41- والمؤمنون الذين هاجروا من ديارهم لوجه الله تعالى ، وإخلاصاً لعقيدتهم ، من بعد ما وقع عليهم الظلم والعذاب من المشركين ، لنُعوّضهم في الدنيا على إخلاصهم واحتمالهم للعذاب ، حياة طيبة حسنة لا تأتى إلا بالجهاد ، وسيكون أجرهم يوم القيامة أكبر ، ونعيمهم في الجنة أعظم ، لو كان المخالفون لهم يعلمون ذلك لما ظلموهم وظلموا أنفسهم .
قوله تعالى : { والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا } ، عذبوا وأوذوا في الله . نزلت في بلال ، وصهيب ، وخباب ، وعمار ، وعابس ، وجبير ، وأبي جندل بن سهيل ، أخذهم المشركون بمكة فعذبوهم . وقال قتادة : هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، ظلمهم أهل مكة ، وأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصاراً من المؤمنين . { لنبوئنهم في الدنيا حسنة } ، وهو أنه أنزلهم المدينة . روي عن عمر بن الخطاب كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول : بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر لك في الآخرة أفضل ، ثم تلا هذه الآية . وقيل : معناه لنحسنن إليهم في الدنيا . وقيل : الحسنة في الدنيا التوفيق والهداية . { ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون } . وقوله : { لو كانوا يعلمون } ، ينصرف إلى المشركين لأن المؤمنين كانوا يعلمونه .
{ 41 - 42 ْ } { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ْ }
يخبر تعالى بفضل المؤمنين الممتحنين { الَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ ْ } أي : في سبيله وابتغاء مرضاته { مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا ْ } بالأذية والمحنة من قومهم ، الذين يفتنونهم ليردوهم إلى الكفر والشرك ، فتركوا الأوطان والخلان ، وانتقلوا عنها لأجل طاعة الرحمن ، فذكر لهم ثوابين : ثوابا عاجلا في الدنيا من الرزق الواسع والعيش الهنيء ، الذي رأوه عيانا بعد ما هاجروا ، وانتصروا على أعدائهم ، وافتتحوا البلدان وغنموا منها الغنائم العظيمة ، فتمولوا وآتاهم الله في الدنيا حسنة .
{ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ ْ } الذي وعدهم الله على لسان رسوله { أَكْبَرُ ْ } من أجر الدنيا ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ْ } وقوله : { لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ْ } أي : لو كان لهم علم ويقين بما عند الله من الأجر والثواب لمن آمن به وهاجر في سبيله لم يتخلف عن ذلك أحد .
أخرج ابن جرير عن قتادة قال : قوله - تعالى - : { والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ . . } هؤلاء أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم . ظلمهم أهل مكة فأخرجوهم من ديارهم ، حتى لحق طائفة منهم بالحبشة ، ثم بوأهم الله - تعالى - المدينة فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين . وعن ابن عباس : هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة ، بعد أن ظلمهم المشركون ، .
والذى نراه أن الآية الكريمة تشمل هؤلاء ، وتشمل غيرهم ممن هاجر من بلده إلى غيرها ، رجاء ثواب الله ، وخدمة لدينه .
والمهاجرة فى الأصل تطلق على المفارقة والمتاركة للديار وغيرها ، واستعملت شرعا فى المهاجرة من دار الكفر إلى دار الإِيمان ، أو من دار الكفر إلى غيرها لنشر دعوة الإِسلام .
وقوله { لنبوئنهم } من التبوؤ بمعنى الإِحلال والإِسكان والإِنزال يقال بوأ فلان فلانا منزلا ، إذا أسكنه فيه ، وهيأه له .
{ وحسنة } صفة لموصوف محذوف أى : لنبوئنهم تبوئة حسنة ، أو دارا حسنة .
والمراد بهذه الحسنة ما يشمل نزولهم فى المدينة ، ونصرهم على أعدائهم ، وإبدال خوفهم أمنا .
قال القرطبى فى المراد بالحسنة هنا ستة أقوال : " نزول المدينة ؛ قاله ابن عباس والحسن . . الثانى : الرزق الحسن . قاله مجاهد . الثالث : النصر على عدوهم ، قاله الضحاك ، الرابع : لسان صدق ، حكاه ابن جريج . الخامس : ما استولوا عليه من البلاد . . السادس : ما بقى لهم فى الدنيا من ثناء ، وما صار فيها لأولادهم من الشرف .
ثم قال : وكل ذلك قد اجتمع لهم بفضل الله - تعالى - " .
والمعنى : والذين هاجروا فى سبيل الله ، وفارقوا قومهم وأوطانهم وأموالهم وأولادهم . . من أجل إعلاء كلمته ، بعد أن تحملوا الكثير من أذى المشركين وظلمهم وطغيانهم .
هؤلاء الذين فعلوا ذلك من أجل نصرة ديننا ، لنسكننهم فى الدنيا مساكن حسنة يرضونها ، ولنعطينهم عطاء حسنا يسعدهم ، ولننصرنهم على أعدائهم نصرا مؤزرا .
وقوله { فى الله } أى : فى سبيله ، ومن أجل نصرة دينه . فحرف " فى " مستعمل للتعليل ، كما فى قوله صلى الله عليه وسلم : " دخلت امرأة النار فى هرة حبستها . . . " .
والمقصود أن هذا الأجر الجزيل إنما هو للمهاجرين من أجل إعلاء كلمة الله ، ومن أجل نصرة الحق ، وليس لمن هاجر لنشر الظلم أو الفساد فى الأرض .
وأسند فعل { ظلموا } إلى المجهول ، لظهور الفاعل من السياق وهو المشركون .
وفى ذلك إشارة إلى أن هؤلاء المهاجرين لم يفارقوا ديارهم ، إلا بعد أن أصابهم ظلم أعدائهم لهم ، كتعذيبهم إياهم ، وتضييقهم عليهم ، إلى غير ذلك من صنوف الأذى .
وأكد - سبحانه - الجزاء الحسن اذى وعدهم به باللام وبنون التوكيد { لنبوئنهم . } ، زيادة فى إدخال السرور والطمأنينة على قلوبهم ، وجبرا لكل ما اشتملت عليه الهجرة من مصاعب وآلام وأضرار .
إذ الحسنة - كما قلنا - تشمل كل حسن أعطاه الله - تعالى - للمهاجرين فى هذه الدنيا .
أما فى الآخرة فأجرهم أعظم ، وثوابهم أجزل ، كما قال - تعالى - : { وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
والضمير فى قوله { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يعود على أعدائهم الظالمين .
أى : ولثواب الله - تعالى - لهم فى الآخرة على هجرتهم من أجل إعلاء كلمته ، أكبر وأعظم ، ولو كان أعداؤهم الظالمون يعلمون ذلك لدخلوا فى دين الإِسلام ، ولأقلعوا عن ظلمهم لهؤلاء المهاجرين .
وكأن جملة { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } جوابا عن سؤال تقديره : كيف لم يقتد بهم من بقى على الكفر مع هذا الثواب الذى أعده الله لهؤلاء المهاجرين ؟
فكان الجواب : لو كان هؤلاء الكافرين يعلمون ذلك لأقلعوا عن كفرهم .
ويصح أن يكون الضمير يعود على المهاجرين ، فيكون المعنى : لو كانوا يعلمون علم مشاهدة ومعاينة ما أعده الله لهم ، لما حزنوا على مفارقة الأوطان والأولاد والأموال ، ولازدادوا حبا وشوقا واجتهادا فى المهاجرة .
أخرج ابن جرير وابن المنذر عن عمر بن الخطاب ، أنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول له " خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله فى الدنيا ، وما ذخره لك فى الآخرة أفضل " ، ثم تلا هذه الآية .
وجوز بعضهم أن يكون الضمير يعود للمتخلفين عن الهجرة أى : لو علم هؤلاء المتخلفون عن الهجرة ، ما أعده - سبحانه - من أجر للمهاجرين ، لما تخلفوا عن ذلك .
وعلى أية حال فلا مانع من أن يكون الضمير يعود على كل من يتأتى له العلم ، بهذا الثواب الجزيل لهؤلاء المهاجرين فى سبيل الله - تعالى - .
وهنا يعرض في الجانب المقابل للمنكرين الجاحدين ، لمحة عن المؤمنين المصدقين ، الذين يحملهم يقينهم في الله والآخرة على هجر الديار والأموال ، في الله ، وفي سبيل الله :
( والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ، ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون . الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ) . .
فهؤلاء الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم ، وتعروا عما يملكون وعما يحبون ، وضحوا بدارهم وقرب عشيرتهم والحبيب من ذكرياتهم . . هؤلاء يرجون في الآخرة عوضا عن كل ما خلفوا وكل ما تركوا . وقد عانوا الظلم وفارقوه . فإذا كانوا قد خسروا الديار ف ( لنبوئنهم في الدنيا حسنة )و لنسكننهم خيرا مما فقدوا ( ولأجر الآخرة أكبر )لو كان الناس يعلمون .
{ والذين هاجروا في الله من بعد ما ظُلموا } هم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرون ظلمهم قريش فهاجر بعضهم إلى الحبشة ثم إلى المدينة وبعضهم إلى المدينة ، أو المحبوسون المعذبون بمكة بعد هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم بلال وصهيب وخباب وعمار وعابس وأبو جندل وسهيل رضي الله تعالى عنهم ، وقوله : { في الله } أي في حقه ولوجهه . { لنُبوّئنّهم في الدنيا حسنة } مباءة حسنة وهي المدينة أو تبوئة حسنة . { ولأجر الآخرة أكبر } مما يعجل لهم في الدنيا . وعن عمر رضي الله تعالى عنه : أنه كان إذا أعطى رجلا من المهاجرين عطاء قال له خذ بارك الله لك فيه هذا ما وعدك الله في الدنيا وما ادخر لك في الآخرة أفضل . { لو كانوا يعلمون } الضمير للكفار أي لو علموا أن الله يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم ، أو للمهاجرين أي لو علموا ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم .
لما ذكر الله تعالى كفار مكة الذين أقسموا أن الله لا يبعث من يموت ، ورد على قولهم ، ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم ، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة ، هذا قول الجمهور ، وهو الصحيح في سبب الآية ، لأن هجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية ، وقالت فرقة سبب الآية أبو جندل بن سهيل بن عمرو{[7309]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف ، لأن أمر أبي جندل كان والنبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة ، وقالت فرقة نزلت في عمار وصهيب وخباب وأصحابهم الذين أوذوا بمكة وخرجوا عنها .
قال القاضي أبو محمد : وعلى كل قول فالآية تتناول بالمعنى كل من هاجر أولاً وآخراً . وقرأ الجمهور «لنبوئنهم » وقرأ ابن مسعود ونعيم بن ميسرة والربيع بن خثيم وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب . «لنثوينهم »{[7310]} وهاتان اللفظتان معناهما التقرير ، فقالت فرقة : الحسنة عِدَةٌ ببقعة شريفة كشف الغيب أنها كانت المدينة ، وإليها كانت الإشارة بقوله { حسنة } وقالت فرقة : الحسنة لسان الصدق الباقي عليهم في غابر الدهر .
قال القاضي أبو محمد : وفي { لنبوئنهم } أو «لنثوينهم » على هذا التأويل في لسان الصدق تجوز كثير واستعارة بعيدة ، وهذا على أن { حسنة } هي المباءة والمثوى ، وأن الفعل الظاهر عامل فيها ، وقال أبو الفتح : نصبها على معنى نحسن إليهم في ذلك إحساناً ، وجعلت { حسنة } موضع إحساناً ، وذهبت فرقة إلى أن الحسنة عامة في كل ما يستحسن أن يناله ابن آدم وتخف الاستعارة المذكورة على هذا التأويل ، وفي هذا القول يدخل ما روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يعطي المال وقت القسمة للرجل من المهاجرين ويقول له : خذ ما وعدك الله في الدنيا ، { ولأجر الآخرة أكبر } ، ثم يتلو هذه الآية .
قال القاضي أبو محمد : ويدخل في هذا القول النصر على العدو وفتح البلاد ، وكل أمل أبلغه المهاجرون ، و «أجر الآخرة » هنا إشارة إلى الجنة ، والضمير في { يعلمون } عائد إلى كفار قريش ، وجواب { لو } مقدر محذوف ، ومفعول { يعلمون } كذلك ، وفي هذا نظر .
لما ثبتت حكمة البعث بأنها تبيين الذي اختلف فيه الناس من هدى وضلالة ، ومن ذلك أن يتبين أن الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين يعلم منه أنّه بتبيين بالبعث أن الذين آمنوا كانوا صادقين بدلالة المضادة وأنهم مثابون ومكرمون . فلما علم ذلك من السياق وقع التصريح به في هذه الآية .
وأدمج مع ذلك وعدهم بحسن العاقبة في الدنيا مقابلة وعيد الكافرين بسوء العاقبة فيها الواقع بالتعّريض في قوله تعالى : { فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين } [ سورة النحل : 36 ] .
فالجملة معطوفة على جملة { وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين } [ سورة النحل : 39 ] .
والمهاجر : متاركة الدّيار لغرض ما .
و{ في } مستعملة في التّعليل ، أي لأجل الله . والكلام على تقدير مضاف يظهر من السّياق . تقديره : هاجروا لأجل مرضاة الله .
وإسناد فعل { ظلموا } إلى المجهول لظهور الفاعل من السّياق وهو المشركون . والظلم يشمل أصناف الاعتداء من الأذى والتعذيب .
والتبوئة : الإسكان . وأطلقت هنا على الجزاء بالحسنى على المهاجرة بطريق المضادّة للمهاجرة ، لأن المهاجرة الخروج من الدّيار فيضادّها الإسكان .
وفي الجمع بين { هاجروا } و { لنبوئنهم } محسّن الطباق . والمعنى : لنجازينّهم جزاءً حسناً . فعبر عن الجزاء بالتّبوئة لأنه جزاء على ترك المباءة .
و { حسنة } صفة لمصدر محذوف جار على « نبوئنهم » ، أي تبوئة حسنة .
وهذا الجزاء يجبر كل ما اشتملت عليه المهاجرة من الأضرار التي لقيها المهاجرون من مفارقة ديارهم وأهليهم وأموالهم ، وما لاقَوُه من الأذى الذي ألجأهم إلى المهاجرة من تعذيب واستهزاء ومَذلّة وفتنة ، فالحسنة تشتمل على تعويضهم دياراً خيراً من ديارهم ، ووطناً خيراً من وطنهم ، وهو المدينة ، وأموالاً خيراً من أموالهم ، وهي ما نالوه من المغانم ومن الخراج . روي أن عُمر رضي الله عنه كان إذا أعطى رجلاً من المهاجرين عطاء قال له : « هذا ما وعدك ربّك في الدنيا ، وما ذخر لك في الآخرة أكبر » ؛ وغلبة لأعدائهم في الفتوح وأهمّها فتح مكّة ، وأمناً في حياتهم بما نالوه من السلطان ، قال تعالى : { وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا } [ سورة النور : 55 ] . وسبب النزول الذين هاجروا إلى أرض الحبشة من المسلمين لا محالة ، أو الذين هاجروا إلى المدينة الهجرة الأولى قبل هجرة النبي وبقية أصحابه رضي الله عنهم مثل مصعب بن عمير وأصحابه إن كانت هذه الآية نازلة بعد الهجرة الأولى إلى المدينة . وكلا الاحتمالين لا ينافي كون السورة مكّية . ولا يقتضي تخصيص أولئك بهذا الوعد .
ثم أعقب هذا الوعد بالوعد العظيم المقصود وهو قوله : ولأجر الآخرة أكبر } . ومعنى { أكبر } أنّه أهمّ وأنفع . وإضافته إلى { الآخرة } على معنى ( في ) ، أي الأمر الذي في الآخرة .
وجملة { لو كانوا يعلمون } معترضة ، وهي استئناف بياني ناشىء عن جملة الوعد كلّها ، لأن ذلك الوعد العظيم بخير الدنيا والآخرة يثير في نفوس السامعين أن يسألوا كيف لم يقتدِ بهم من بقوا على الكفر فتقع جملة { لو كانوا يعلمون } بياناً لما استبهم على السّائِل .
والتقدير : لو كانوا يعلمون ذلك لاقتدوا بهم ولكنّهم لا يعلمون . فضمير { يعلمون } عائد إلى { الذين كفروا } [ سورة النحل : 39 ] .
ويجوز أن يكون السؤال المثار هو : كيف يحْزن المهاجرون على ما تركوه من ديارهم وأموالهم وأهليهم ، فيكون : المعنى لو كان المهاجرون يعلمون ما أعدّ لهم عِلم مشاهدة لما حزِنوا على مفارقة ديارهم ولكانت هجرتهم عن شوق إلى ما يلاقونه بعد هجرتهم ، لأن تأثير العلم الحسّي على المزاج الإنساني أقوى من العلم العقلي لعدم احتياج العلم الحسّي إلى استعمال نظر واستدلال ، ولعدم اشتمال العلم العقلي على تفاصيل الكيفيات التي تحبّها النفوس وترتمي إليها الشهوات ، كما أشار إليه قوله تعالى : { قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي } [ سورة البقرة : 260 ] . فليس المراد بقوله تعالى : { لو كانوا يعلمون } لو كانوا يعتقدون ويؤمنون ، لأن ذلك حاصل لا يناسب موقع { لو } الامتناعية .
فضمير { يعلمون } على هذا « للذين هاجروا » . وفي هذا الوجه تتناسق الضمائر .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال سبحانه: {والذين هاجروا} قومهم إلى المدينة، واعتزلوا بدينهم من المشركين، {في الله}، وفروا إلى الله عز وجل، {من بعد ما ظلموا}، يعني من بعد ما عذبوا على الإيمان بمكة... {لنبوئنهم}، يعني: لنعطينهم {في الدنيا حسنة}، يعني: بالحسنة الرزق الواسع، {ولأجر} يعني: جزاء {الآخرة}، يعني: الجنة، {أكبر}، يعني: أعظم مما أعطوه في الدنيا من الرزق، {لو كانوا}، يعني: أن لو كانوا {يعلمون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
والذين فارقوا قومهم ودورهم وأوطانهم عداوة لهم في الله على كفرهم إلى آخرين غيرهم. "مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا "يقول: من بعد ما نيل منهم في أنفسهم بالمكاره في ذات الله. "لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيا حَسَنَةً" يقول: لنسكننهم في الدنيا مسكنا يرضونه صالحا... عن قتادة، قوله: "وَالّذِينَ هاجَرُوا فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوّئَنّهُمْ..." قال: هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة، فأخرجوهم من ديارهم حتى لحق طوائف منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله المدينة بعد ذلك فجعلها لهم دار هجرة، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين... [و] عن ابن عباس، قوله: "وَالّذِينَ هاجَرُوا فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيا حَسَنَةً" قال: هم قوم هاجروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل مكة بعد ظلمهم، وظَلَمَهُم المشركون... وقال آخرون: عنى بقوله: "لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيا حَسَنَةً": لنرزقنهم في الدنيا رزقا حسنا...
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى "لَنُبَوّئَنّهُمْ": لنحلنهم ولنسكننهم، لأن التبوء في كلام العرب الحلول بالمكان والنزول به. ومنه قول الله تعالى: "وَلَقَدْ بَوّأْنا بَني إسْرَائيلَ مُبَوّأَ صدْق"...
"وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ" يقول: ولثواب الله إياهم على هجرتهم فيه في الآخرة أكبر، لأن ثوابه إياهم هنالك الجنة التي يدوم نعيمها ولا يبيد.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا} كان ظلمهم إياهم على وجوه: منهم من ظُلم بالإخراج من الديار والطرد من البلد كقوله: {إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم} الآية (الممتحنة: 9). ومنهم من ظلم بالمنع عن إظهار الإسلام والعمل له وأنواع ما أوذوا، وظلموا بإظهارهم الإسلام وإجابتهم رسول الله واتباعهم إياه. ثم وعد لهم في الدنيا حسنة، فقال: {لنُبوئنَّهم} قيل: لنعطينهم، وقيل: لنرزقنهم، وهو واحد {في الدنيا حسنة} تحتمل الحسنة في الدنيا العز بعد الذل والسعة بعد الضيق والشدة والغلبة والنصر لهم بعد ما كانوا مقهورين مغلوبين في أيدي الأعداء، والذكر والشرف بعد الهوان. هذه الحسنة التي بوأهم في الدنيا. والمهاجرة: المقاطعة؛ كأنه قال: والذين قاطعوا أرحامهم وأقاربهم ومكاسبهم وديارهم، فأبدل الله لهم مكان الأرحام والأقارب أخلاء وإخوانا ومكان أموالهم أموالا أخرى وكذلك الدور وكل شيء تركوا هنالك، فأبدلهم مكان ذلك كله.
{ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} فيشبه أن يكون ذكر هذا عن حسد كان من الكفرة للمهاجرين لما أنزلهم في المدينة وبوأهم فيها وأعزهم ورفع ذكرهم وأمرهم ونصرهم، حسدهم أهل الكفر بذلك، فعند ذلك قال: {ولأجر الآخرة أكبر} لهم أكبر و أعظم. ويحتمل أيضا قوله: {ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} هؤلاء المهاجرين، فيخف عليهم احتمال ما أوذوا وظلموا ويهون، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} الضمير للكفار، أي: لو علموا أنّ الله يجمع لهؤلاء المستضعفين في أيديهم الدنيا والآخرة، لرغبوا في دينهم. ويجوز أن يرجع الضمير إلى المهاجرين، أي: لو كانوا يعلمون ذلك لزادوا في اجتهادهم وصبرهم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما ذكر الله تعالى كفار مكة الذين أقسموا أن الله لا يبعث من يموت، ورد على قولهم، ذكر مؤمني مكة المعاصرين لهم، وهم الذين هاجروا إلى أرض الحبشة، هذا قول الجمهور، وهو الصحيح في سبب الآية، لأن هجرة المدينة لم تكن وقت نزول الآية...
وعلى كل قول فالآية تتناول بالمعنى كل من هاجر أولاً وآخراً.
...قالت فرقة: الحسنة عِدَةٌ ببقعة شريفة كشف الغيب أنها كانت المدينة.. وذهبت فرقة إلى أن الحسنة عامة في كل ما يستحسن أن يناله ابن آدم وتخف الاستعارة المذكورة على هذا التأويل...
...ذكر تعالى في هذه الآية حكم تلك الهجرة وبين ما لهؤلاء المهاجرين من الحسنات في الدنيا والأجر في الآخرة، من حيث هاجروا وصبروا وتوكلوا على الله، وذلك ترغيب لغيرهم في طاعة الله تعالى..
لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن 741 هـ :
وهذه الآية تدل على فضل المهاجرين وفضل الهجرة وفيه دليل على أن الهجرة إذا لم تكن لله خالصة لم يكن لها موقع، وكانت بمنزلة الانتقال من بلد إلى آخر ومنه حديث « الأعمال بالنيات» وفيه « فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه» الحديث أخرجاه في الصحيحين من رواية عمر بن الخطاب...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان التقدير تفصيلاً لفريقي المبين لهم وترغيباً في الهجرة لأنها بعد الإيمان أوثق عرى الإسلام: فالذين كفروا واغتروا بما شاهدوه من العرض الفاني لنخزينهم في الدنيا والآخرة ولنجازينهم بجميع ما كانوا يعملون، عطف عليه قوله تعالى: {والذين هاجروا} أي أوقعوا المهاجرة فراراً بدينهم فهجروا آباءهم وأبناءهم وأقاربهم من الكفار وديارهم وجميع ما نهوا عنه {في الله} أي الملك الأعلى الذي له صفات الكمال، بعدما تمادى المكذبون بالبعث على إيذائهم، فتركوا لهم بلادهم.
ولما كانت هجرتهم لم تستغرق زمان البعد لموت بعض من هجروه وإسلام آخرين بعد احتمالهم لظلمهم ما شاء الله، قال تعالى: {من بعد ما ظلموا} أي وقع ظلمهم من الكفار، بناه للمفعول لأن المحذور وقوع الظلم لا كونه من معين {لنبوئنهم} أي نوجد لهم منزلاً هو أهل لأن يرجع إليه، بما لنا من الملائكة وغيرهم من الجنود وجميع العظمة {في الدنيا} مباءة {حسنة} كبيرة عظيمة، جزاء لهم على خدمتنا، بأن نعلي أمرهم وإن كره المشركون، كما يراه من يتدبر بمنعي لأوليائي على قلتهم، وسينكشف الأمر عما قريب انكشافاً لا يجهله أحد، فالآية دليل على ما قبلها.
ولما كان التقدير: ولنبوئنهم في الآخرة أجراً كبيراً، عطف عليه قوله تعالى: {ولأجر الآخرة} المعد لهم {أكبر} مما جعلته لهم في الدنيا {لو كانوا يعلمون} أي لو كان الكفار لهم بجبلاتهم علم بأن يكون لهم عقل يتدبرون به لعلموا -بإحساني إلى أوليائي في الدنيا من منعي لهم منهم في عنادهم مع كثرتهم وقلتهم، وإسباغي لنعمي عليهم لا سيما في الأماكن التي هاجروا إليها من الحبشة والمدينة وغيرهما مع اجتهادهم في منعها عنهم- أني أجمع لأوليائي الدارين، وأن إحساني إليهم في الآخرة أعظم -روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء قال: خذ بارك الله لك فيه، هذا ما وعدك الله في الدنيا، وما ادخر لك في الآخرة أكثر وأفضل- ثم تلا هذه الآية.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهنا يعرض في الجانب المقابل للمنكرين الجاحدين، لمحة عن المؤمنين المصدقين، الذين يحملهم يقينهم في الله والآخرة على هجر الديار والأموال، في الله، وفي سبيل الله: (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة، ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون. الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون).. فهؤلاء الذين هاجروا من ديارهم وأموالهم، وتعروا عما يملكون وعما يحبون، وضحوا بدارهم وقرب عشيرتهم والحبيب من ذكرياتهم.. هؤلاء يرجون في الآخرة عوضا عن كل ما خلفوا وكل ما تركوا. وقد عانوا الظلم وفارقوه. فإذا كانوا قد خسروا الديار ف (لنبوئنهم في الدنيا حسنة) و لنسكننهم خيرا مما فقدوا (ولأجر الآخرة أكبر) لو كان الناس يعلمون.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما ثبتت حكمة البعث بأنها تبيين الذي اختلف فيه الناس من هدى وضلالة، ومن ذلك أن يتبين أن الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين يعلم منه أنّه بتبيين بالبعث أن الذين آمنوا كانوا صادقين بدلالة المضادة وأنهم مثابون ومكرمون. فلما علم ذلك من السياق وقع التصريح به في هذه الآية. وأدمج مع ذلك وعدهم بحسن العاقبة في الدنيا مقابلة وعيد الكافرين بسوء العاقبة فيها الواقع بالتعّريض في قوله تعالى: {فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين} [سورة النحل: 36]. فالجملة معطوفة على جملة {وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين} [سورة النحل: 39]. والمهاجر: متاركة الدّيار لغرض ما. و {في} مستعملة في التّعليل، أي لأجل الله. والكلام على تقدير مضاف يظهر من السّياق. تقديره: هاجروا لأجل مرضاة الله. وإسناد فعل {ظلموا} إلى المجهول لظهور الفاعل من السّياق وهو المشركون. والظلم يشمل أصناف الاعتداء من الأذى والتعذيب. والتبوئة: الإسكان. وأطلقت هنا على الجزاء بالحسنى على المهاجرة بطريق المضادّة للمهاجرة، لأن المهاجرة الخروج من الدّيار فيضادّها الإسكان. وفي الجمع بين {هاجروا} و {لنبوئنهم} محسّن الطباق. والمعنى: لنجازينّهم جزاءً حسناً. فعبر عن الجزاء بالتّبوئة لأنه جزاء على ترك المباءة. و {حسنة} صفة لمصدر محذوف جار على « نبوئنهم»، أي تبوئة حسنة. وهذا الجزاء يجبر كل ما اشتملت عليه المهاجرة من الأضرار التي لقيها المهاجرون من مفارقة ديارهم وأهليهم وأموالهم، وما لاقَوُه من الأذى الذي ألجأهم إلى المهاجرة من تعذيب واستهزاء ومَذلّة وفتنة، فالحسنة تشتمل على تعويضهم دياراً خيراً من ديارهم، ووطناً خيراً من وطنهم، وهو المدينة، وأموالاً خيراً من أموالهم، وهي ما نالوه من المغانم ومن الخراج. وغلبة لأعدائهم في الفتوح وأهمّها فتح مكّة، وأمناً في حياتهم بما نالوه من السلطان، قال تعالى: {وليبدلنّهم من بعد خوفهم أمنا} [سورة النور: 55].
...ويجوز أن يكون السؤال المثار هو: كيف يحْزن المهاجرون على ما تركوه من ديارهم وأموالهم وأهليهم، فيكون: المعنى لو كان المهاجرون يعلمون ما أعدّ لهم عِلم مشاهدة لما حزِنوا على مفارقة ديارهم ولكانت هجرتهم عن شوق إلى ما يلاقونه بعد هجرتهم، لأن تأثير العلم الحسّي على المزاج الإنساني أقوى من العلم العقلي لعدم احتياج العلم الحسّي إلى استعمال نظر واستدلال، ولعدم اشتمال العلم العقلي على تفاصيل الكيفيات التي تحبّها النفوس وترتمي إليها الشهوات، كما أشار إليه قوله تعالى: {قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي} [سورة البقرة: 260]. فليس المراد بقوله تعالى: {لو كانوا يعلمون} لو كانوا يعتقدون ويؤمنون، لأن ذلك حاصل لا يناسب موقع {لو} الامتناعية. فضمير {يعلمون} على هذا « للذين هاجروا». وفي هذا الوجه تتناسق الضمائر.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
{والذين هاجروا في الله} الفاء هنا للسببية، أي لأجل الله تعالى، وذكر الفاء يومئ إلى أنهم فنوا في الله فصاروا لا يفكرون في غيره، وصار هو ملء قلوبهم ونفوسهم وعقولهم، وأحاسيسهم فكلهم له سبحانه وتعالى لا يفكرون إلا فيه، ويهون كل عذاب في سبيله.
المهاجرون قوم آمنوا بالله إيماناً صار إلى مرتبة من مراتب اليقين جعلتهم يتحملون الأذى والظلم والاضطهاد في سبيل إيمانهم فلا يمكن أن يضحي الإنسان بماله وأهله ونفسه إلا إذا كان لأمر يقيني...
لم يترك المهاجرون مكة، بل اضطروا إلى تركها وأجبروا عليه، وطبيعي إذن أن يلجأوا إلى دار أخرى حتى تقوى شوكتهم ثم يعودون للإقامة ثانية في مكة إقامة طبيعية صحيحة. ثم إن الحق تبارك وتعالى قال: {هاجروا في الله}.
فما الفرق هنا بين: هاجر في الله، وهاجر إلى الله؟. هاجر إلى مكان تدل على أن المكان الذي هاجر إليه افضل من الذي تركه، وكأن الذي هاجر منه ليس مناسباً له. أما هاجر في الله فتدل على أن الإقامة السابقة كانت أيضاً في الله.. إقامتهم نفسها في مكة وتحملهم الأذى والظلم والاضطهاد كانت أيضاً في الله. أما لو قالت الآية "هاجروا إلى الله "لدل ذلك على أن إقامتهم الأولى لم تكن لله.. إذن: معنى الآية: {هاجروا في الله} أي: أن إقامتهم كانت الله، وهجرتهم كانت لله. ومثل هذا قوله تعالى: {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} (سورة آل عمران 133) أي: إذا لم تكونوا في مغفرة فسارعوا إلى المغفرة، وفي الآية الأخرى: {يسارعون في الخيرات} (سورة المؤمنون 61) ذلك لأنهم كانوا في خير سابق، وسوف يسارعون إلى خير آخر.. أي: أنتم في خير ولكن سارعوا إلى خير منه.
{لنبوئنهم في الدنيا حسنة} نبوئ، مثل قوله تعالى: {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت} (سورة الحج 26) أي: بينا له مكانه، ونقول: باء الإنسان إلى بيته إذا رجع إليه، فالإنسان يخرج للسعي في مناكب الأرض في زراعة أو تجارة، ثم يأوي ويبوء إلى بيته، إذن: باء بمعنى رجع، أو هو مسكن الإنسان، وما أعده الله له. فإن كان المؤمنون سيخرجون الآن من مكة مغلوبين مضطهدين فسوف نعطيهم ونحلهم وننزلهم منزلة احسن من التي كانوا فيها، فقد كانوا مضطهدين في مكة، فأصبحوا آمنين في المدينة، وإن كانوا تركوا بلدهم فسوف نمهد لهم الدنيا كلها ينتشرون فيها بمنهج الله، ويجنون خير الدنيا كلها، ثم بعد ذلك نرجعهم إلى بلدهم سادة أعزة بعد أن تكون مكة بلداً لله خالصة من عبادة الأوثان والأصنام.. هذه هي الحسنة في الدنيا.
ثم يقول تعالى: {ولأجر الآخرة أكبر} ما ذكرناه من حسنة الدنيا وخيرها للمؤمنين هذا من المعجلات للعمل، ولكن حسنات الدنيا مهما كانت ستؤول إلى زوال، إما أن تفارقها، وإما أن تفارقك، وقد أنجز الله وعده للمؤمنين في الدنيا، فعادوا منتصرين إلى مكة، بل دانت لهم الجزيرة العربية كلها بل العالم كله، وانساحوا في الشرق في فارس، وفي الغرب في الرومان، وفي نصف قرن كانوا سادة العالم أجمع.
{ولأجر الآخرة أكبر} وساعة أن تسمع كلمة (أكبر) فاعلم أن مقابلها ليس أصغر أو صغير، بل مقابلها (كبير) فتكون حسنة الدنيا التي بوأهم الله إياها هي (الكبيرة)، لكن ما ينتظرهم في الآخرة (أكبر). وكذلك قد تكون صيغة أفعل التفضيل أقل في المدح من غير افعل التفضيل.. فمن أسماء الله الحسنى (الكبير) في حين أن الأكبر صفة من صفاته تعالى، وليس اسماً من أسمائه، وفي شعار ندائنا لله نقول: الله أكبر ولا نقول: الله كبير.. ذلك لأن كبير ما عداه يكون صغيراً.. إنما أكبر، ما عداه يكون كبيراً، فنقول في الأذان: الله أكبر لأن أمور الدنيا في حق المؤمن كبيرة من حيث هي وسيلة للآخرة.
{لو كانوا يعلمون} الخطاب هنا عن من؟ الخطاب هنا يمكن أن يتجه إلى ثلاثة أشياء: يمكن أن يراد به الكافرون.. ويكون المعنى: لو كانوا يعلمون عاقبة الإيمان وجزاء المؤمنين لآثروه على الكفر. ويمكن أن يراد به المهاجرون.. ويكون المعنى: لو كانوا يعلمون لازدادوا في عمل الخير. وأخيراً قد يراد به المؤمن الذي لم يهاجر.. ويكون المعنى: لو كان يعلم نتيجة الهجرة لسارع إليها. وهذه الأوجه التي يحتملها التعبير القرآني دليل على ثراء الأداء وبلاغة القرآن الكريم، وهذا ما يسمونه تربيب الفوائد.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا نوع آخر من الناس، عاش المعرفة فكراً وإيماناً، وتحمّل مسؤوليتها جهداً وعناءً وتشرداً، من أجل أن يحوّلها إلى فكر يشمل الناس كلهم، وإلى إيمان يحتوي الحياة كلها من موقع المسؤولية الرسالية التي أراد الله لعباده أن يحملوها إلى أنفسهم وإلى الآخرين، فهو لم يشأ أن ينكمشوا داخل ذواتهم ليكتفوا بما لديهم من المعرفة لحياتهم الخاصة، بل أراد لهم أن يتحملوا مسؤولية الدعوة إليها، مهما كلفهم ذلك من جهد. وهؤلاء هم المهاجرون الذين تمرّدوا على العذاب في سبيل الثبات على إيمانهم بالإسلام، وصمدوا أمام التحديات التي واجهتهم بكل قوة، كي لا تنحرف بهم عن خط الدعوة إلى الله. وهاجروا من مواقع الضعف التي عاشوا فيها الحصار المادي والمعنوي، إلى المواقع التي يعملون فيها على صنع القوة، بهدف تركيز قواعد الإسلام في المجتمع الجديد، ثم الالتفاف بالقوّة الجديدة على المجتمع القديم.