فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِنِّي خِفۡتُ ٱلۡمَوَٰلِيَ مِن وَرَآءِي وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا} (5)

{ وَإِنّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَائِي } قرأ عثمان بن عفان ومحمد بن علي بن الحسين وأبوه علي ويحيى بن يعمر «خفت » بفتح الخاء وتشديد الفاء وكسر التاء وفاعله { الموالي } أي قلوا وعجزوا عن القيام بأمر الدين بعدي ، أو انقطعوا بالموت ، مأخوذاً من خفت القوم إذا ارتحلوا ، وهذه قراءة شاذة بعيدة عن الصواب . وقرأ الباقون { خفت } بكسر الخاء وسكون الفاء على أن فاعله ضمير يعود إلى زكرياء ، ومفعوله الموالي ، و " من ورائي " متعلق بمحذوف لا بخفت ، وتقديره : خفت فعل الموالي من بعدي . قرأ الجمهور : { ورائي } بالهمز والمدّ وسكون الياء ، وقرأ ابن كثير بالهمز والمدّ وفتح الياء . وروي عنه أنه قرأ بالقصر مفتوح الياء ، مثل عصاي . والموالي هنا هم الأقارب الذين يرثون وسائر العصبات من بني العمّ ونحوهم ، والعرب تسمي هؤلاء موالي ، قال الشاعر :

مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا *** لا تنشروا بيننا ما كان مدفوناً

قيل : الموالي الناصرون له . واختلفوا في وجه المخافة من زكريا لمواليه من بعده ، فقيل : خاف أن يرثوا ماله ، وأراد أن يرثه ولده ، فطلب من الله سبحانه أن يرزقه ولداً . وقال آخرون : إنهم كانوا مهملين لأمر الدين ، فخاف أن يضيع الدين بموته . فطلب ولياً يقوم به بعد موته ، وهذا القول أرجح من الأوّل لأن الأنبياء لا يورثون وهم أجلّ من أن يعتنوا بأمور الدنيا ، فليس المراد هنا : وراثة المال ، بل المراد : وراثة العلم والنبوّة والقيام بأمر الدين . وقد ثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ) { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا } العاقر : هي التي لا تلد لكبر سنها ، والتي لا تلد أيضاً لغير كبر وهي المرادة هنا ، ويقال : للرجل الذي لا يلد : عاقر أيضاً ، ومنه قول عامر ابن الطفيل :

لبئس الفتى إن كنت أعور عاقرا *** . . .

قال ابن جرير : وكان اسم امرأته : أشاع بنت فأقود بن ميل ، وهي أخت حنة ، وحنة هي أمّ مريم . وقال القتيبي : هي أشاع بنت عمران ، فعلى القول يكون يحيى بن زكريا ابن خالة أمّ عيسى ، وعلى القول الثاني يكونان ابني خالة كما ورد في الحديث الصحيح . { فَهَبْ لِي مِن لَدُنكَ وَلِيّاً } أي أعطني من فضلك ولياً ، ولم يصرح بطلب الولد لما علم من نفسه بأنه قد صار هو وامرأته في حالة لا يجوّز فيها حدوث الولد بينهما وحصوله منهما . وقد قيل : إنه كان ابن بضع وتسعين سنة ، وقيل : بل أراد بالوليّ الذي طلبه هو الولد ، ولا مانع من سؤال من كان مثله لما هو خارق للعادة ، فإن الله سبحانه قد يكرم رسله بما يكون كذلك ، فيكون من جملة المعجزات الدالة على صدقهم .

/خ11