المنتخب في تفسير القرآن الكريم للمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية - المنتخب [إخفاء]  
{وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (109)

109- وأقسم المشركون بأقصى أيمانهم لئن جاءتهم آية مادية من الآيات التي اقترحوها ليكونن ذلك سبباً في إيمانهم ، قل - يا أيها النبي - : إن هذه الآيات من عند الله ، فهو - وحده - القادر عليها ، وليس لي يد فيها ، إنكم - أيها المؤمنون - لا تدرون ما سبق به علمي من أنهم إذا جاءتهم هذه الآيات لا يؤمنون .

 
معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (109)

قوله تعالى : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } الآية . قال محمد بن كعب القرظي والكلبي : قالت قريش : يا محمد : إنك تخبرنا أن موسى كان معه عصىً يضرب بها الحجر فينفجر منه اثنتا عشرة عيناً ، وتخبرنا أن عيسى عليه السلام كان يحيي الموتى فأتنا من الآيات حتى نصدقك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي شيء تحبون ؟ قالوا : تجعل لنا الصفا ذهباً ، وابعث لنا بعض موتانا حتى نسأله عنك أحق ما تقول أم باطل ؟ و أرنا الملائكة يشهدون لك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإن فعلت بعض ما تقولون أتصدقونني ؟ قالوا : نعم ، والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعين ، وسأل المسلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزلها عليهم حتى يؤمنوا ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يجعل الصفا ذهباً فجاءه جبريل عليه السلام ، فقال له : اختر ما شئت إن شئت أصبح ذهباً ولكن إن لم يصدقوا عذبتهم ، وإن شئت تركتهم حتى يتوب تائبهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل يتوب تائبهم ، فأنزل الله عز وجل : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } ، أي : حلفوا بالله جهد أيمانهم ، أي : بجهد أيمانهم ، يعني أوكد ما قدروا عليه من الأيمان وأشدها .

قال الكلبي ومجاهد : إذا حلف الرجل بالله ، فهو جهد يمينه .

قوله تعالى : { لئن جاءتهم آية } ، كما جاءت من قبلهم من الأمم .

قوله تعالى : { ليؤمنن بها قل } يا محمد .

قوله تعالى : { إنما الآيات عند الله } ، والله قادر على إنزالها .

قوله تعالى : { وما يشعركم } ، وما يدريكم ، واختلفوا في المخاطبين بقوله { وما يشعركم } فقال بعضهم : الخطاب للمشركين الذين أقسموا . وقال بعضهم : الخطاب للمؤمنين . قوله تعالى : { أنها إذا جاءت لا يؤمنون } ، قرأ ابن كثير وأهل البصرة ، وأبو بكر عن عاصم { إنها } بكسر الألف على الابتداء ، وقالوا : تم الكلام عند قوله { وما يشعركم } ، ثم من جعل الخطاب للمشركين قال : معناه : وما يشعركم أيها المشركون أنها لو جاءت آمنتم ؟ ومن جعل الخطاب للمؤمنين قال معناه : وما يشعركم أيها المؤمنون أنها لو جاءت آمنوا ؟ لأن المسلمين كانوا يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله تعالى حتى يريهم ما اقترحوا حتى يؤمنوا فخاطبهم بقوله : { وما يشعركم } ، ثم ابتدأ فقال جل ذكره : { إنها إذا جاءت لا يؤمنون } ، وهذا في قوم مخصوصين حكم الله عليهم بأنهم لا يؤمنون ، وقرأ الآخرون : { أنها } بفتح الألف وجعلوا الخطاب للمؤمنين ، واختلفوا في قوله : { لا يؤمنون } ، فقال الكسائي : { لا } صلة ، ومعنى الآية : وما يشعركم أيها المؤمنون أن الآيات إذا جاءت المشركين يؤمنون ؟ كقوله تعالى : { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون } [ الأنبياء :95 ] ، أي : يرجعون وقيل : إنها بمعنى لعل ، وكذلك هو في قراءة أبي ، تقول العرب : اذهب إلى السوق إنك تشتري شيئاً ، أي : لعلك ، وقال عدي بن زيد :

أعاذل ما يدريك أن منيتي *** إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد

أي : لعل منيتي ، وقيل : فيه حذف وتقديره : وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون أو لا يؤمنون ؟ وقرأ ابن عامر و حمزة { لا تؤمنون } بالتاء على الخطاب للكفار ، واعتبروا بقراءة أبي : إذا جاءتكم لا تؤمنون ، وقرأ الآخرون بالياء على الخبر ، دليلها قراءة الأعمش : { أنها إذا جاءتهم لا يؤمنون } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (109)

{ 109 - 111 } { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ }

أي : وأقسم المشركون المكذبون للرسول محمد صلى الله عليه وسلم . { بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي : قسما اجتهدوا فيه وأكدوه . { لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ } تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم { لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا } وهذا الكلام الذي صدر منهم ، لم يكن قصدهم فيه الرشاد ، وإنما قصدهم دفع الاعتراض عليهم ، ورد ما جاء به الرسول قطعا ، فإن الله أيد رسوله صلى الله عليه وسلم ، بالآيات البينات ، والأدلة الواضحات ، التي -عند الالتفات لها- لا تبقي أدنى شبهة ولا إشكال في صحة ما جاء به ، فطلبهم -بعد ذلك- للآيات من باب التعنت ، الذي لا يلزم إجابته ، بل قد يكون المنع من إجابتهم أصلح لهم ، فإن الله جرت سنته في عباده ، أن المقترحين للآيات على رسلهم ، إذا جاءتهم ، فلم يؤمنوا بها -أنه يعاجلهم بالعقوبة ، ولهذا قال : { قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ } أي : هو الذي يرسلها إذا شاء ، ويمنعها إذا شاء ، ليس لي من الأمر شيء ، فطلبكم مني الآيات ظلم ، وطلب لما لا أملك ، وإنما توجهون إلي توضيح ما جئتكم به ، وتصديقه ، وقد حصل ، ومع ذلك ، فليس معلوما ، أنهم إذا جاءتهم الآيات يؤمنون ويصدقون ، بل الغالب ممن هذه حاله ، أنه لا يؤمن ، ولهذا قال : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (109)

ثم حكى القرآن بعض المقترحات المتعنتة التى كان يقترحها المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } .

الجهد : الوسع والطاقة من جهد نفسه يجهدها فى الأمر إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها فيه . وهو مصدر فى موضع الحال .

أى : وأقسم أولئك المشركون بالله مجتهدين فى أيمانهم ، مؤكدين إياها بأقصى ألوان التأكيد ، معلنين أنهم لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية التى اقترحوها عليك يا محمد ليؤمنن بها أنها من عند الله وأنك صادق فيما تبلغه عن ربك .

وقد لقن الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم الرد المفحم لهم فقال : { قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله } .

أى : قل لهم يا محمد إن هذه الآيات التى اقترحتموها تعنتا وعنادا مردها إلى الله ، فهو وحده القادر عليها والمتصرف فيها حسب مشيئته وحكمته ، إن شاء أنزلها وإن شاء منعها ، أما أنا فليس ذلك إلىَّ .

أخرج ابن جرير - بسنده - عن محمد بن كعب القرظى قال : " كلم نفر من قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له ، يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا ضرب بها الحجر ، فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، وتخبرنا أن عيى كان يحيى الموتى ، وتخبرنا أن ثمود كانت لهم ناقة فأتنا بآية من هذه الآيات حتى نصدقك ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أى شىء تحبون أن آتيكم به " ؟ قالوا ، تجعل لنا الصا ذهبا ، فقال لهم " فإن فعلت تصدقونى " ؟ قالوا نعم . والله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل فقال ، إن شئت أصبح الصفا ذهبا على أن يعذبهم الله إذا لم يؤمنوا ، وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم ، فقال صلى الله عليه وسلم " بل أتركهم حتى يتوب تائبهم " ، فأنزل الله - تعالى - قوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } . إلى قوله ( ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ) " .

وقوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } .

أى : وما يدريكم أيها المؤمنون الراغبون فى إنزال هذه الآيات طمعا فى إسلام هؤلاء المشركين أنها إذا جاءت لا يؤمنون أى : إذا جاءت هذه الآيات فأنا أعلم أنهم لا يؤمنون وأنتم لا تعلمون ذلك ولذا توقعتم إيمانهم ورغبتم فى نزول الآيات .

فالخطاب هنا للمؤمنين ، والاستفهام فى معنى النفى ، وهو إخبار عنهم بعدم العلم وليس للإنكار عليهم .

أى : إنكم إيها المؤمنون ليس عندكم شىء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبى الذى لا يعلمه إلا علام الغيوب وهو أنهم لا يؤمنون إن جاءتهم الآيات التى يقترحونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعنتا وجهلا .

قال صاحب الكشاف : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } وما يدريكم { أَنَّهَآ } أى الآية التى تقترحونها { إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } يعنى أنا أعلم أنها إذا جاءت لا يؤمنون بها وأنتم لا تدرون بذلك ، وذلك أن المؤمنين كانوا يطمعون فى إيمانهم إذا جاءت تلك الآية ويتمنون مجيئها ، فقال - عز وجل - وما يدريكم أنهم لا يؤمنون ، وقيل : إنها بمعنى " لعل " من قول العرب : ائت السوق أنك تشترى حماراً .

وقال امرؤ القيس .

عوجا على الطلل المحيل لأننا . . . نبكى الديار كما بكى ابن خذام

أى : لعلنا نبكى الديار .

وقرىء بكسر " إنها " على أن الكلام قد تم قبله بمعنى : وما يشعركم ما يكون منهم ؟ ثم أخبرهم بعلمه فيهم فقال : إنها إذا جاءت لا يؤمنون البتة " .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (109)

95

وأخيرا يختم هذا الدرس ، الذي استعرض فيه صفحة الوجود الحافلة بالآيات والخوارق ، في كل لحظة من ليل أو نهار . . يختمه بأن هؤلاء المشركين يقسمون بالله جهد أيمانهم أن لو جاءتهم آية - أي خارقة مادية كخوارق الرسل السابقة - ليؤمنن بها ! الأمر الذي جعل بعض المسلمين حين سمعوا أيمانهم يقترحون على رسول الله [ ص ] أن يسأل ربه هذه الآية التي يطلبون ! . . ويجيء الرد الحاسم على المؤمنين ، ببيان طبيعة التكذيب في هؤلاء المكذبين :

( وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها . قل : إنما الآيات عند الله . وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون ؟ )

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (109)

{ وأقسموا بالله جهد أيمانهم } مصدر في موقع الحال ، والداعي لهم إلى هذا القسم والتأكيد فيه التحكم على الرسول صلى الله عليه وسلم في طلب الآيات واستحقار ما رأوا منها . { لئن جاءتهم آية } من مقترحاتهم . { ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله } هو قادر عليها يظهر منها ما يشاء وليس شيء منها بقدرتي وإرادتي . { وما يشعركم } وما يدريكم استفهام إنكار . { أنها } أي أن الآية المقترحة . { إذا جاءت لا يؤمنون } أي لا تدرون أنهم لا يؤمنون ، أنكر السبب مبالغة في نفي المسبب ، وفيه تنبيه على أنه سبحانه وتعالى إنما لم ينزلها لعلمه بأنها إذا جاءت لا يؤمنون بها ، وقيل لا مزيدة وقيل أن بمعنى لعل إذ قرئ لعلها قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر عن عاصم ويعقوب إنها بالكسر كأنه قال : وما يشعركم ما يكون منهم ، ثم أخبركم بما علم منهم والخطاب للمؤمنين فإنه يتمنون مجيء الآية طمعا في إيمانهم ، فنزلت .

وقيل للمشركين إذ قرأ ابن عامر وحمزة " لا تؤمنون " بالتاء وقرئ " وما يشعركم أنها إذا جاءتهم " فيكون إنكارا لهم على حلفهم أي : وما يشعرهم أن قلوبهم حينئذ لم تكن مطبوعة كما كانت عند نزول القرآن وغيره من الآيات فيؤمنون بها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (109)

الضمير في قوله { وأقسموا } عائد على المشركين المتقدم ذكرهم و { جهد } نصب على المصدر العامل فيه { أقسموا } على مذهب سيبويه لأنه في معناه ، وعلى مذهب أبي العباس المبرد فعل من لفظة ، واللام في قوله { لئن } لام موطئة للقسم مؤذنة به ، وأما اللام المتلقية للقسم فهي قوله { ليؤمنن } و { آية } يريد : علامة . وحكي أن الكفار لما نزلت { إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين }{[5050]} أقسموا حينئذ أنها إن نزلت آمنوا فنزلت هذه الآية .

وحكي أنهم اقترحوا أن يعود الصفا ذهباً وأقسموا فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في ذلك فجاءه جبريل فقال له إن شئت أصبح ذهباً فإن لم يؤمنوا هلكوا عن آخرهم معاجلة كما فعل بالأمم إذا لم تؤمن بالآيات المقترحة ، وإن شئت أخروا حتى يتوب تائبهم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل حتى يتوب تائبهم ونزلت هذه الآية{[5051]} ، وقرأ ابن مصرف «ليؤَمنَنْ » بفتح الميم والنون وبالنون الخفيفة ، ثم قال تعالى قل لهم يا محمد على جهة الرد والتخطية إنما الآيات بيد الله وعنده ليست عندي فتقترح عليّ ثم قال { وما يشعركم } فاختلف المتأولون فيمن المخاطب بقوله { وما يشعركم } ومن المستفهم ب «ما » التي يعود عليها الضمير الفاعل في «يشعركم » ، فقال مجاهد وابن زيد : المخاطب بذلك الكفار ، وقال الفراء وغيره المخاطب بها المؤمنون ، { وما يشعركم } معناه وما يعلمكم وما يدريكم ، وقرأ قوم «يشعرْكم » بسكون الراء ، وهي على التخفيف ، ويحسنها أن الخروج من كسرة إلى ضمة ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم في رواية داود الايادى «إنها » بكسر الألف على القطع واستئناف الإخبار ، فمن قرأ «تؤمنون » بالتاء وهي قراءة ابن عامر وحمزة واستقامت له المخاطبة أولاً وآخراً للكفار ، ومن قرأ «يؤمنون » بالياء وهي قراءة ابن كثير ونافع وأبي عمرو والكسائي فيحتمل أن يخاطب أولاً وآخراً المؤمنين ، ويحتمل أن يخاطب بقوله { وما يشعركم } الكفار ثم يتسأنف الإخبار عنهم للمؤمنين ، ومفعول { يشعركم } الثاني محذوف ويختلف تقديره بحسب كل تأويل وقرأ نافع وعاصم في رواية حفص وحمزة والكسائي وابن عامر «أنها » بفتح الألف ، فمنهم من جعلها «أن » التي تدخل على الجمل وتأتي بعد الأفعال كعلمت وظننت وأعمل فيها { يشعركم } ، والتزم بعضهم «أن لا » زائدة في قوله { لا يؤمنون } وأنّ معنى الكلام وما يشعركم أنها إذا جاءت يؤمنون أو تؤمنون فزيدت لا كما زيدت في قوله { وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون }{[5052]} لأن المعنى وحرام على قرية مهلكة رجوعهم ، وكما جاءت في قول الشاعر : [ الطويل ]

أبى جُودُهُ لا البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِ . . . نَعَمْ مِنْ فَتىً لا يَمْنَعُ الجُود قاتِلُهْ{[5053]}

قال الزجاج أراد «أبى جوده البخل » ، كما جاءَت زائدة في قول الشاعر :

أفمنك لا برق كان وميضه . . . غاب تسنمه ضرام مثقب{[5054]}

ودعا إلى التزام هذا حفظ المعنى لأنها لو لم تكن زائدة لعاد الكلام عذراً للكفار وفسد المراد بالآية ، وضعّف الزجّاج وغيره زيادة لا وقال : هذا غلط ومنهم من جعل «أنها » بمعنى لعلها وحكاها سيبويه عن الخليل وهو تأويل لا يحتاج معه إلى تقدير زيادة لا ، وحكى الكسائي أنه كذلك في مصحف أبي بن كعب : وما أدراكم لعلها إذا جاءت لا يؤمنون ، ومن هذا المعنى قول الشاعر [ أبو النجم ] : [ الراجز ]

قُلْتُ لِشَيْبَانَ ادْنُ مِنْ لِقَائِهِ . . . أنَّى تَغذّى القومُ من شوائِهِ{[5055]}

فهذه كلها بمعنى لعل وضعّف أبو علي هذا بأن التوقع الذي لا يناسب الآية بعد التي حكمت بأنهم لا يؤمنون ، وترجح عنده في الآية أن تكون «أن » على بابها وأن يكون المعنى قل إنما الآيات عند الله لأنها إذا جاءت «لا يؤمنون » ، فهو لا يأتي بها لإصرارهم على كفرهم ، وتكون الآية نظير قوله تعالى : { وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون }{[5056]} أي بالآيات المقترحة .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : ويترتب على هذا التأويل أن تكون «ما » نافية ، ذكر ذلك أبو علي فتأمل . وترجح عنده أيضاً أن تكون لا زائدة ، وبسط شواهده في ذلك ، وحكى بعض المفسرين أن في آخر الآية حذفاً يستغنى به عن زيادة لا ، وعن تأويلها بمعنى لعل وتقديره عندهم أنها إذا جاءت «لا يؤمنون » أو يؤمنون .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وهذا قول ضعيف لا يعضده لفظ الآية ولا يقتضيه وتحتمل الآية أن يكون المعنى يتضمن الإخبار أنهم لا يؤمنون ، وقيل لهم وما يشعركم بهذه الحقيقة أي لا سبيل إلى شعوركم بها وهي حق في نفسها وهم لا يؤمنون أن لو جاءت ، و { ما } استفهام على هذا التأويل ، وفي مصحف ابن مسعود «وما يشعركم إذا جاءتهم يؤمنون » بسقوط أنها .


[5050]:- الآية (4) من سورة (الشعراء).
[5051]:-أخرجه ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي، ولفظه كما جاء في (الدر المنثور 3/ 39): "كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، وأن عيسى كان يحيي الموتى، وأن ثمود كانت لهم ناقة، فأتنا من الآيات حتى نصدقك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا، قال: فإن فعلت ذلك تصدقوني؟ قالوا: نعم، والله لو فعلتَ ذلك لنتبعنك أجمعون، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو..الخ الحديث كما اثبت بقيته ابن عطية". (وهكذا أيضا نقله ابن كثير عن ابن جرير).
[5052]:- الآية (95) من سورة (الأنبياء).
[5053]:- البيت في (اللسان) غير منسوب، ولكن قال: أنشده الفارسي، وفيه: "لا يمنع الجوع" وقال ُمَعِّلَقة: "هكذا في الأصل والصحاح، وفي المحكم: الجوس، والجوس هو الجوع"- وجاء في (اللسان): "يروى بنصب البخل وبجره، فمن نصبه فعلى ضربين: أحدهما أن يكون بدلا من (لا) لأن (لا) موضوعها للبخل، فكأنه قال: أبي جودة البخل، والثاني أن تكون (لا) زائدة، والأول أعني البدل أحسن، ومن جرّه فقال: لا البخل فبإضافة (لا) إليه. والبيت أيضا في مغني اللبيب، وكتب معلقة (الدسوقي) ما نصه: "قوله: لا يمنع الجود قاتله. فاعل يمنع عائد على الممدوح، والجود مفعول ثان، وقاتله مفعول أول، ويحتمل أن الجود فاعل يمنع، أي جوده لا يحرم قاتله، فإذا أراد إنسان قتله فجوده لا يحرم ذلك الشخص بل يصله".
[5054]:- هذا البيت لساعدة الهندلي. قال الأصحفي: يريد: أمنك برق؟ وتسنمه: علاه، والضرام: ما اشتعل من الحطب، والمثقب: المضيء، وتثقيب النار: تذكيتها وتأجيجها.
[5055]:- نسبه في "القرطبي" لأبي النجم، ومثله قول حاتم طيء- وقيل: دريد بن الصمة: أريني جوادا مات هزلا لأنني أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا وقول عدي بن زيد: أعاذل ما يدريك أن منيتي إلى ساعة في اليوم أو في ضحى الغد وفي التنزيل العزيز: {وما يدريك لعله يزكى}.
[5056]:- من الآية (59) من سورة (الإسراء).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (109)

عطف جملة : { وأقسموا } على جملة : { اتَّبِعْ ما أوحِي إليك من ربّك } [ الأنعام : 106 ] الآية . والضّمير عائد إلى القوم في قوله : { وكذّب به قومك وهو الحقّ } [ الأنعام : 66 ] مثل الضّمائر الّتي جاءت بعد تلك الآية ومعنى : { لئن جاءتهم آية } آية غيرُ القرآن . وهذا إشارة إلى شيء من تعلّلاتهم للتمادي على الكفر بعد ظهور الحجج الدّامغة لهم ، كانوا قد تعلّلوا به في بعض تورّكهم على الإسلام . فروى الطّبري وغيره عن مجاهد ، ومحمدّ بن كعب القُرظِي ، والكلبي ، يزيد بعضهم على بعض : أنّ قريشاً سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم آية مثل آية موسى عليه السّلام إذ ضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه العيون ، أو مثل آية صالح ، أو مثل آية عيسى عليهم السّلام ، وأنّهم قالوا لمّا سمعوا قوله تعالى : { إنْ نشأ ننزّل عليهم من السّماء آية فظلَّت أعناقهم لها خاضعين } [ الشعراء : 4 ] أقسموا أنّهم إن جاءتهم آية كما سألوا أو كما تُوُعدوا ليوقِنُنّ أجمعون ، وأنّ رسول الله عليه الصلاة والسّلام سأل الله أن يأتيهم بآية كما سألوا ، حرصاً على أن يؤمنوا . فهذه الآية نازلة في ذلك المعنى لأنّ هذه السّورة جمعت كثيراً من أحوالهم ومحاجّاتهم .

والكلام على قوله : { وأقسموا بالله جهد أيمانهم } هو نحو الكلام على قوله في سورة [ العقود : 53 ] { أهؤلاء الّذين أقسموا بالله جهد أيمانهم } والأيمان تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { لا يؤاخذكم الله باللّغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } في سورة [ البقرة : 225 ] .

وجملة : { لئن جاءتهم آية } إلخ مبيّنة لجملة : { وأقسموا بالله } . واللاّم في { لئن جاءتهم آية } موطّئة للقسم ، لأنّها تدلّ على أنّ الشّرط قد جعل شَرطاً في القسم فتدلّ على قَسَم محذوف غالباً ، وقد جاءت هنا مع فعل القسم لأنّها صارت ملازمة للشّرط الواقع جواباً للقسم فلم تنفكّ عنه مع وجود فعل القسم . واللاّم في { ليومننّ بها } لام القسم ، أي لام جوابه .

والمراد بالآية ما اقترحوه على الرّسول صلى الله عليه وسلم يَعنُون بها خارق عادة تدلّ على أنّ الله أجاب مقترحهم ليصدّق رسوله عليه الصلاة والسّلام ، فلذلك نُكّرت { آية } ، يعني : آيَّةَ آيةٍ كانت من جنس ما تنحصر فيه الآيات في زعمهم . ومجيء الآية مستعار لظهورها لأنّ الشّيء الظّاهر يشبه حضور الغائب فلذلك يستعار له المجيء . وتقدّم بيان معنى الآية واشتقاقها عند قوله تعالى : { والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون } في سورة [ البقرة : 39 ] .

ومعنى كون الآيات عند الله أنّ الآيات من آثار قدرة الله وإرادته ، فأسباب إيجاد الآيات من صفاته ، فهو قادر عليها ، فلأجل ذلك شُبّهت بالأمور المدّخرة عنده ، وأنّه إذا شاء إبرازَها أبرزها للنّاس ، فكلمة { عند } هنا مجاز .

استعمل اسم المكان الشّديد القُرب في معنى الاستبداد والاستئثار مجازاً مرسلاً ، لأنّ الاستئثار من لوازم حالة المكان الشّديد القرب عرفاً ، كقوله تعالى : { وعنده مفاتح الغيب } [ الأنعام : 59 ] .

والحصر ب { إنّما } ردّ على المشركين ظنّهم بأنّ الآيات في مقدور النّبيء صلى الله عليه وسلم إن كان نبيئاً فجعلوا عدم إجابة النّبيء صلى الله عليه وسلم اقتراحَهم آية أمارة على انتفاء نبوءته ، فأمره الله أن يجيب بأنّ الآيات عند الله لا عند الرّسول عليه الصّلاة والسّلام ، والله أعلم بما يُظهره من الآيات .

وقوله : { وما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون } قرأ الأكثر ( أنّها ) بفتح همزة « أنّ » . وقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، ويعقوب ، وخلَف ، وأبو بكر عن عاصم في إحدى روايتين عن أبي بكر بكسر همزة ( إنّ ) .

وقرأ الجمهور { لا يؤمنون } بياء الغيبة . وقرأه ابن عامر ، وحمزة ، وخلف بتاء الخطاب ، وعليه فالخطاب للمشركين .

وهذه الجملة عقبة حَيرة للمفسّرين في الإبانة عن معناها ونظمها ولْنَأت على ما لاح لنا في موقعها ونظمها وتفسير معناها ، ثمّ نعقّبه بأقوال المفسّرين . فالّذي يلوح لي أنّ الجملة يجوز أن تكون الواو فيها واوَ العطف وأن تكون واو الحال . فأمّا وجه كونها واو العطف فأن تكون معطوفة على جملة : { إنّما الآيات عند الله } كلام مستقلّ ، وهي كلام مستقلّ وجّهه الله إلى المؤمنين ، وليست من القول المأمور به النّبيء عليه الصّلاة والسّلام بقوله تعالى : { قل إنّما الآيات عند الله } .

والمخاطب ب { يشعركم } الأظهر أنّه الرّسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنون ، وذلك على قراءة الجمهور قوله : { لا يؤمنون } بياء الغيبة . والمخاطب ب { يشعركم } المشركون على قراءة ابن عامر ، وحمزة ، وخلف { لا تؤمنون } بتاء الخطاب ، وتكون جملة { وما يشعركم } من جملة ما أمر الرّسول صلى الله عليه وسلم أن يقوله في قوله تعالى : { قل إنّما الآيات عند الله } .

{ وأما } استفهامية مستعملة في التّشكيك والإيقاظ ، لئلاّ يغرّهم قَسم المشركين ولا تروجَ عليهم ترّهاتهم ، فإن كان الخطاب للمسلمين فليس في الاستفهام شيء من الإنكار ولا التّوبيخ ولا التّغليظ إذ ليس في سياق الكلام ولا في حال المسلمين فيما يؤثر من الأخبار ما يقتضي إرادة توبيخهم ولا تغليطهم ، إذ لم يثبت أنّ المسلمين طمعوا في حصول إيمان المشركين أو أنّ يجَابُوا إلى إظهار آية حسب مقترحهم ، وكيف والمسلمون يقرأون قوله تعالى : { إنّ الّذين حقّت عليهم كلمات ربّك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آية } وهي في سورة [ يونس : 96 ، 97 ] وهي نازلة قبل سورة الأنعام ، وقد عرف المسلمون كذب المشركين في الدّين وتلوّنهم في اختلاق المعاذير . والمقصود من الكلام تحقيق ذلك عند المسلمين ، وسيق الخبر بصيغة الاستفهام لأنّ الاستفهام من شأنه أن يهيّءَ نفس السامع لطلب جواب ذلك الاستفهام فيتأهّب لوعي ما يرد بعده .

والإشعار : الإعلام بمعلوم من شأنه أن يخفَى ويَدِقّ . يقال : شعَرَ فلان بكذا ، أي علمه وتفطّن له ، فالفعل يقتضي متعلِّقاً به بعد مفعوله ويتعيّن أن قوله : { أنّها إذا جاءت لا يؤمنون } هو المتعلِّق به ، فهو على تقدير باء الجرّ . والتّقدير : بأنّها إذا جاءت لا يؤمنون ، فحذف الجارّ مع ( أنّ ) المفتوحة حذف مطّرد .

وهمزة ( أنّ ) مفتوحة في قراءة الجمهور . والمعنى أمُشْعِر يُشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون ، أي بعدم إيمانهم .

فهذا بيان المعنى والتّركيب ، وإنّما العقدَة في وجود حرف النّفي من قوله : { لا يؤمنون } لأنّ { ما يشعركم } بمعنى قولهم : ما يدريكم ، ومعتاد الكلام في نظير هذا التّركيب أن يجعل متعلّق فعل الدّراية فيه هو الشّيء الّذي شأنُه أن يَظُنّ المخاطبُ وقوعَه ، والشَّيء الَّذي يُظَنّ وقوعُه في مثل هذا المقام هو أنّهم يُؤمنون لأنّه الَّذي يقتضيه قسمهم { لئن جاءتهم آية ليؤمننّ } فلمّا جعل متعلِّق فعل الشّعور نفيَ إيمانهم كان متعلِّقاً غريباً بحسب العرف في استعمال نظير هذا التّركيب .

والّذي يقتضيه النّظر في خصائص الكلام البليغ وفروقِه أن لا يقاس قوله : { وما يُشعركم } على ما شاع من قول العرب { ما يُدريك } ، لأنّ تركيب ما يدريك شاع في الكلام حتّى جرى مجرى المثل باستعماللٍ خاصّ لا يكادون يخالفونه كما هي سُنّة الأمثال أن لا تغيّر عمّا استعملت فيه ، وهو أن يكون اسم ( ما ) فيه استفهاماً إنكارياً ، وأن يكون متعلّق يُدريك هو الأمر الّذي ينكره المتكلّم على المخاطب . فلو قسنا استعمال { ما يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون } على استعمال ( ما يدريكم ) لكان وجود حرف النّفي منافياً للمقصود ، وذلك مثار تردّد علماء التّفسير والعربيّة في محمل { لا } في هذه الآية . فأمّا حين نتطلّب وجه العدول في الآية عن استعمال تركيب ( ما يدريكم ) وإلى إيثار تركيب { ما يشعركم } فإنّنا نعلم أنّ ذلك العدول لمراعاة خصوصيّة في المعدول إليه بأنّه تركيب ليس متَّبعاً فيه طريق مخصوص في الاستعمال ، فلذلك فهو جار على ما يسمح به الوضع والنظمُ في استعمال الأدواتِ والأفعالِ ومفاعيلها ومتعلّقاتها .

فلنحمل اسم الاستفهام هنا على معنى التّنبيه والتشكيك في الظنّ ، ونحمل فعل { يشعركم } على أصل مقتضى أمثاله من أفعال العِلم ، وإذا كان كذلك كان نفي إيمان المشركين بإتيان آية وإثباتُه سواء في الفرض الّذي اقتضاه الاستفهام ، فكان المتكلّم بالخيار بين أن يقول : إنّها إذا جاءت لا يؤمنون ، وأن يقول : إنّها إذا جاءت يؤمنون . وإنّما أوثر جانب النفي للإيماء إلى أنّه الطرف الرّاجح الّذي ينبغي اعتماده في هذا الظنّ .

هذا وجه الفرق بين التّركيبين . وللفروق في علم المعاني اعتبارات لا تنحصر ولا يَنبغي لصاحب علم المعاني غضّ النّظر عنها ، وكثيراً ما بيّن عبد القاهر أصنافاً منها فليُلحَق هذا الفرق بأمثاله .

وإنْ أبَيْتَ إلاّ قياسَ { ما يشعركم } على ( مَا يُدريكم ) سواء ، كما سلكه المفسّرون فاجعل الغالب في استعمال ( ما يُدريك ) هو مقتضى الظّاهر في استعمال { ما يُشعركم } واجعَل تعليق المنفي بالفعل جرياً على خلاف مقتضى الظّاهر لنكتة ذلك الإيماء ويسهل الخطب . وأمّا وجه كون الواو في قوله : { وما يشعركم } واو الحال فتكون « ما » نكرة موصوفة بجملة { يشعركم } . ومعناها شَيء موصوف بأنّه يشعركم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون . وهذا الشّيء هو ما سبق نُزوله من القرآن ، مثل قوله تعالى : { إنّ الَّذين حقّت عليهم كلمات ربّك لا يؤمنون ولو جاءتهم كلّ آية } [ يونس : 96 ، 97 ] ، وكذلك ما جرّبوه من تلوّن المشركين في التفصّي من ترك دين آبائهم ، فتكون الجملة حالاً ، أي والحال أنّ القرآن والاستقراء أشعركم بكذبهم فلا تطمعوا في إيمانهم لو جاءتهم آية ولا في صدق أيْمانهم ، قال تعالى : { إنّهم لا أيْمان لهم } [ التوبة : 12 ] . وإنّي لأعجب كيف غاب عن المفسّرين هذا الوجه من جعل « ما » نكرة موصوفة في حين أنّهم تطرّقوا إلى ما هو أغرب من ذلك .

فإذا جعل الخطاب في قوله : { وما يشعركم } خطاباً للمشركين ، كان الاستفهام للإنكار والتّوبيخ ومتعلِّق فعل { يشعركم } محذوفاً دلّ عليه قوله : { لئن جاءتهم آية } . والتّقدير : وما يشعركم أنّنا نأتيكم بآية كما تريدون .

ولا نحتاج إلى تكلّفات تكلّفها المفسّرون ، ففي « الكشاف » : أنّ المؤمنين طمعوا في إيمان المشركين إذا جاءتهم آية وتمنّوا مجيئها فقال الله تعالى : وما يدريكم أنّهم لا يؤمنون ، أي أنّكم لا تدرون أنّي أعلم أنّهم لا يؤمنون . وهو بناء على جعل { ما يشعركم } مساوياً في الاستعمال لِقولهم { ما يدريك } .

ورَوى سيبويه عن الخليل : أنّ قوله تعالى : { أنّها } معناه لَعلّها ، أي لعلّ آية إذا جاءت لا يؤمنون بها . وقال : تأتى ( أنّ ) بمعنى لعلّ ، يريد أنّ في لعلّ لغة تقول : لأنّ ، بإبدال العين همزة وإبدال اللام الأخيرة نوناً ، وأنّهم قد يحذفون اللام الأولى تخفيفاً كما يحذفونها في قولهم : علّك أن تفعل ، فتصير ( أنّ ) أي ( لعلّ ) . وتبعه الزمخشري وبعض أهل اللّغة ، وأنشدوا أبياتاً .

وعن الفرّاء ، والكسائي ، وأبي عليّ الفارسي : أنّ { لا } زائدة ، كما ادّعوا زيادتها في قوله تعالى : { وحرام على قرية أهلكناها أنّهم لا يرجعون } [ الأنبياء : 95 ] .

وذكر ابن عطيّة : أنّ أبا عليّ الفارسي جعل { أنّها } تعليلاً لقوله { عند الله } أي لا تأتيهم بها لأنّها إذا جاءت لا يؤمنون ، أي على أن يكون { عند } كناية عن منعهم من الإجابة لما طلبوه .

وعلى قراءة ابن كثير ، وأبي عمرو ، ويعقوب ، وخلف ، وأبي بكر ، في إحدى روايتين عنه { إنّها } بكسر الهمزة يكون استئنافاً . وحذف متعلّق { يشعركم } لظهوره من قوله { لَيُؤمِنُنّ بها } . والتّقدير : وما يشعركم بإيمانهم إنّهم لا يؤمنون إذا جاءت آية .

وعلى قراءة ابن عامر ، وحمزة ، وخلف بتاء المخاطب . فتوجيه قراءة خلف الّذي قرأ { إنّها } بكسر الهمزة ، أن تكون جملة { أنّها إذا جاءت } الخ خطاباً موجّهاً إلى المشركين . وأمّا على قراءة ابن عامر وحمزة اللّذيْن قرآ { أنّها } بفَتح الهمزة فأن يجعل ضمير الخطاب في قوله : { وما يشعركم } موجّهاً إلى المشركين على طريقة الالتفات على اعتبار الوقف على { يشعركم } .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَأَقۡسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهۡدَ أَيۡمَٰنِهِمۡ لَئِن جَآءَتۡهُمۡ ءَايَةٞ لَّيُؤۡمِنُنَّ بِهَاۚ قُلۡ إِنَّمَا ٱلۡأٓيَٰتُ عِندَ ٱللَّهِۖ وَمَا يُشۡعِرُكُمۡ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتۡ لَا يُؤۡمِنُونَ} (109)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{وأقسموا بالله جهد أيمانهم}، فمن حلف بالله فقد اجتهد في اليمين، وذلك أن كفار مكة حلفوا للنبي صلى الله عليه وسلم، {لئن جاءتهم آية} كما كانت الأنبياء تجيء بها إلى قومهم، {ليؤمنن بها} ليؤمنن بالآية، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قل إنما الآيات عند الله}، إن شاء أرسلها، وليست بيدي، {وما يشعركم} وما يدريكم {أنها إذا جاءت لا يؤمنون}، يعني لا يصدقون، لما سبق في علم الله من الشقاء.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: حلف بالله هؤلاء العادلون بالله جهد حلفهم، وذلك أوكد ما قدروا عليه من الأيمان وأصعبها وأشدّها:"لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ" يقول: قالوا: نقسم بالله لئن جاءتنا آية تصدّق ما تقول يا محمد مثل الذي جاء من قبلنا من الأمم "لَيُؤْمِنُنّ بِها "يقول: قالوا: لنصدقنّ بمجيئها بك، وأنك لله رسول مرسل، وأن ما جئتنا به حقّ من عند الله. وقيل: «ليؤمننّ بها»، فأخرج الخبر عن الآية، والمعنى لمجيء الآية. يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: "قُلْ إنّمَا الآيات عِنْدَ اللّهِ" وهو القادر على إتيانكم بها دون كلّ أحد من خلقه. "وَما يُشْعِرُكُمْ" يقول: وما يدريكم "أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ". وذكر أن الذين سألوه الآية من قومه هم الذين آيس الله نبيه من إيمانهم من مشركي قومه... "وَما يُشْعِرُكُمْ أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ".

اختلف أهل التأويل في المخاطبين بقوله: "وَما يُشْعِرُكُمْ أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ"؛ فقال بعضهم: خوطب بقوله: "وَما يُشْعِرُكُمْ" المشركون المقسمون بالله لئن جاءتهم آية ليؤمننّ، وانتهى الخبر عند قوله: "وَما يُشْعِرُكُمْ" ثم استؤنف الحكم عليهم بأنهم لا يؤمنون عند مجيئها استئنافاً مبتدأ... عن مجاهد، في قول الله: "وَما يُشْعِرُكُمْ" قال: ما يدريكم. قال: ثم أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون... وعلى هذا التأويل قراءة من قرأ ذلك بكسر ألف: «إنّها» على أن قوله: «إنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ» خبر مبتدأ منقطع عن الأوّل...

وقال آخرون منهم: بل ذلك خطاب من الله نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه، قالوا: وذلك أن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بآية، المؤمنون به. قالوا: وإنما كان سبب مسألتهم إياه ذلك أن المشركين حلفوا أن الآية أذا جاءت آمنوا، واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: سل يا رسول الله ربك ذلك فسأل، فأنزل الله فيهم وفي مسألتهم إياه ذلك، قل للمؤمنين بك يا محمد: إنما الآيات عند الله، وما يشعركم أيها المؤمنون بأن الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين بالله أنهم لا يؤمنون به ففتحوا الألف من «أن»... وقد تأوّل قوم قرأوا ذلك بفتح الألف من: أنّها بمعنى: لعلها، وذكروا أن ذلك كذلك في قراءة أبَيّ بن كعب. وقد ذُكر عن العرب سماعاً منها: اذهب إلى السوق أنك تشتري لي شيئاً، بمعنى: لعلك تشتري... وأولى التأويلات في ذلك بتأويل الآية، قول من قال: ذلك خطاب من الله للمؤمنين به من أصحاب رسوله، أعني قوله: "وَما يُشْعِرُكُمْ أنّها إذَا جاءَتْ لا يُؤمِنُونَ"، وأن قوله «أنها» بمعنى: «لعلها».

وإنما كان ذلك أولى تأويلاته بالصواب لاستفاضة القراءة في قرّاء الأمصار بالياء من قوله: "لا يُؤْمِنُونَ" ولو كان قوله: "وَما يُشْعِرُكُمْ" خطاباً للمشركين، لكانت القراءة في قوله: "لا يُؤْمِنُونَ" بالتاء، وذلك وإن كان قد قرأه بعض قراء المكيين كذلك، فقراءة خارجة عما عليه قرّاء الأمصار، وكفى بخلاف جميعهم لها دليلاً على ذهابها وشذوذها.

وإنما معنى الكلام: وما يدريكم أيها المؤمنون لعلّ الآيات إذا جاءت هؤلاء المشركين لا يؤمنون فيعاجَلوا بالنقمة والعذاب عند ذلك ولا يؤخَّروا به.

لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :

وعدوا من أنفسهم الإيمان لو شاهدوا البرهان، ولم يعلموا أنهم تحت قهر الحكم، وما يُغْنِي وضوحُ الأدلة لمن لا تساعده سوابقُ الرحمة، ولواحق الحفظ بموجبات القسمة.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

لما نصب سبحانه هذه الدلالات في هذه الآيات البينات حتى ختمها بما علم منهم من الإسراع إلى سب من أحسن إليهم بأن أوجدهم وأوجد لهم كل ما في الكون، وما من نعمة عليهم إلا وهي منه، عجب منهم في الوعد بالإيمان على وجه التأكيد بما يأتيهم من مقترحاتهم إعلاماً بأن ذلك مما زين لهم من عملهم، وهي أمنية كاذبة ويمين حانثة فقال عاطفاً على {وجعلوا لله شركاء الجن} [الأنعام: 100] {وأقسموا} أي المشركون {بالله} أي الذي لا أعظم منه {جهد أيمانهم} أي باذلين فيها جهدهم حتى كأنها هي جاهدة، ووطأ للقسم فقال: {لئن جاءتهم آية} أي من مقترحاتهم، وتلقى القسم بقوله: {ليؤمنن بها}.

ولما كانوا بهذا ظالمين من أجل أنهم طلبوا من الرسول ما ليس إليه بعد إتيانه من المعجزات بما أزال معاذيرهم، وأوجب عليهم الاتباع، نبه على ذلك بقوله مستأنفاً: {قل} أي رداً لتعنتهم {إنما الآيات} أي هذا الجنس {عند الله} أي الحائز لجميع صفات الكمال، وليس إليّ ولا إلى غيري شيء من هذا الجنس ليفيد الاقتراح شيئاً غير إغضابه.

ولما كان العبد لعجزه لا قدرة له على شيء أصلاً، فلا يصح له أن يحكم على آت أصلاً لا من أفعاله ولا من أفعال غيره، قال منكراً عليهم ملتفتاً إلى خطابهم إشارة إلى أنهم حقيقون بالمواجهة بالتبكيت: {وما} أي وأي شيء {يشعركم} أي أدنى شعور بما أقسمتم عليه من الإيمان عند مجيئها حتى يتوهموه أدنى توهم فضلاً عن الظن فكيف بالجزم ولا سيما على هذا الوجه! ثم علل الاستفهام بقوله مبيناً أنه لا فائدة في الإتيان بالآية المقترحة: {أنها} بالفتح في قراءة نافع وابن عامر وشعبة في رواية عنه وحفص وحمزة والكسائي، فكان كأنه قيل: أنكرت عليكم لأنها {إذا جاءت لا يؤمنون} بالخطاب في قراءة ابن عامر وحمزة، والالتفات إلى الغيبة في قراءة غيرهم للإعلام بأنهم بعيدون من الإيمان فهم أهل للإعراض عنهم لما استحقوا من الغضب، والتعليل عند من كسر "أنها "واضح.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

{وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها} أي وأقسم أولئك المشركون المعاندون بالله أشد أيمانهم تأكيدا ومنتهى جهدهم ووسعهم مبالغة فيها، لئن جاءتهم آية من الآيات الكونية التي اقترحوها أو مطلقا ليؤمنن بها أنها من عند الله للدلالة على صدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيكون إيمانهم إيمانا به، أو ليؤمنن بما دعاهم إليه بسببها. {قل إنما الآيات عند الله} أي قل أيها الرسول إنما الآيات عند الله تعالى فهو وحده القادر عليها والمتصرف فيها، يعطيها من يشاء ويمنعها من يشاء بحكمته {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} [الرعد:38] ومشيئته، وكمال الأدب معه تعالى أن يفوض إليه الأمر في ذلك. وتقدم تحقيق المسألة في أوائل تفسير السورة...

{وما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون} أي أنكم ليس لكم شيء من أسباب الشعور بهذا الأمر الغيبي الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى وهو أنهم لا يؤمنون إن جاءت الآية. والخطاب للمؤمنين الذين تمنوا مجيء الآية ليؤمنوا والنبي صلى الله عليه وسلم معهم وقيل لهم وحدهم، ويؤيد الأول رواية دعائه بذلك ورواية طلبه القسم منهم ليؤمنن بها. وقد غفل من غفل من المفسرين عن كون الاستفهام إنكاريا نافيا لشعورهم بهذا الأمر الثابت عنده تعالى في علم الغيب فذهب إلى أن المعنى وما يشعركم أنهم يؤمنون إذا جاءت؟ فجعلوا النفي لغوا، وذهب بعضهم إلى أن « أنها» بمعنى لعلها، ونقلوا هذا عن الخليل وجاءوا عليه بشواهدَ هُمْ في غنى عنه وعنها. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبو بكر بخلاف عنه عن عاصم ويعقوب (إنها) بكسر الهمزة كأنه قال: وما يشعركم ما يكون منهم إذا جاءت وكأنهم قالوا ماذا يكون منهم؟ فأخبرهم بذلك قائلا: إنها إذا جاءت لا يؤمنون. وقرأ ابن عامر وحمزة « لا تؤمنون» بالخطاب للمشركين، وهو كسابقه التفات وتلوين.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

وأقسم المشركون المكذبون للرسول محمد صلى الله عليه وسلم. {بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: قسما اجتهدوا فيه وأكدوه. {لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ} تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم {لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا} وهذا الكلام الذي صدر منهم، لم يكن قصدهم فيه الرشاد، وإنما قصدهم دفع الاعتراض عليهم، ورد ما جاء به الرسول قطعا، فإن الله أيد رسوله صلى الله عليه وسلم، بالآيات البينات، والأدلة الواضحات، التي -عند الالتفات لها- لا تبقي أدنى شبهة ولا إشكال في صحة ما جاء به، فطلبهم -بعد ذلك- للآيات من باب التعنت، الذي لا يلزم إجابته، بل قد يكون المنع من إجابتهم أصلح لهم، فإن الله جرت سنته في عباده، أن المقترحين للآيات على رسلهم، إذا جاءتهم، فلم يؤمنوا بها -أنه يعاجلهم بالعقوبة، ولهذا قال: {قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ} أي: هو الذي يرسلها إذا شاء، ويمنعها إذا شاء، ليس لي من الأمر شيء، فطلبكم مني الآيات ظلم، وطلب لما لا أملك، وإنما توجهون إلي توضيح ما جئتكم به، وتصديقه، وقد حصل، ومع ذلك، فليس معلوما، أنهم إذا جاءتهم الآيات يؤمنون ويصدقون، بل الغالب ممن هذه حاله، أنه لا يؤمن، ولهذا قال: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ}

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

عطف جملة: {وأقسموا} على جملة: {اتَّبِعْ ما أوحِي إليك من ربّك} [الأنعام: 106] الآية. والضّمير عائد إلى القوم في قوله: {وكذّب به قومك وهو الحقّ} [الأنعام: 66] مثل الضّمائر الّتي جاءت بعد تلك الآية ومعنى: {لئن جاءتهم آية} آية غيرُ القرآن. وهذا إشارة إلى شيء من تعلّلاتهم للتمادي على الكفر بعد ظهور الحجج الدّامغة لهم، كانوا قد تعلّلوا به في بعض تورّكهم على الإسلام...

والمراد بالآية ما اقترحوه على الرّسول صلى الله عليه وسلم يَعنُون بها خارق عادة تدلّ على أنّ الله أجاب مقترحهم ليصدّق رسوله عليه الصلاة والسّلام، فلذلك نُكّرت {آية}، يعني: أيَّةَ آية كانت من جنس ما تنحصر فيه الآيات في زعمهم. ومجيء الآية مستعار لظهورها لأنّ الشّيء الظّاهر يشبه حضور الغائب فلذلك يستعار له المجيء. وتقدّم بيان معنى الآية واشتقاقها عند قوله تعالى: {والّذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النّار هم فيها خالدون} في سورة [البقرة: 39].

ومعنى كون الآيات عند الله أنّ الآيات من آثار قدرة الله وإرادته، فأسباب إيجاد الآيات من صفاته، فهو قادر عليها، فلأجل ذلك شُبّهت بالأمور المدّخرة عنده، وأنّه إذا شاء إبرازَها أبرزها للنّاس، فكلمة {عند} هنا مجاز.

استعمل اسم المكان الشّديد القُرب في معنى الاستبداد والاستئثار مجازاً مرسلاً، لأنّ الاستئثار من لوازم حالة المكان الشّديد القرب عرفاً، كقوله تعالى: {وعنده مفاتح الغيب} [الأنعام: 59].

والحصر ب {إنّما} ردّ على المشركين ظنّهم بأنّ الآيات في مقدور النّبيء صلى الله عليه وسلم إن كان نبيئاً فجعلوا عدم إجابة النّبيء صلى الله عليه وسلم اقتراحَهم آية أمارة على انتفاء نبوءته، فأمره الله أن يجيب بأنّ الآيات عند الله لا عند الرّسول عليه الصّلاة والسّلام، والله أعلم بما يُظهره من الآيات...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

..تعكس هذه الآية صورة حيّة من صور أولئك الكافرين الذين رفضوا الإيمان كمبدأ، ولكنهم ما زالوا يحاولون تسجيل المواقف ضد الرسالة والرسول، من أجل الإيحاء للبسطاء من النّاس، بأنّهم ممن يبحثون عن الحقيقة من خلال البحث عن الدليل، ولذلك فإنهم يقدّمون الاقتراحات التي تطلب من الرسول أن يأتيهم بآيةٍ ليؤمنوا بها، تماماً كأيّ إنسان خالص النيّة، مفتوح العقل، فليس بينه وبين الإيمان إلاّ أن يرى الآية ليؤمن.. ولكنّ القرآن يطرح القضيّة بكل بساطة ليتساءل: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فما هو الأساس في ذلك، وما هو الضمان؟ ولماذا يطرح القرآن هذا السؤال؟ لأن تاريخهم لا يوحي بمثل هذه الجديّة في طلب المعرفة من أجل الإيمان. فهل يملك النبيّ أمر تقديم آيةٍ يوميّةٍ، يغيّر فيها النظام المألوف للكون، لكل مقترح؟ وهل كانت المعجزات حاجةً شخصيةً لكل من يطلبها، أم أن أمر ذلك بيد الله، فهو الذي يحرّك الآيات في حركة النبوّات تبعاً لحكمته؟ ولماذا يريد هؤلاء الآية؟ أليؤمنوا؟ وهل يتوقف الإيمان على ذلك؟ إن النبي يقدّم لهم في القرآن آيةً تطرح التحدي، ويقدّم لهم المنهج العقلي الذي يريد للعقيدة أن تتحرك من مواقع التفكير، مما لو انطلقوا معه لاستطاعوا أن يصلوا إلى الحقيقة من أقرب طريق، فلماذا لم يفكروا في ذلك كله، ولماذا لم يدخلوا الحوار الهادئ الذي طرحه الرسول أمامهم كوسيلةٍ من وسائل الوصول إلى النتيجة الحاسمة في العقيدة؟. إن ذلك دليل على أنَّهم يحاولون القفز على المواقع، لينتقلوا من موقعٍ إلى موقعٍ تبعاً للحاجة، فإذا شعروا بأنهم مكشوفون في موقعٍ حاولوا أن ينتقلوا إلى موقعٍ آخر يختفون وراءه، ليسجلوا نقطةً هنا ونقطة هناك.