قوله تعالى : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } اختلفوا في معنى هذه الآية ، فقال محمد بن إسحاق : هذا حكاية عن المشركين أنهم قالوها وهي متصلة بالآية الأولى ، وذلك أنهم كانوا يقولون : إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفره ، ولا يعذب أمة ونبيها معها ، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم يذكر جهالتهم ، وغرتهم ، واستفتاحهم على أنفسهم : { وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء } الآية وقالوا { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } ثم قال رداً عليهم : { وما لهم أن لا يعذبهم الله } وإن كنت بين أظهرهم ، وإن كانوا يستغفرون { وهم يصدون عن المسجد الحرام } ؟ . وقال الآخرون : هذا كلام مستأنف يقول الله عز وجل إخباراً عن نفسه : { وما كان الله ليعذبهم } واختلفوا في تأويلها ، فقال الضحاك وجماعة : تأويلها { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } مقيم بين أظهرهم ، قالوا : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة ، ثم خرج من بين أظهرهم ، وبقيت بها بقية من المسلمين يستغفرون ، فأنزل الله تعالى : { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } .
قوله تعالى : { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } فخرج أولئك من بينهم فعذبوا ، وأذن الله في فتح مكة ، فهو العذاب الذي وعدهم الله . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : لم يعذب الله قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا ، ويلحق بحيث أمر . فقال : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } يعني المسلمين ، فلما خرجوا قال الله تعالى : { وما لهم ألا يعذبهم الله } فعذبهم الله يوم بدر ، وقال أبو موسى الأشعري : كان فيكم أمانان ، { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى ، والاستغفار كائن فيكم إلى يوم القيامة ، وقال بعضهم : هذا الاستغفار راجع إلى المشركين ، وذلك أنهم كانوا يقولون بعد الطواف : غفرانك غفرانك . وقال يزيد بن رومان : قالت قريش : إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارةً من السماء ، فلما أمسوا ندموا على ما قالوا ، فقالوا : غفرانك اللهم ، فقال الله عز وجل { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } . أي : لو استغفروا ، ولكنهم لم يكونوا يستغفرون ، ولو أنهم أقروا بالذنب ، واستغفروا ، لكانوا مؤمنين ، وقيل : هذا دعاء إلى الإسلام والاستغفار بهذه الكلمة ، كالرجل يقول لغيره : لا أعاقبك وأنت تطيعني ، أي أطعني حتى لا أعاقبك ، وقال مجاهد وعكرمة : وهم يستغفرون أي يسلمون ، يقول : لو أسلموا لم عذبوا ، وروى الوالبي عن ابن عباس : أي وفيهم من سبق له من الله أن يسلم ويؤمن ، ويستغفر ، وذلك مثل : أبي سفيان ، وصفوان بن أمية ، وعكرمة بن أبي جهل ، وسهيل بن عمرو ، وحكيم بن حزام ، وغيرهم . وروى عبد الوهاب عن مجاهد : { وهم يستغفرون } أي وفي أصلابهم من يستغفر .
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا الذي يدعو إليه محمد هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ قالوه على وجه الجزم منهم بباطلهم ، والجهل بما ينبغي من الخطاب .
فلو أنهم إذ أقاموا على باطلهم من الشبه والتمويهات ما أوجب لهم أن يكونوا على بصيرة ويقين منه ، قالوا لمن ناظرهم وادعى أن الحق معه : إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ، لكان أولى لهم وأستر لظلمهم .
فمنذ قالوا : اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ الآية ، علم بمجرد قولهم أنهم السفهاء الأغبياء ، الجهلة الظالمون ، فلو عاجلهم اللّه بالعقاب لما أبقى منهم باقية ، ولكنه تعالى دفع عنهم العذاب بسبب وجود الرسول بين أظهرهم ، فقال : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ فوجوده صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم أمنة لهم من العذاب .
وكانوا مع قولهم هذه المقالة التي يظهرونها على رءوس الأشهاد ، يدرون بقبحها ، فكانوا يخافون من وقوعها فيهم ، فيستغفرون اللّه [ تعالى فلهذا ] قال تعالى : وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ فهذا مانع يمنع من وقوع العذاب بهم ، بعد ما انعقدت أسبابه .
ثم تعقب السورة على هذا الغريب الذي حكته عن مشركى مكة ، فتبين الموجب لإِمهالهم وعدم إجابة دعائهم فتقول : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } .
أى : وما كان الله مريداً لتعذيب هؤلاء الذين دعوا بهذا الدعاء الغريب تعذب استئصال وإهلاك ، وأنت مقيم فيهم - يا محمد - بمكة ، فقد جرت سنته - سبحانه - ألا يهلك قرية مكذبة وفيها نبيها والمؤمنون به حتى يخرجهم منها ثم يعذب الكافرين .
واللام في قوله { لِيُعَذِّبَهُمْ } لتأكيد النفى ، وللدلالة على أن تعذيبهم والرسول - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة .
والمراد بالاستغفار في قوله : { وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } استغفار من بقى بينهم من المؤمنين المستضعفين الذين لم يستطيعوا مغادرة مكة بعد أن هاجر منها النبى - صلى الله عليه وسلم والمؤمنون .
أى : ما كان الله مريداً لتعذيبهم وأنت فيهم - يا محمد - ما كان - أيضا - مريداً تعذيبهم وبين أظهرهم بمكة من المؤمنين المستضعفين من يستغفر الله ، وهو الذين لم يستطيعوا مغادرتها واللحاق بك في المدينة .
قالوا : ويؤيد أن هذا هو المراد بالاستغفار قوله - تعالى - في آية أخرى : { لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أى : لو تميز المؤمنون عن الكافرين لعذبنا الذين كفروا عذابا أليما .
وأسند - سبحانه - الاستغفار إلى ضمير الجميع ، لوقوعه فيما بينهم ، ولتنزيل ما صدر عن البعض منزلة ما صدر عن الكل . كما يقال : قتل أهل بلدة كذا فلانا والمراد بعضهم . ويرى بعضهم أن المراد بالاستغفار المذكور : استغفار الكفرة أنفسهم كقولهم : غفرانك . في طوافهم بالبيت ، أو ما يشبه ذلك من معانى الاستغفار وكأن هذا البعض يرى أن مجرد طلب المغفرة منه - سبحانه - يكون مانعا من عذابه ولو كان هذا الطلب صادرا من الكفرة .
ويرجع ابن جرير أن المراد بقوله : { وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } نفى الاستغفار عنهم فقد قال بعد أن ذكر بضعة آراء : وأولى هذه الأقوال عندى بالصواب قول من قال : تأويله وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يا محمد ، وبين أظهرهم مقيم ، حتى أخرجك من بين أظهرهم ، لأنى لا أهلك قرية وفيها نبيها ، وما كان الله معذبهم وهم يستغرون من ذنوبهم وكفرهم ، ولكنهم لا يستغفرون من ذلك بل هم مصرون عليه ، فهم للعذاب مستحقون . .
قال بعض المحققين : والقول الأول أبلغ لدلالته على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة .
ثم قال : روى الترمذى عن أبى موسى الأشعرى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - " أنزل الله على أمَانَينِ لأمتى { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ } " الآية . فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة .
قال ابن كثير : ويشهد لهذا ما رواه الإِمام أحمد والحاكم وصححه عن أبى سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن إبليس قال لربه : بعزتك وجلالك لا أبرح أغوى بنى آدم ما دامت الأرواح فيهم . فقال الله - تعالى - فبغزتى وجلالى لا أبرح أغفر لهم ما استغفرونى " .
ويعقب السياق على هذا العناد ، وعلى هذا الادعاء ، بأنهم مع استحقاقهم لإمطار الحجارة عليهم من السماء وللعذاب الأليم الذي طلبوه - إن كان هذا هو الحق من عنده - وإنه للحق . . مع هذا فإن الله قد أمسك عنهم عذاب الاستئصال الذي أخذ به المكذبين قبلهم . لأن رسول الله [ ص ] بينهم ، ولا يزال يدعوهم إلى الهدى . والله لا يعذبهم عذاب الاستئصال والرسول فيهم . كما أنه لا يعذبهم هذا العذاب على معاصيهم إذا كانوا يستغفرون منها ؛ وليس تأخير العذاب عنهم لمجرد أنهم أهل هذا البيت . فهم ليسوا بأولياء هذا البيت إنما أولياؤه المتقون :
( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون . وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام ، وما كانوا أولياءه ، إن أولياؤه إلا المتقون ، ولكن أكثرهم لا يعلمون . وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية . فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) . .
إنها رحمة الله تمهلهم فلا يأخذهم الله بعنادهم ؛ ولا يأخذهم بصدهم عن المسجد الحرام - وقد كانوا يمنعون المسلمين أن يحجوا إليه ، وهم لا يمنعون أحداً ولا يهيجونه عنه !
إنها رحمة الله تمهلهم عسى أن يستجيب للهدى منهم من تخالط بشاشة الإيمان قلبه - ولو بعد حين - وما دام الرسول [ ص ] بينهم ، يدعوهم ، فهنالك توقع لاستجابة البعض منهم ؛ فهم إكراماً لوجود رسول الله بينهم يمهلون . والطريق أمامهم لاتقاء عذاب الاستئصال دائماً مفتوح إذا هم استجابوا واستغفروا عما فرط منهم وأنابوا :
( وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ) . .
قالت فرقة : نزلت هذه الآية كلها بمكة ، وقالت فرقة : نزلت كلها بعد وقعة بدر حكاية عما مضى ، وقال ابن أبزى{[5314]} : نزل قوله { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } بمكة إثر قولهم { أو ائتنا بعذاب أليم } [ الأنفال : 32 ] ونزل قوله { وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون } عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم عن مكة في طريقه إلى المدينة ، وقد بقي بمكة مؤمنون يستغفرون ، ونزل قوله { وما لهم } إلى آخر الآية بعد بدر عند ظهور العذاب عليهم .
قال القاضي أبو محمد : وأجمع المتأولون على أن معنى قوله { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } أن الله عز وجل لم يعذب قط أمة ونبيها بين أظهرها ، فما كان ليعذب هذه وأنت فيهم ، بل كرامتك لديه أعظم ، قال : أراه عن أبي زيد{[5315]} سمعت من العرب من يقول «ما كان ليعذبهم » بفتح اللام وهي لغة غير معروفة ولا مستعملة في القرآن ، واختلفوا في معنى قوله { وما كان الله معذبهم وهم مستغفرون } فقال ابن عباس وابن أبزى وأبو مالك والضحاك ما مقتضاه : إن الضمير في قوله { معذبهم } يعود على كفار مكة والضمير في قوله { وهم } عائد على المؤمنين الذين بقوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، أي وما كان الله ليعذب الكفار والمؤمنون بينهم يستغفرون .
قال القاضي أبو محمد : ويدفع في صدر هذا القول أن المؤمنين الذين رد الضمير عليهم لم يجر لهم ذكر ، وقال ابن عباس أيضاً ما مقتضاه : أن يقال الضميران عائدان على الكفار ، وذلك أنهم كانوا يقولون في دعائهم غفرانك ، ويقولون لبيك لا شريك لك ، ونحو هذا مما هو دعاء واستغفار ، فجعله الله أمنة من عذاب الدنيا ، وعلى هذا تركب قول أبي موسى الأشعري وابن عباس إن الله جعل من عذاب الدنيا َأَمَنَتْين : كون الرسول صلى الله عليه وسلم مع الناس والاستغفار ، فارتفعت الواحدة وبقي الاستغفار إلى يوم القيامة{[5316]} ، وقال قتادة : الضمير للكفار ، وقوله { وهم يستغفرون } ، جملة في موضع الحال أن لو كانت ، فالمعنى وما كان الله معذبهم وهو بحال توبة واستغفار من كفرهم لو وقع ذلك منهم ، واختاره الطبري ، ثم حسن الزجر والتوقيف بعد هذا بقوله { وما لهم ألا يعذبهم الله } وقال الزجّاج ما معناه ، إن الضمير في قوله { وهم } عائد على الكفار .
والمراد به : سبق له في علم الله أن يسلم ويستغفر ، فالمعنى : وما كان الله ليعذب الكفار وفيهم من يستغفر ويؤمن في ثاني حال ، وحكاه الطبري عن ابن عباس .
وقال مجاهد في كتاب الزهراوي : المراد بقوله { وهم يستغفرون } ذرية المشركين يومئذ الذين سبق لهم في علم الله أن يكونوا مؤمنين ، فالمعنى : وما كان الله ليعذبهم وذريتهم يستغفرون ويؤمنون ، فنسب الاستغفار إليهم ، إذ ذريتهم منهم ، وذكره مكي ولم ينسبه ، وفي الطبري عن فرقة أن معنى { يستغفرون } يصلون ، وعن أخرى يسلمون ونحو هذا من الأقوال التي تتقارب مع قول قتادة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛
فقال بعضهم: تأويله:"وَما كانَ اللّهُ لِيُعَذّبَهُمْ وأنْت فِيهِمْ": أي وأنت مقيم بين أظهرهم. قال: وأنزلت هذه على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة. قال: ثم خرج النبيّ صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، فاستغفر من بها من المسلمين، فأنزل بعد خروجه عليه حين استغفر أولئك بها: "وَما كانَ الله مُعَذّبَهُمْ وهُمْ يَسْتَغْفِرونَ". قال: ثم خرج أولئك البقية من المسلمين من بينهم، فعذّب الكفار... قال: ابن عباس: لم يعذّب قرية حتى يخرج النبيّ منها والذين آمنوا معه ويلحقه بحيث أمر...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان الله ليعذّب هؤلاء المشركين من قريش بمكة وأنت فيهم يا محمد، حتى أخرجك من بينهم. "وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ "وهؤلاء المشركون يقولون: يا ربّ غفرانك وما أشبه ذلك من معاني الاستغفار بالقول. قالوا: وقوله: وَما لهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ في الاَخرة...
[عن] ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبيّ الله والاستغفار، قال: فذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبقي الاستغفار. "وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ وَما كانُوا أوْلِياءَهُ إنْ أوْلِياؤُهُ إلاّ المُتّقُونَ "قال: فهذا عذاب الاَخرة، قال: وذاك عذاب الدنيا...
وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان الله ليعذّبهم وأنت فيهم يا محمد، وما كان الله معذّب المشركين "وهم يستغفرون"، أي: لو استغفروا. قالوا: ولم يكونوا يستغفرون فقال جلّ ثناؤه إذ لم يكونوا يستغفرون: "وَمالَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ"... وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب قول من قال: تأويله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم يا محمد وبين أظهرهم مقيم، حتى أخرجك من بين أظهرهم لأني لا أهلك قرية وفيها نبيها. وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون من ذنوبهم وكفرهم، ولكنهم لا يستغفرون من ذلك، بل هم مصرّون عليه، فهم للعذاب مستحقون، كما يقال: ما كنت لأحسن إليك وأنت تسيء إليّ، يراد بذلك: لا أحسن إليك إذا أسأت إليّ ولو أسأت إليّ لم أحسن إليك، ولكن أحسن إليك لأنك لا تسيء إليّ وكذلك ذلك. ثم قيل: "وَمالَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ" بمعنى: وما شأنهم وما يمنعهم أن يعذّبهم الله وهم لا يستغفرون الله من كفرهم فيؤمنوا به، وهم يصدّون المؤمنين بالله ورسوله عن المسجد الحرام.
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن القوم -أعني مشركي مكة- كانوا استعجلوا العذاب، فقالوا: اللهمّ إن كان ما جاء به محمد هو الحقّ، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فقال الله لنبيه: ما كنت لأعذّبهم وأنت فيهم وما كنت لأعذّبهم لو استغفروا، وكيف لا أعذّبهم بعد إخراجك منهم وهم يصدّون عن المسجد الحرام فأعلمه جلّ ثناؤه أن الذين استعجلوا العذاب حائق بهم ونازل، وأعلمهم حال نزوله بهم، وذلك بعد إخراجه إياه من بين أظهرهم. ولا وجه لإيعادهم العذاب في الآخرة، وهم مستعجلوه في العاجل، ولا شكّ أنهم في الآخرة إلى العذاب صائرون، بل في تعجيل الله لهم ذلك يوم بدر الدليل الواضح على أن القول في ذلك ما قلنا. وكذلك لا وجه لقول مَن وجّه قوله: "وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" إلى أنه عني به المؤمنين، وهو في سياق الخبر عنهم وعما الله فاعل بهم، ولا دليل على أن الخبر عنهم قد تقضّى، وعلى أن ذلك به عنوا، ولا خلاف في تأويله من أهله موجود. وكذلك أيضا لا وجه لقول من قال: ذلك منسوخ بقوله: "وَما لَهُمْ ألاّ يُعَذّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدّونَ عَنِ المَسْجِدِ الحَرَامِ..." لأن قوله جلّ ثناؤه: "وَما كانَ اللّهُ مُعَذّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ" خبر، والخبر لا يجوز أن يكون فيه نسخ، وإنما يكون النسخ للأمر والنهي.
"وَما كانُوا أوْلِياءَهُ إنّ أوْلِياؤُهُ إلاّ المُتّقُونَ وَلكِنّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ" يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين ألا يعذّبهم الله وهم يصدّون عن المسجد الحرام، ولم يكونوا أولياء الله "إنْ أوْلِيَاؤُهُ" يقول: ما أولياء الله إلاّ المتقون، يعني: الذين يتقون الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. "وَلكِنّ أكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ" يقول: ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أن أولياء الله المتقون، بل يحسبون أنهم أولياء الله.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله عز وجل: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِم} يحتمل وجهين: أحدهما: أنه قال ذلك إكراماً لنبيه وتعظيماً لقدره أن يعذب قوماً هو بينهم. تعظيماً لحرمته. والثاني: إرساله فيهم رحمة لهم ونعمة عليهم فلم يجز أن يعذبهم وهو فيهم حتى يستحقوا سلب النعمة بإخراجه عنهم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
اللام لتأكيد النفي، والدلالة على أنّ تعذيبهم وأنت بين أظهرهم غير مستقيم في الحكمة؛ لأن عادة الله وقضية حكمته أن لا يعذب قوماً عذاب استئصال ما دام نبيهم بين أظهرهم وفيه إشعار بأنهم مرصودون بالعذاب إذا هاجر عنهم. والدليل على هذا الإشعار قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله} وإنما يصح هذا بعد إثبات التعذيب، كأنه قال: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وهو معذبهم إذا فارقتهم، وما لهم أن لا يعذبهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... أجمع المتأولون على أن معنى قوله {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} أن الله عز وجل لم يعذب قط أمة ونبيها بين أظهرها، فما كان ليعذب هذه وأنت فيهم، بل كرامتك لديه أعظم...
... دلت هذه الآية على أن الاستغفار أمان وسلامة من العذاب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وما كان الله} أي مع ما له من صفات الكمال والعظمة والجلال، وأكد النفي بقوله: {ليعذبهم} أي ليجدد لهم ذلك في وقت من الأوقات {وأنت} أي يا أكرم الخلق {فيهم} فإنه لعين تجازي ألف عين وتكرم ولما بين بركة وجوده، أتبعه ما يخلفه صلى الله عليه وسلم إذا غاب في العباد من العذاب فقال: {وما كان الله} أي الذي له الكمال كله {معذبهم} أي مثبتاً وصف تعذيبهم بحيث يدوم {وهم يستغفرون} أي يطلبون الغفران بالدعاء أو يوجدون هذا اللفظ فيقولون: أستغفر الله، فإن لفظه وإن كان خبراً فهو دعاء وطلب، فوجوده صلى الله عليه وسلم في قوم أبلغ من نفي العذاب عنهم، وهذا الكلام ندب لهم إلى الاستغفار وتعليم لما يدفع العذاب عنهم كما تقول: ما كنت لأضربك وأنت تطيعني، أي فأطعني -نبه عليه الإمام أبو جعفر النحاس، وفي ذلك حث عظيم لمن صار صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم من المسلمين صادقهم ومنافقهم على الرغبة في مواصلته والرهبة من مفارقته، وتعريف لهم بما لهم في حلول ذاته المشرقة في ساحتهم من جليل النعمة ترغيباً في المحبة لطول عمره والاستمساك بعزره في نهيه وأمره إذ المراد- والله أعلم -بالاستغفار طلب المغفرة بشرطه من الإيمان والطاعة،...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{وَمَا كَانَ الله لِيُعَذّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} جوابٌ لكلمتهم الشنعاءِ وبيانٌ للموجِب لإمهالهم والتوقفِ في إجابة دعائِهم واللامُ لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبَهم عذابَ استئصالٍ والنبيُّ عليه الصلاة والسلام بين أظهرِهم خارجٌ عن عادته تعالى غيرُ مستقيمٍ في حُكمه وقضائه...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} أي وما كان من شأن الله تعالى وسنته، ولا من مقتضى رحمته ولا حكمته، أن يعذبهم وأنت أيها الرسول فيهم وهو إنما أرسلك رحمة للعالمين ونعمة، لا عذابا ونقمة، بل لم يكن من سنته أيضا أن يعذب أمثالهم من مكذبي الرسل وهم فيهم بل كان يخرجهم منهم أولا كما قال ابن عباس {وما كان الله ليعذبهم} هذا النوع من العذاب السماوي الذي عذب بمثله الأمم فاستأصلهم أو مطلقا {وهم يستغفرون} أي في حال هم يتلبسون فيها باستغفاره تعالى بالاستمرار، روى الشيخان من حديث أنس قال أبو جهل: {اللهم إن كان هذا هو الحق} –الآية- فنزلت: {وما كان الله ليعذبهم} إلى قوله: {وما لهم أن لا يعذبهم الله} الآية.
قال الحافظ في شرح الحديث من الفتح: روى ابن جرير من طريق زيد بن رومان أنهم قالوا ذلك ثم لما أمسوا ندموا فقالوا غفرانك اللهم فأنزل الله: {وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}...
وروى الترمذي من حديث أبي موسى رفعه قال (أنزل الله على أمتي أمانين) فذكر هذه الآية قال: (فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار) وهو يقوي القول الأول والحمل عليه أولى وإن العذاب حل بهم لما تركوا الندم على ما وقع منهم وبالغوا في معاندة المسلمين ومحاربتهم وصدهم عن المسجد الحرام والله أعلم اه. ما أورده الحافظ، ويرد عليه أن الله عذبهم بالقحط لما دعا به عليهم النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحاح حتى أكلوا الميتة والعظام ولم يرتفع إلا بدعائه صلى الله عليه وسلم ولا يندفع إلا بتفسير العذاب الممتنع مع وجود الرسول والاستغفار بعذاب الاستئصال. ويؤيده أن ما عذب الله به قوم فرعون كان مع وجود موسى عليه السلام فيهم كما تقدم في سورة الأعراف والآيات نزلت مع السورة بالمدينة.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {وما كان الله ليعذبهم وأنتَ فيهم} كناية عن استحقاقهم، وإعلام بكرامة رسوله صلى الله عليه وسلم عنده، لأنه جَعل وجوده بين ظهراني المشركين مع استحقاقهم العقاب سبباً في تأخير العذاب عنهم، وهذه مكرمة أكرم الله بها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فجعل وجوده في مكان مانعاً من نزول العذاب على أهله، فهذه الآية إخبار عما قدره الله فيما مضى...