محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{تَبَٰرَكَ ٱسۡمُ رَبِّكَ ذِي ٱلۡجَلَٰلِ وَٱلۡإِكۡرَامِ} (78)

{ تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } أي ذي العظمة والكبرياء ، والتفضل بالآلاء و ) الاسم ) هنا كناية عن الذات العلية ، لأنه كثر اقتران الفعل المذكور معها ، كآية{[6912]} { تبارك الذي جعل في السماء بروجا } ، وآية { تبارك الذي بيده الملك } {[6913]} . ونحوهما . وسر إيثار الاسم / التنبيه على أنه لا يُعرف منه تعالى إلا أسماؤه الحسنى ، لاستحالة اكتناه الذات المقدسة . فما عرف الله إلا الله . هذا هو التحقيق .

وقيل : لفظ ( اسم ) مقحم ، كقوله : {[6914]}

* إلى الحولِ ، ثم اسم السلام عليكما *

وذهب ابن حزم إلى بقاء الاسم على حقيقته . ورد من استدل بأن الاسم هو المسمى بما مثاله :

لا حجة فيما احتجوا به ، أما قول الله عز وجل { تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام } فحقّ . ومعنى { تبارك } تفاعل من البركة ، والبركة واجبة لاسم الله عز وجل الذي هو كلمة مؤلفة من حروف الهجاء . ونحن نتبرّك بالذكر له وبتعظيمه ونجلّه ونكرّمه ، فله التبارك وله الإجلال منا ومن الله تعالى ، وله الإكرام من الله تعالى ومنا ، حينما كان من قرطاس ، أو في شيء منقوش فيه ، أو مذكور بالألسنة . ومن لم يجلّ اسم الله عز وجل /كذلك ولا أكرمه ، فهو كافر بلا شك . فالآية على ظاهرها دون تأويل ، فبطل تعلقهم بها . انتهى كلامه رحمه الله .

ختام السورة:

فائدة

فيما قاله الأئمة في سر تكرير { فبأي آلاء ربكما تكذبان } {[1]} .

قال السيوطي في ( الإتقان ) في بحث التكرير :

قد يكون التكرير غير تأكيد صناعة ، وإن كان مفيدا للتأكيد معنى . ومنه ما وقع فيه الفصل بين المكريين ، فإن التأكيد لا يفصل بينه وبين مؤكده .

ثم قال : وجعل منه قوله : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } فإنها ، وإن تكررت نيفا وثلاثين مرة ، فكل واحدة تتعلق بما قبلها ، ولذلك زادت على ثلاثة ، ولو كان الجميع عائدا إلى شيء واحد لما زاد على ثلاثة ، لأن التأكيد لا يزيد عليها – قاله ابن عبد السلام وغيره – انتهى .

وفي ( عروس الأفراح ( : فإن قلت : إذا كان المراد بكل ما قبله فليس ذلك بإطناب ، بل هي ألفاظ كل أريد به غير ما أريد به الآخر .

قلت : إذا قلنا : العبرة بعموم اللفظ ، فكل واحد أريد به ما أريد بالآخر ، ولكن كرر ليكون نصا فيما يليه ، ظاهرا في غيره .

فإن قلت : يلزم التأكيد ؟

قلت : والأمر كذلك ، ولا يرد عليه أن التأكيد لا يزاد به عن ثلاثة ، لأن ذاك في التأكيد الذي هو تابع . أما ذكر الشيء في مقامات متعددة أكثر من ثلاثة ، فلا يمتنع . انتهى .

وقال العز بن عبد السلام في آخر كتابه ( الإشارة إلى الإيجاز ) وأما قوله : { فبأي / آلاء ربكما تكذبان } فيجوز أن تكون مكررة على جميع أنعمه ، ويجوز أن يراد بكل واحدة منهن ما وقع بينهما وبين التي قبلها من نعمة ويجوز أن يراد بالأولى ما تقدمها من النعم ، وبالثانية ما تقدمها ، وبالثالثة ما تقدم على الأولى والثانية وبالرابعة وما تقدم على الأولى والثانية والثالثة ، وهكذا إلى آخر السورة .

فإن قيل : كيف يكون قوله : { سنفرغ لكم أيه الثقلان } نعمة ، وقوله : { يعرف المجرمون بسيماهم } نعمة ، وكذلك قوله : { هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون } وقوله : { يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس } وقوله : { يطوفون بينها وبين حميم آن } .

قلنا : هذه كلها نعم جسام ، لأن الله هدد العباد بها استصلاحا لهم ، ليخرجوا من حيز الكفر والطغيان والفسوق والعصيان إلى حيز الطاعة والإيمان ، والانقياد والإذعان . فإن من حذر من طريق الردى ، وبين ما فيها من الأذى ، وحث على طريق السلامة ، الموصلة إلى المثوبة والكرامة ، كان منعما غاية الإنعام ، ومحسنا غاية الإحسان . ومثل ذلك قوله :{[2]} { هذا ما وعد الرحمن } وعلى هذا تصلح فيه مناسبة الربط ، بذكر صفة الرحمة في ذلك المقام . وأما قوله :{[3]} { كل من عليها فان } فإنه تذكير بالموت والفناء ، للترغيب في الإقبال على العمل لدار البقاء ، وفي الإعراض عن دار الفناء . انتهى .

وقال البغويّ : كررت هذه الآية في أحد وثلاثين موضعا تقريرا للنعمة ، وتأكيدا للتذكير بها . ثم عدد على الخلق آلاءه ، وفصل بين كل نعمتين بما نبههم عليه ، ليفهمهم النعم ويقررهم بها . كقول الرجل لمن أحسن إليه ، وتابع إليه بالأيادي ، وهو ينكرها ويكفرها : ألم تكن فقيرا فأغنيتك ، أفتنكر هذا ؟ ألم تكن عريانا فكسوتك ، أفتنكر هذا ؟ ألم تكن خاملا فعززتك ، أفتنكر هذا ؟ ومثل هذا الكلام شائع في كلام العرب . انتهى .

/ وقال السيد مرتضى في ( الدرر والغرر ) : التكرار في سورة الرحمن ، إنما حسن للتقرير بالنعم المختلفة المعدّدة ، فكلما ذكر نعمة أنعم بها ، وبّخ على التكذيب ، كما يقول الرجل لغيره : ألم أحسن إليك بأن خولتك في الأموال ؟ ألم أحسن إليك بأن فعلت بك كذا وكذا ؟ فيحسن فيه التكرير ، لاختلاف ما يقرر به ، وهو كثير في كلام العرب وأشعارهم ، كقول مهلهل يرثي كليبا :{[4]}

على أن ليس عدلا من كُلَيْبٍ *** إذا ما ضِيمَ جيران المُجِيرِ

على أن ليس عدلا من كُلَيْبٍ *** إذا رجف العِضَاهُ من الدَّبُورِ

على أن ليس عدلا من كُلَيْبٍ *** إذا خَرَجَتْ مُخَبَّأَةُ الخُدُوِر

على أن ليس عدلا من كُلَيْبٍ *** إذا ما أُعِْلنَتْ نجوى الأمور

على أن ليس عدلا من كُلَيْبٍ *** إذا خِيفَ المَخُوفُ من الثغور

على أن ليس عدلا من كُلَيْبٍ *** غداة تَلَاتِلَ الأمر الكبير

على أن ليس عدلا من كُلَيْبٍ *** إذا ما خار جار المستجير

ثم أنشد قصائد أخرى على هذا النمط ، وهو من لطائف العرب ، فاعرفه .

وقال شيخ الإسلام في ( متشابه القرآن ) : ذكرت هذه الآية إحدى وثلاثين مرة ، ثمانية منها ذكرت عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق الله ، وبدائع صنعه ، ومبدأ الخلق ومعادهم . ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها ، بعدد أبواب جهنم ، وحسن ذكر الآلاء عقبها ، لأن من جملة الآلاء ، رفع البلاء ، وتأخير العقاب . وبعد هذه السبعة ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما ، بعدد أبواب الجنة ، وثمانية أخرى بعدها في الجنتين اللتين هما دون الجنتين الأوليين ، أخذا من قوله : { ومن دونهما جنتان } . فمن اعتقد الثمانية الأولى وعمل بموجبها استحق هاتين الثمانيتين من الله ، ووقاه السبعة السابقة . انتهى .

اللهم زدنا اطلاعا على لطائف قرآنك الكريم ، وغوصا على لآلىء فرقانك العظيم .


[1]:(4 النساء 15 و 16).
[2]:(24 النور 2).
[3]:(2 البقرة 282).
[4]:(70 المعارج 33).
[6912]:[25/ الفرقان / 61].
[6913]:[67/ الملك / 1].
[6914]:وعجزه: * ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر * وقائله لبيد بن ربيعة. والشعر يقوله لبنتيه، إذ قال: تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما *** وهل أنا إلا من ربيعة أو مُضَرْ ثم أمرهما بأمره، فقال قبل بيت الشاهد: فقوما فقولا بالذي قد علمتما *** ولا تخمشا وجها ولا تحلقا شعر وقولا: هو المرء الذي لا خليله *** أضاع، ولا خان الصديق، ولا غَدَرْ فقوله (إلى الحول) أي افعلا ذلك إلى أن يحول الحول. والحول: السنة كاملة بأسرها. وقوله (اعتذر) هنا بمعنى أعذر. أي بلغ أقصى الغاية في العذر. ) تفسير الطبريّ، طبعة المعارف، ج 1 ص 119)( في الحاشية(.