قوله : { وَإِنِّي خِفْتُ الموالي } : العامَّةُ على " خِفْتُ " بكسر الخاء ، وسكون الفاء ، وهو ماضٍ مسندٌ لتاءِ المتكلِّم ، و " الموالِي " مفعولٌ به ؛ بمعنى : أنَّ مواليهُ كانُوا شِرَارَ بني إسرائيل ، فخافهم على الدِّين ، قاله الزمخشريٌُّ .
قال أبو البقاء{[21394]} : " لا بُدَّ من حذفِ مضافٍ ، أي : عدم الموالي ، أو جَوْرَ الموالي " .
وقال الزهريُّ كذلك ، إلا انه سكَّن ياء{[21395]} " المَوالِي " وقد تقدّر الفتحةُ في الياء ، والواو ، وعليه قراءة زيد بن عليٍّ { تُطْعِمُونَ أَهالِيكُمْ } [ المائدة : 89 ] .
وقرأ عثمانُ بنُ عفَّان ، وزيدُ بن ثابت ، وابن عبَّاس ، وسعيد بن جبير ، وسعيد بن العاص ، ويحيى بنُ يعمر ، وعليُّ بنُ الحسين في آخرين : " خَفَّتِ " بفتحِ الخاءِ ، والفاءِ مشددةً ، وتاء تأنيثٍ ، كُسرتْ ؛ لالتقاءِ السَّاكنين ، و " المَوالِي " فاعلٌ به ؛ بمعنى : دَرَجُوا ، وانقرضُوا بالموتِ .
قوله : { مِنْ وَرَائِي } هذا متعلِّقٌ في قراءة الجمهور بما تضمَّنَهُ الموالي من معنى الفعلِ ، أي : الذين يلون الأمْرَ بعدي ، ولا يتعلَّق ب " خِفْتُ " لفساد المعنى ، وهذا يدل على أن يُراد ب " ورائي " معنى : خَلْفي ، وبعدي ، وأما في قراءة " خَفَّتِ " بالتشديد{[21396]} ، فيتعلَّق الظرف بنفس الفعل ، ويكون " وَرَائِي " بمعنى قُدَّامي ، والمعنى : أنهم خفُّوا قدَّامهُ ، ودرجُوا ، ولم يبق منهم من به تقوٍّ واعتضادٌ ، ذكر هذين المعنيين الزمخشريُّ .
والمَوالِي : بنُو العمِّ يدلُّ على ذلك تفسيرُ الشَّاعر لهم بذلك في قوله : [ البسيط ]
مَهْلاً ، بَنِي عمِّنَا ؛ مَهْلاً موالينَا *** لا تَنْبُشُوا بَيْننا ما كان مَدْفُوناً{[21397]}
ومَوْلى قد دفعتُ الضَّيْمَ عَنْهُ *** وقَدْ أمْسَى بمنزلةِ المَضِيمِ{[21398]}
وقال مجاهدٌ : العَصَبَة{[21399]} .
وقال أبو صالحٍ : الكلالة{[21400]} .
وقال ابنُ عبَّاس والحسن والكلبيُّ{[21401]} : الورثة .
وعن أبي مسلمٍ : المولى يرادُ به النَّاصرُ ، وابن العمِّ ، والممالك ، والصَّاحب ، وهو هنا من يقُوم بميراثه مقام الولد ، والمختار ، أنَّ المراد من الموالي الذين يخلفُون بعده ، إما في السِّياسة ، أو في المال ، أو في القيام بأمر الدِّين ؛ وهو يدلُّ على معنى القُرْبِ والدُّنوِّ ، ويقالُ : وليته أليه ولْياً ، أي : دَنَوتُ منهُ ، وأوليْتُهُ إيَّاهُ ، وكُل ممَّا يليكَ ، وجلستُ ممَّا يليهِ ، ومنهُ الوَلْيُ ، وهو المطرُ الذي يلي الوسميَّ ، والوليَّة : البرذعةُ [ الَّتي ]{[21402]} تلي ظهْر الدَّابَّة ، ووليُّ اليتيم ، ووليُّ القتيل ؛ لأنَّ من تولَّى أمراً ، فقد قرُبَ منه .
وقوله تعالى : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] من قولهم : ولاه بركنه ، أي جعله ما يليه ، وأما ولَّى عنِّي ، إذا أدبر ، فهو من باب تثقيل الحشو للسلْب ، وقولهم : فلان أولى من فلان ، أي : أحق ؛ أفعل التفضيل من الوالي أو الولي ، كالأدنى ، والأقرب من الدَّاني ، والقريب ، وفيه معنى القرب أيضاً ؛ لأنَّ من كان أحقَّ بالشيء ، كان أقرب إليه ، والمولى : اسمٌ لموضعِ الولي ، كالمرمى والمبنى : اسمٌ لموضعِ الرَّمي والبناءِ .
والجمهورُ على " وَرَائِي " بالمدِّ ، وقرأ ابنُ كثير{[21403]} -في رواية عنه- " وَرَايَ " بالقصر ، ولا يبعدُ ذلك عنه ، فإنه قد قصر { شُرَكَايَ } [ النحل : 27 ] في النَّحل ؛ كما تقدَّم ، وسيأتي أنَّه قرأ { أَن رَّآهُ استغنى } في العلق [ الآية : 7 ] ؛ كأنه كان يُؤْثِرُ القصْر على المدِّ ؛ لخفَّته ، ولكنَّه عند البصريين لا يجوزُ سعةً .
قوله : { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً } أي : لا تَلِدُ ، والعَقْرُ في البدن : الجُرح ، وعقرتُ الفرس بالسَّيف ، ضربتُ قوائِمهُ .
قوله { مِنْ لدُنْكَ } يجوز أن يتعلق ب " هَب " ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حال من " وليًّا " لأنه في الأصل صفةٌ للنكِرةِ ، فقُدِّم عليها .
{ يَرِثُنِي وَيَرِثُ } : قرأ أبو عمرو{[21404]} ، والكسائيُّ بجزم الفعلين على أنَّهما جوابٌ للأمر ؛ إذ تقديره : إن يهبْ ، يرث ، والباقون برفعهما ؛ على انَّهما صفةٌ ل " وليًّا " .
وقرأ عليٌّ -رضي الله عنه- وابنُ عبَّاسٍ ، والحسن{[21405]} ، ويحيى بن يعمر ، والجحدريُّ ، وقتادةُ في آخرين : " يَرِثُنِي " بياء الغيبة ، والرَّفع ، وأرثُ مسنداً لضمير المتكلِّم .
فصل فيما قرئ به من قوله : { يَرِثُنِي وَيَرِثُ }
قال صاحب " اللَّوامح " : " في الكلام تقديم وتأخيرٌ ؛ والتقدير : يرثُ نُبُوَّتِي ، إنْ منُّ قبلهُ وأرِثُ مالهُ ، إن مات قبلي " . ونُقِلَ هذا عن الحسن .
وقرأ عليٌّ أيضاً ، وابنُ عبَّاس ، والجحدريُّ{[21406]} " يَرِثُني وارثٌ " جعلوه اسم فاعلٍٍ ، أي : يَرثُنِي به وارثٌ ، ويُسَمَّى هذا " التجريد " في علم البيان .
وقرأ{[21407]} مجاهدٌ " أوَيْرِثٌ " وهو تصغيرُ " وارِثٍ " والأصل : " وُوَيْرِثٌ " بواوين ، وجب قلبُ أولاهما همزة ؛ لاجتماعهما متحركين أول كلمةٍ ، ونحو " أوَيْصِلٍ " تصغير " واصلٍ " والواوُ الثانيةُ بدلٌ عن ألفِ " فاعلٍ " و " أوَيْرِثٌ " مصروفٌ ؛ لا يقال : ينبغي أن يكون غير مصروفٍ ؛ لأنَّ فيه علتين : الوصفيَّة ، ووزن الفعل ، فإنه بزنة " أبَيْطِر " مضارع " بَيْطَرَ " وهذا ممَّا يكون الاسم فيه منصرفاً في التكبير ممتنعاً في التصغير ، لا يقالُ ذلك لأنه غلطٌ بيِّنٌ ؛ لأنَّ " أوَيْرِثاً " وزنه فُويْعِلٌ ، لا أفَيْعلٌ ؛ بخلاف " أحَيْمِر " تصغير " أحْمَرَ " .
وقرأ الزهريُّ{[21408]} : " وارثٌ " بكسر الواو ، ويعنون بها الإمالة .
قوله : { رَضِيًّا } مفعولٌ ثانٍ ، وهو فعيلٌ بمعنى فاعلٍ ، وأصله " رَضِيوٌ " لأنه من الرِّضوان .
معنى قوله : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } أعطني من أبناء .
واعلم أنَّ زكريَّا -عليه السلام- قدَّم السؤال ؛ لأمور ثلاثة :
والثاني : أن الله تعالى ما ردَّ دعاءه .
والثالث : كونُ المطلُوب سبباً للمنفعة في الدِّين ، ثم بعد ذلك صرَّح بالسُّؤال .
أمَّا كونه ضعيفاً ، فالضَّعيف : إمَّا أن يكون في الباطن ، أو في الظَّاهر ، والضَّعْف في الباطن أقوى من ضعف الظَّاهر ، فلهذا ابتدأ ببيان ضعف الباطن ، فقال : { وَهَنَ العظم مِنِّي } وذلك لأنَّ العظم أصلبُ أعضاء البدن ، وجعل كذلك لمنتفعين :
الأولى : ليكون أساساً وعمداً يعتمد عليها بقيَّة الأعضاء ؛ لأنَّها موضوعة على العظام ، والحاملُ يجبُ أن يكون أقوى من المحمول عليه .
الثاني : أنَّها في بعض المواضع وقاية لغيرها .
واحتج أصحابُ القول الأوَّل أنَّه إذا . . . {[21409]} أوّلاً ، ثم ردَّ بأنها تكونُ كغيرها من الأعضاء كعظام الصَّلف وقحف الرأس ، وما كان كذلك ، فيجبُ أن يكون صلباً ؛ ليصبر على ملاقاة الآفاتِ ، ومتى كان العظم صلبا ، فمتى وصل الضعف إليه ، كان ضعف ما عداه مع رخاوته أولى ؛ ولأنّ العظم حاملٌ لسائر الأعضاء ، فوصولُ الضعف إلى الحامل موجبٌ لوصوله إلى المحمول ، فلهذا خصَّ العظم بالوهْنِ من بين سائر الأعضاء .
وأما ضعف الظاهر ، فلاستيلاء ضعف الباطن عليه ، وذلك ممَّا يزيدُ الدُّعاء تأكيداً ؛ لما فيه من الارتكان على حول الله وقوته .
وأما كونهُ غير مردُود الدُّعاءِ ، فوجه توسله به من وجهين :
الأول : أنَّه إذا قبله أوَّلاً ، فلو ردَّه ثانياً ، لكان الردُّ محبطاً للإنعام الأول ، والمنعم لا يسعى في إحباط إنعامه .
والثاني : أنَّ مخالفة العادةِ تشقُّ على النَّفس ، فإذا تعوَّد الإنسانُ إجابة الدُّعاء ، فلو ردَّ بعد ذلك ، لكان ذلك في غاية المشقَّة ، والجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشقَّ ، فكأنَّ زكريَّا -عليه السلام- قال : إنك إن رددَتَّنِي بعدما عودتَّني القُبول مع نهايةِ ضعفي ، كان ذلك بالغاً إلى النِّهاية القصوى في [ ألم ]{[21410]} القلب ، فقال : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } .
تقولُ العربُ : سعد فلانٌ بحاجته : إذا ظَفِر بها ، وشَقِي بها : إذا خَابَ ، ولم [ يَبْلُغْهَا ]{[21411]} .
وأمَّا كون المطلُوب منتفعاً به في الدِّين ، فهو قوله : { وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي } .
فصل في اختلافهم في المراد من قوله : { خِفْتُ الموالي }
قال ابن عباس والحسن : الموالي : الورثة{[21412]} وقد تقدم .
واختلفوا في خوفه من الموالي{[21413]} ، فقيل : خافهم على إفساد الدِّين .
وقيل : خاف أن ينتهي أمرُه إليهم بعد موته في مالٍ ، وغيره ، مع أنَّه عرف من حالهم قصورهم في العلم والقدرة عن القيام ببعضه .
وقيل : يحتمل أن يكون الله قد أعلمه أنَّه لم يبقَ من أنبياء إسرائيل نبيٌّ له أبٌ إلاَّ نبيٌّ واحدٌ ، فخاف أن يكون ذلك الواحدُ من بَني عمِّه ، إذا لم يكن له ولدٌ ، فسأل الله أن يهب له ولداً ، يكونُ هو ذلك النبيِّ ، والظاهرُ يقتضي أن يكون خائفاً في أمر يهتمُّ بمثله الأنبياء ولا يمتنع أن يكون زكريَّا كان إليه مع النبوة الربانيَّة من جهة الملك ؛ فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما .
وقوله : { خِفْتُ } خرج على لفظ أصل الماضي ، لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضاً ؛ كقول الرجل : قد خفتُ أن يكون كذا ، أي : " أنَا خَائِفٌ " لا يريدُ أنه قد زال الخوف عنه .
قوله : { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً } أي : أنَّها عاقرٌ في الحال ؛ لأنَّ العاقر لا يجوزُ [ أن تحبل في العادة ]{[21414]} ، ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلامٌ بتقادُمِ العهد في ذلكَ ، والغرضُ من هذا بيانُ استبعاد حصول الولدِ ، فكان إيرادهُ بلفظ الماضِي أقوى ، وأيضاً : فقد يوضعُ الماضي ، أي : مكان المستقبل ، وبالعكس ؛ قال الله تعالى : { وَإِذْ قَالَ الله يا عيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين } [ المائدة : 116 ] .
وقوله : { مِن وَرَآئِي } قال أبو عبيدة : من قُدَّامي ، وبين يديَّ .
فإن قيل : كيف علم حالهم من بعده ، وكيف علم أنَّهُمْ يقون بعده ، فضلاً عن أن يخاف شرَّهم ؟ .
فالجوابُ{[21415]} : أنه قد يعرفُ ذلك بالأمارات والظنّ في حصول الخوف ، وربما عرف ببعض الأمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد .
وقوله : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً } الأكثر على أنه طلب الولد ، وقيل : بل طلب من يقُوم مقامه ، ولداً كان ، أو غيره .
والأول أقربُ ؛ لقوله تعالى في سورة آل عمران ؛ حكاية عنه { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } [ آل عمران : 38 ] .
وأيضاً : فقوله ها هنا " يَرُثُنِي " يؤيِّده .
وأيضاً : يؤيِّده قوله تعالى في سورة الأنبياء : { وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً } [ الأنبياء : 89 ] فدلَّ على أنَّه سأل الولد ؛ لأنَّه أخبر ها هنا أنَّ له مواليَ ، وأنَّه غيرُ منفردٍ عن الورثةِ ، وهذا إن أمكن حمله على وارثٍ يصلح أن يقوم مقامه ، لكنَّ حمله على الولد اظهرُ .
واحتجَّ أصحابُ القول [ الثالث ]{[21416]} بأنَّه لما بشِّر بالولد ، استعظمه على سبيل التعجُّب ؛ وقال " أنَّى يكونُ لِي غلامٌ " ولو كان دعاؤُه لطلب الولد ، ما استعظم ذلك .
وأجيبَ بأنَّه -عليه السلام- سأل عمَّا يوهب له ، أيوهبُ له هو وامرأتهُ على هيئتهما ؟ أو يوهبُ له بأن يُحَوَّلا شابَّيْن ، يُولد لمثلهما ؟ ! وهذا يُحْكَى عن الحسن .
وقيل : إنَّ قول زكريَّا -عليه السلام- في الدُّعاء " وكَانتِ امْرَاتِي عاقراً " إنما سأل ولداً من غيرها أو منها ؛ بأن يصلحها الله تعالى للولدِ ، فكأنَّه -عليه السلام- قال : أيسْتُ أن يكون لي منها ولدٌ ، فهبْ لي من لدنك وليًّا ، كيف شئت : إمَّا بأن تصلحها للولادةِ ، وإمَّا أن تهبهُ لي من غيرها ، فلمَّا بُشِّر بالغلام ، سأل أن يرزق منها ، أو من غيرها ، فأخبر بأنه يرزقه منها .