيها، سرّاً كونيّاً ثابتاً يمنع من العبث فيها، وغاية حكيمة تخرجها من اللغو والباطل، الأمر الذي يلتقي فيه النظام الذي يحكم ظواهر الكون، بالنظام الذي يحكم حياة الإنسان على قاعدةٍ ثابتةٍ تحكم الخلق كله، وبذلك يتحرك الخط الذي أراد الله للحياة أن تسير عليه، في اتجاه الحق في التكوين والتشريع والممارسة في الدنيا، ليكون الأساس الذي تلتقي فيه نتائج المسؤولية في الآخرة، {وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ} وهي الحقيقة الإلهيّة الممتدة في عالم الغيب التي يؤكدها الله للإنسان لتحضر في وعيه هاجساً يثير لديه حسّ الالتزام كموقف ثابت يتخذه في كل مواقعه. {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}، والخطاب موجه إلى رسول الله، وإلى كل داعيةٍ في مسيرته، في أن لا يتعقّد من أيّ موقعٍ للباطل ومن كل حركةٍ لأهله، بل ينفتح على الناس كلهم، ليفتح على الحق عقولهم، من خلال العفو عن مشاريعهم العدائية، ومواقفهم التشنّجية، ويصبر على ما يلاقي منهم بانتظار أن يعثروا على الحقيقة في رحاب الرسالة، إنه الصفح الجميل، لا عن الجريمة في الفكر والممارسة، بل عن التجاوزات والتحديات التي يقوم بها الكفار في مواجهة الرسالة والرسول، لاستناد الموقف الرسالي إلى قاعدة الإيمان بالله الذي ينصر بحكمته وقدرته رسله، ولهذا فإن الصفح يأتي نتيجة إحساس بقوةٍ مستمدةٍ من الله.