إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَإِنِّي خِفۡتُ ٱلۡمَوَٰلِيَ مِن وَرَآءِي وَكَانَتِ ٱمۡرَأَتِي عَاقِرٗا فَهَبۡ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيّٗا} (5)

{ وَإِنّي خِفْتُ المواليَ } عطف على قوله تعالى : { إني وَهَنَ العظم } مترتبٌ مضمونُه على مضمونه فإنه ضَعفَ القُوى وكِبَر السنِّ من مبادئ خوفه عليه السلام مِمّن يلي أمرَه بعد موته ، ومواليه بنو عمه وكانوا أشرارَ بني إسرائيلَ فخاف أن لا يُحسِنوا خلافتَه في أمته ويبدّلوا عليهم دينَهم ، وقوله : { مِن ورائي } أي بعد موتي متعلقٌ بمحذوف ينساق إليه الذهنُ ، أي فِعلَ الموالي من بعدي أو جَوْرَ الموالي وقد قرئ كذلك ، أو بما في الموالي من معنى الوِلاية ، أي خِفتُ الذين يلون الأمرَ من ورائي لا بخِفْتُ لفساد المعنى ، وقرئ ورايَ بالقصر وفتح الياء ، وقرئ خفّت الموالي من ورائي أي قلوا وعجَزوا عن القيام بأمور الدين بعدي ، أو خفّت الموالي القادرون على إقامة مراسمِ الملة ومصالحِ الأمة من خفَّ القومُ أي ارتحلوا مسرعين أي درَجوا قُدّامي ولم يبقَ منهم من به تَقوَ واعتضادٌ ، فالظرفُ حينئذ متعلقٌ بِخفّتْ { وَكَانَتِ امرأتي عَاقِرًا } أي لا تلد من حينِ شبابها . { فَهَبْ لي مِن لَّدُنْكَ } كلا الجارّين متعلقٌ بهب لاختلاف معنييهما ، فاللام صلةٌ له ومِنْ لابتداء الغاية مجازاً ، وتقديمُ الأول لكون مدلولِه أهمَّ عنده ويجوز تعلّقُ الثاني بمحذوف وقع حالاً من المفعول ، ولدن في الأصل ظرفٌ بمعنى أولِ غايةِ زمانٍ أو مكان أو غيرهما من الذوات ، وقد مر تفصيلُه في أوائل سورة آل عمران ، أي أعطِني من محض فضلِك الواسعِ وقدرتِك الباهرةِ بطريق الاختراعِ لا بواسطة الأسباب العادية { وَلِيّاً } أي ولداً من صُلبي ، وتأخيرُه عن الجارَّين لإظهار كمالِ الاعتناءِ بكون الهبةِ له على ذلك الوجه البديعِ مع ما فيه من التشويق إلى المؤخر ، فإن ما حقُّه التقديمُ إذا أُخّر تبقى النفسُ مستشرِفةً له فعند ورودِه لها يتمكن عندها فضلُ تمكنٍ ، ولأن فيه نوعَ طولٍ بما بعده من الوصف فتأخيرُهما عن الكل أو توسيطُهما بين الموصوف والصفة مما لا يليق بجزالة النظمِ الكريم ، والفاءُ لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإن ما ذكرَه عليه الصلاة والسلام من كِبَر السنِّ وضَعف القُوى وعقرِ المرأة موجبٌ لانقطاع رجائِه عليه السلام عن حصول الولدِ بتوسط الأسبابِ العادية واستيهابِه على الوجه الخارِق للعادة ، ولا يقدح في ذلك أن يكون هنا داعٍ آخرُ إلى الإقبال على الدعاء المذكورِ من مشاهدته عليه السلام للخوارق الظاهرةِ في حق مريمَ كما يُعرب عنه قوله تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } الآية ، وعدمُ ذكرِه هاهنا للتعويل على ذكره هناك كما أن عدمَ ذكر مقدمةِ الدعاء هناك للاكتفاء بذكره هاهنا ، فإن الاكتفاءَ بما ذكر في موطن عما تُرك في موطن آخرَ من النكت التنزيلية .