قوله تعالى : { وإني خفت الموالي } ، و الموالي : بنو العم . قال مجاهد : العصبة . وقال أبو صالح : الكلالة . وقال الكلبي : الورثة . { من ورائي } أي : من بعد موتي . قرأ ابن كثير : " من ورائي " بفتح الياء ، والآخرون بإسكانها . { وكانت امرأتي عاقراً } ، لا تلد ، قوله تعالى : { فهب لي من لدنك } ، أعطني من عندك { ولياً } ابناً .
{ وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي ْ } أي : وإني خفت من يتولى على بني إسرائيل من بعد موتي ، أن لا يقوموا بدينك حق القيام ، ولا يدعوا عبادك إليك ، وظاهر هذا ، أنه لم ير فيهم أحدا فيه لياقة للإمامة في الدين ، وهذا فيه شفقة زكريا عليه السلام ونصحه ، وأن طلبه للولد ، ليس كطلب غيره ، قصده مجرد المصلحة الدنيوية ، وإنما قصده مصلحة الدين ، والخوف من ضياعه ، ورأى غيره غير صالح لذلك ، وكان بيته من البيوت المشهورة في الدين ، ومعدن الرسالة ، ومظنة للخير ، فدعا الله أن يرزقه ولدا ، يقوم بالدين من بعده ، واشتكى أن امرأته عاقر ، أي ليست تلد أصلا ، وأنه قد بلغ من الكبر عتيا ، أي : عمرا يندر معه وجود الشهوة والولد . { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا ْ } وهذه الولاية ، ولاية الدين ، وميراث النبوة والعلم والعمل ،
ثم حكى - سبحانه - بعض الأسباب الأخرى لإلحاح زكريا فى الدعاء فقال : { وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ . . } .
والموالى : جمع مولى ، والمراد بهم هنا : عصبته وأبناء عمومته الذين يلون أمره بعد موته ، وكان لا يثق فيهم لسوء سلوكهم .
والعاقر : العقيم الذى لا يلد ، ويطلق على الرجل والمرأة ، يقال : أمراة عاقر ، ورجل عاقر .
أى : وإنى - يا إلهى - قد خفت ما يفعله أقاربى { مِن وَرَآئِي } أى : من بعد موتى ، من تضييع لأمور الدين ، ومن عدم القيام بحقه { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً } لا تلد قط فى شبابها ولا فى غير شبابها ، { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ } أى : من عندك { وَلِيّاً } أى : ولدا من صلبى ، هذا الولد { يَرِثُنِي } فى العلم والنبوة { وَيَرِثُ } أيضاً { مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } ابن إسحاق بن إبراهيم العلم والنبوة والصفات الحميدة { واجعله } يا رب { رَضِيّاً } أى : مرضيا عندك فى أقواله وأفعاله وسائر تصرفاته .
ففى هاتين الآيتين نرى زكريا يجتهد فى الدعاء بأن يرزقه الله الولد ، لا من أجل شهوة دنيوية ، وإنما من أجل مصلحة الدين والخوف من تضييعه وتبديله والحرص على من ريثه فى علمه ونبوته ، ويكون مرضياً عنده - عز وجل - .
قال الآلوسى ما ملخصه : " وقوله { مِن وَرَآئِي } المراد به من بعد موتى ، والجار والمجرور متعلق بمحذوف ينساق إليه الذهن أى : خفت فعل الموالى من ورائي أو جور الموالى . وهم عصبة الرجل . . . وكانوا على سائر الأقوال شرار بنى إسرائيل ، فخاف أن لا يحسنوا خلافته فى أمته " .
وفى قوله { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } اعتراف عميق بقدرة الله - تعالى - لأن مثل هذا العطاء لا يرجى إلا منه - عز وجل - ، بعد أن تقدمت بزكريا السن ، وبعد أن عهد من زوجه العقم وعدم الولادة .
وقد أشار - سبحانه - فى آية أخرى إلى أنه أزال عنها العقم وأصلحها للولادة فقال : { وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ . . . } أى : وجعلناها صالحة للولادة بعد أن كانت عقيماً من حين شبابها إلى شيبها . . .
فإذا صور حاله ، وقدم رجاءه ، ذكر ما يخشاه ، وعرض ما يطلبه . . إنه يخشى من بعده . يخشاهم ألا يقوموا على تراثه بما يرضاه . وتراثه هو دعوته التي يقوم عليها - وهو أحد أنبياء بني إسرائيل البارزين - وأهله الذين يرعاهم - ومنهم مريم التي كان قيما عليها وهي تخدم المحراب الذي يتولاه - وماله الذي يحسن تدبيره وإنفاقه في وجهه . وهو يخشى الموالي من ورائه على هذا التراث كله ، ويخشى ألا يسيروا فيه سيرته . . قيل لأنه يعهدهم غير صالحين للقيام على ذلك التراث . .
( وكانت امرأتي عاقرا ) . . لم تعقب فلم يكن له من ذريته من يملك تربيته وإعداده لوراثته وخلافته .
وقوله تعالى : { وإني خفت الموالي } الآية ، اختلف الناس في المعنى الذي من أجله خاف { الموالي } ، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة وأبو صالح خاف أن يرثوا ماله وأن ترثه الكلالة فأشفق من ذلك ، وروى قتادة والحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
«يرحم الله أخي زكرياء ما كان عليه ممن يرث ماله »{[7915]} وقالت فرقة إنما كان مواليه مهملين للدين ، فخاف بموته أن يضيع الدين ، فطلب { ولياً } يقوم بالدين بعده حكى هذا القول الزجاج وفيه أنه لا يجوز أن يسأل { زكرياء } من يرث ماله إذ الأنبياء لا تورث .
قال القاضي أبو محمد عبدالحق بن عطية رضي الله عنه : وهذا يؤيد قول النبي عليه السلام «إنا معشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة »{[7916]} ، ويوهنه ذكر «العاقر » . والأكثر من المفسرين على أنه أراد وراثة المال ، ويحتمل قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنا معشر الأنبياء لا نورث » أن لا يريد به العموم بل على أنه غالب امرهم فتأمله ، والأظهر الأليق { زكرياء } عليه السلام أن يريد وراثة العلم والدين فتكون الوراثة مستعارة ، ألا ترى أنه إنما طلب { ولياً } ، ولم يخصص ولداً فبلغه الله أمله على أكمل الوجوه .
وقال أبو صالح وغيره : قوله { يرثني } يريد المال ، وقوله { ويرث من آل يعقوب } يريد العلم والنبوة . وقال السدي : رغب { زكرياء } في الولد . و { خفت } من الخوف هي قراءة الجمهور وعليها هو هذا التفسير ، وقرأ عثمان بن عفان رضي الله عنه وزيد بن ثابت وابن عباس وسعيد بن العاصي وابن يعمر وابن جبير وعلي بن الحسين وغيرهم «خَفَّتِ » بفتح الخاء والفاء وشدها وكسر التاء على إسناد الفعل الى { الموالي } والمعنى على هذا انقطع أوليائي وماتوا ، وعلى هذه القراءة فإنما طلب { ولياً } يقول بالدين ، و { الموالي } بنو العم والقرابة الذين يلون بالنسب . وقوله { من ورائي } أي من بعدي في الزمن فهم الولاء على ما بيناه في سورة الكهف{[7915]} ، وقال أبو عبيدة في هذه الآية أي من بين يدي ومن أمامي وهذا قلة تحرير . وقرأ ابن كثير «من ورائيَ » بالمد والهمز وفتح الياء ، وقرأ أيضاً ابن كثير «من ورايَ » بالياء المفتوحة مثل عصاي ، والباقون همزوا ومدوا وسكنوا الياء . و «العاقر » من النساء التي لا تلد من غير كبرة وكذلك العاقر من الرجال .
لبئس الفتى إن كنت أعور عاقراً . . . جباناً فما عذري لدى كل محضر{[7916]}
و { زكرياء } عليه السلام لما رأى من حاله إنما طلب { ولياً } ولم يصرح بولد{[3]} لبعد ذلك عنده بسبب المرأة .