قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله } ، بطاعته وترك معصيته .
قوله تعالى : { يجعل لكم فرقاناً } ، قال مجاهد : مخرجاً في الدنيا والآخرة ، وقال مقاتل بن حيان : مخرجاً في الدين من الشبهات ، وقال عكرمة : نجاة ، أي يفرق بينكم وبين ما تخافون ، وقال الضحاك : بياناً ، وقال ابن إسحاق : فصلاً بين الحق والباطل ، يظهر الله به حقكم ، ويطفئ بطلان من خالفكم . والفرقان مصدر كالرجحان والنقصان . قوله تعالى : { ويكفر عنكم سيئاتكم } ، يمح عنكم ما سلف من ذنوبكم .
29 يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
امتثال العبد لتقوى ربه عنوان السعادة ، وعلامة الفلاح ، وقد رتب اللّه على التقوى من خير الدنيا والآخرة شيئا كثيرا ، فذكر هنا أن من اتقى اللّه حصل له أربعة أشياء ، كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها :
الأول : الفرقان : وهو العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال ، والحق والباطل ، والحلال والحرام ، وأهل السعادة من أهل الشقاوة .
الثاني والثالث : تكفير السيئات ، ومغفرة الذنوب ، وكل واحد منهما داخل في الآخر عند الإطلاق وعند الاجتماع يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر ، ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر .
الرابع : الأجر العظيم والثواب الجزيل لمن اتقاه وآثر رضاه على هوى نفسه . وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ
ثم ختم سبحانه - نداءاته للمؤمنين بهذا النداء الذي يهديهم إلى سبيل الخير والفلاح فقال - سبحانه - { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم } .
والفرقان في كلام العرب - كما يقول ابن جرير - مصدر من قولهم فرقت بين الشئ والشئ أفرق بينهما فرقاً وفرقاناً - أي أفرق وأفصل بينهما .
وقد اختلف أهل التأويل في العبارة عند تأويل قوله { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } فقال بعضهم : يجعل لكم مخرجا . وقال بعضهم نجاة ، وقال بعضهم فصلا وفرقا بينن حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم .
. وكل ذلك متقارب المعنى ، وإن اختلفت العبارة . .
وقال الآلوسى : { فُرْقَاناً } أى : هداية ونورا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل - كما روى عن ابن جريج وابن زيد - أو نصرا يفرق به بين الحق والباطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين - كما قال الفراء - أو نجاة في الدارين - كما هو كلام السدى - أو مخرجا من الشبهات - كما جاء عن مقاتل - أو ظهورا يشهر أمركم وينشر صيتكم - كما يشعر به كلام محمد بن إسحاق - من بت أفعال كذا حتى سطع الفرقان أي الصبح . وكل المعانى ترجع إلى الفرق بين أمرين . وجوز البعض من المحققين الجمع بينها .
ونحن مع هذا البعض من المحققين في جواز الجمع بين هذه المعانى فيكون المعنى : { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله } بأن تصونوا أنفسكم عن كل ما يغضبه ، وتطيعوه في السر والعلن { يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } أي هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل ونصرا تعلو به كلمتكم على كلمة أعدائكم ، ومخرجا من الشبهات التي تقلق النفوس ، ونجاة مما تخافون ، وفضلا عن كل ذلك فإنه - سبحانه - يكفر عنكم سيئاتكم ، أي يسترها عليكم في الدنيا ، { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أى : ويغفر لكم يوم القيامة ما فرط منكم من ذنوب بلطفه وإحسانه وقوله : { والله ذُو الفضل العظيم } تذييل قصد به التعليل لما قبله ، والتنبيه على أن ما وعد به - سبحانه - المؤمنين على تقواهم إنما هو تفضل منه لهم ، فهو - سبحانه - صاحب العطاء الجزيل ، والخيرا لعميم . لمن أطاعه واتقاه ، وصان نفسه عما يسخطه ويغضبه .
فأنت ترى أنه - سبحانه - قد رتب على تقواه وعلى الخوف منه نعما عظمى ، ومننا كبرى ، وأى نعم يتطلع إليها المؤمنون أفضل من هداية القلوب وتكفير الخطايا والذنوب ؟ اللهم لا تحرمنا من هذه النعم والمنن بفضلك وإحسانك ، فأنت وحدك صاحب العطاء العميم ، وأنت وحدك ذو الفضل العظيم ، وأنت وحدك على كل شئ قدير .
وبعد : فنحن - أخى القارئ - لو استعرضنا سورة الأنفعال من مطلعها إلى هنا ، لرأينا تحدثنا - على سبيل الإِجمال - عن :
( أ ) أحكام الأنفال ، وأن مرد الحكم فيها إلى الله ورسوله . .
( ب ) وعن الصفات الكريمة التي يجب أن يتجلى بها المؤمنون لينالوا مغفرة الله ورضوانه .
( ج ) وعن أحوال بعض المؤمنين الذين اشتركوا في غزوة بدر ، وكانوا يفضلون العير على النفير . ولكن - الله تعالى - بين لهم أن الخير فيما قدره لا فيما يفضلون .
( د ) وعن النعم والبشارات وأسباب النصر التي أمد الله بها المؤمنين في بدر والتى كان من آثارها ارتفاع شأنهم واندحار شأن أعدائهم .
( ه ) وعن التوجيهات الحكيمة التي أعقبت تلك النداءات الخمسة التي نادى الله بها المؤمنين ، فقد أمرهم - سبحانه - بالثبات في وجه أعدائهم ، وبالطاعة التماة له ولرسوله - صلى الله عليه وسلم - وبالاستجابة السريعة للحق الذي جاءهم به الرسول - صلى الله عليه وسلم - .
. ونهتهم عن التولى يوم الزحف ؛ وعن التشبه بمن قالوا سمعنا وهم لا يسمعون ، وعن إقرار المنكرات والبدع والرضا بهم ، وعن خيانة الله والرسول ، وعن خيانة الأمانات التي تجب صيانتها والمحافظة عليها .
ووعدهم - سبحانه - بهداية القلوب ، وتكفير الخطايا والذنوب ، متى اتقوه ووقفوا عند حدوده .
( و ) والآن ، وبعد هذ التوجيه الحكيم ، والتأديب القويم ، والتعليم النافع والتذكير بالنعم ، والتحذير من النقم . . ماذا نرى ؟
نرى السورة الكريمة تأخذ في تذكير المؤمنين بجوانب من جرائم أعدائهم فتقص عليهم ما كان من هؤلاء الأعداء من تآمر على حياة رسولهم - صلى الله عليه وسلم - ومن تهكم بالقرآن الكريم ودعاء أنهم في استطاعتهم أن يأتوا بمثله لو شاءوا ، ومن استهزاء بتعاليم الإِسلام ، وسخرية بشعائره وعباداته ، ومن إنفاق لأموالهم ليصدوا الناس عن الطريق للحق ، ومن إصرار على العناد والجحود جعلهم يستعجلون العذاب .
ومع كل هذا فالسورة الكريمة تفتح الباب في وجوه هؤلاء الجاحدين المعاندين ، وتأمر المؤمنين أن ينصحوهم بالدخول في دين الله . . فإذا لم يستجيبوا لنصحهم فعليهم أن يقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله .
( يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (
والهتاف الأخير للذين آمنوا - في هذا المقطع من السورة - هو الهتاف بالتقوى . فما تنهض القلوب بهذه الأعباء الثقال ، إلا وهي على بينة من أمرها ونور يكشف الشبهات ويزيل الوساوس ويثبت الأقدام على الطريق الشائك الطويل . وما يكون لها هذا الفرقان إلا بحساسية التقوى وإلا بنور الله :
( يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ، ويكفر عنكم سيئاتكم ، ويغفر لكم . والله ذو الفضل العظيم ) .
هذا هو الزاد ، وهذه هي عدة الطريق . . زاد التقوى التي تحيي القلوب وتوقظها وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة والتوقي . وعدة النور الهادي الذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه على مد البصر ؛ فلا تغبشه الشبهات التي تحجب الرؤية الكاملة الصحيحة . ثم هو زاد المغفرة للخطايا . الزاد المطمئن الذي يسكب الهدوء والقرار . . وزاد الأمل في فضل الله العظيم يوم تنفد الأزواد وتقصر الأعمال .
إنها حقيقة : أن تقوى الله تجعل في القلب فرقانا يكشف له منعرجات الطريق . ولكن هذه الحقيقة - ككل حقائق العقيدة - لا يعرفها إلا من ذاقها فعلا ! إن الوصف لا ينقل مذاق هذه الحقيقة لمن لم يذوقوها ! .
إن الأمور تظل متشابكة في الحس والعقل ؛ والطرق تظل متشابكة في النظر والفكر ؛ والباطل يظل متلبسا بالحق عند مفارق الطريق ! وتظل الحجة تُفحم ولكن لا تُقنع . وتسكت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل . ويظل الجدل عبثا والمناقشة جهدا ضائعا . . ذلك ما لم تكن هي التقوى . . فإذا كانت استنار العقل ، ووضح الحق ، وتكشف الطريق ، واطمأن القلب ، واستراح الضمير ، واستقرت القدم وثبتت على الطريق !
إن الحق في ذاته لا يخفى على الفطرة . . إن هناك اصطلاحا من الفطرة على الحق الذي فطرت عليه ؛ والذي خلقت به السماوات والأرض . . ولكنه الهوى هو الذي يحول بين الحق والفطرة . . الهوى هو الذي ينشر الغبش ، ويحجب الرؤية ، ويُعمي المسالك ، ويخفي الدروب . . والهوى لا تدفعه الحجة إنما تدفعه التقوى . . تدفعه مخافة الله ، ومراقبته في السر والعلن . . ومن ثم هذا الفرقان الذي ينير البصيرة ، ويرفع اللبس ، ويكشف الطريق .
وهو أمر لا يقدر بثمن . . ولكن فضل الله العظيم يضيف إليه تكفير الخطايا ومغفرة الذنوب . ثم يضيف إليهما ( الفضل العظيم ) . .
ألا إنه العطاء العميم الذي لا يعطيه إلا الرب( الكريم )ذو الفضل العظيم !
{ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا } هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل أو نصرا يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين ، أو مخرجا من الشبهات ، أو نجاة عما تحذرون في الدارين ، أو ظهورا يشهر أمركم ويبث صيتكم من قولهم بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان أي الصبح . { ويكفّر عنكم سيئاتكم } ويسترها . { ويغفر لكم } بالتجاوز والعفو عنكم . وقيل السيئات الصغائر والذنوب الكبائر . وقيل المراد ما تقدم وما تأخر لأنها في أهل بدر وقد غفرهما الله تعالى لهم . { والله ذو الفضل العظيم } تنبيه على أن ما وعده لهم على التقوى تفضل منه وإحسان ، وأنه ليس مما يوجب تقواهم عليه كالسيد إذا وعد عبده إنعاما على عمل .
وقوله : { يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله } الآية ، وعد للمؤمنين بشرط الاتقاء والطاعة له ، و { ويجعل لكم فرقاناً } معناه فرقاً بين حقكم وباطل من ينازعكم أي بالنصرة والتأييد عليهم ، و «الفرقان » مصدر من فرق بين الشيئين إذا حال بينهما أو خالف حكمهما ، ومنه قوله { يوم الفرقان }{[5295]} وعبر قتادة وبعض المفسرين عن الفرقان ها هنا بالنجاة ، وقال السدي ومجاهد معناه : مخرجاً ، ونحو هذا مما يعمه ما ذكرناه ، وقد يوجد للعرب استعمال الفرقان كما ذكر المفسرون فمن ذلك قول مزرد بن ضرار : [ الخفيف ]
بادر الأفقُ أنْ يَغيبَ فلمّا*** أَظْلَمَ اللّيلُ لمْ يجدْ فُرْقَانا{[5296]}
ما لك من طولِ الأسَى فُرقانُ*** بعد قطينٍ رحلوا وبانوا{[5297]}
وكيف أرجّي الخلدَ والموتُ طالبي*** وماليَ من كأسِ المنيَّةِ فرقان{[5298]}
استيناف ابتدائي متصل بالآيات السابقة ابتداء من قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه } [ الأنفال : 20 ] الآية وما بعده من الآيات إلى هُنا .
وافتتح بالنداء للاهتمام ، كما تقدم آنفاً .
وخوطب المؤمنون بوصف الإيمان تذكيراً لهم بعهد الإيمان وما يقتضيه كما تقدم آنفاً في نظائِره ، وعقب التحذير من العصيان والتنبيه على سوء عواقبه ، بالترغيب في التقوى وبيان حسن عاقبتها وبالوعد بدوام النصر واستقامة الأحوال إن هم داموا على التقوى .
ففعل الشرط مراد به الدوام ، فإنهم كانوا متقين ، ولكنهم لما حُذروا من المخالفة والخيانة ناسب أن تفرض لهم الطاعة في مقابل ذلك .
ولقد بَدَا حُسنُ المناسبة إذ رُتبتِ على المنهيات تحذيراتٌ من شرور وأضرار من قوله : { إن شر الدواب عند الله الصم البكم } [ الأنفال : 22 ] وقوله { واتقوا فتنة } [ الأنفال : 25 ] الآية ، ورتب على التقوى : الوعد بالنصر ومغفرة الذنوب وسعة الفضل .
والفرقان أصله مصدر كالشكران والغُفران والبُتان ، وهو ما يَفرِق أي يميَز بين شيئين متشابهين ، وقد أطلق بالخصوص على أنواع من التفرقة فأطلق على النصر ، لأنه يفرق بين حاليْن كانا محتَمَلَيْن قبلَ ظهور النصر ، ولُقب القرآنُ بالفرقان ؛ لأنه فَرّقَ بين الحق والباطل ، قال تعالى : { تبارك الذي نزل الفرقان على عبده } [ الفرقان : 1 ] ولعل اختياره هنا لقصد شموله ما يصلح للمقام من معانيه ، فقد فُسّر بالنصر ، وعن السدي ، والضحاك ، ومجاهد ، الفرقانُ المَخْرَج ، وفي « أحكام ابن العربي » ، عن ابن وهب وابن القاسم وأشهب أنهم سألوا مالكاً عن قوله تعالى : { يجعل لكم فرقاناً } قال مَخَرجاً ثم قرأ : { ومن يَتَقِ الله يَجْعَلْ له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [ الطلاق : 3 ] ، وفسر بالتمييز بينهم وبين الكفار في الأحوال التي يُستحب فيها التمايز في أحوال الدنيا ، فيشمل ذلك أحوالَ النفس : من الهداية ، والمعرفة ، والرضى ، وانشراح القلب ، وإزالةِ الحِقد والغل والحسد بينهم ، والمكرِ والخداعِ وذميمِ الخلائق .
وقد أشعر قوله : { لكم } أن الفرقان شيء نافع لهم فالظاهر أن المراد منه كل ما فيه مخرج لهم ونجاة من التباس الأحوال وارتباك الأمور وانبهام المقاصد ، فيؤول إلى استقامة أحوال الحياة ، حتى يكونوا مطمئني البالِ منشرحي الخاطر وذلك يستدعي أن يكونوا : منصورين ، غالبين ، بُصراء بالأمور ، كَمَلة الأخلاق سائرين في طريق الحق والرشد ، وذلك هو ملاك استقامة الأمم ، فاختيار الفرقان هنا ، لأنه اللفظ الذي لا يؤدي غيرُه مُؤداه في هذا الغرض وذلك من تمَام الفصاحة .
والتقوى تشمل التوبة ، فتكفير السيئات يصح أن يكون المراد به تكفير السيئات الفارطة التي تعقبها التقوى . ومفعول { يغفر لكم } ، محذوف وهو ما يستحق الغفران وذلك هو الذنب ، ويتعين أن يحمل على نوع من الذنوب . وهو الصغائر التي عبر عنها باللم ، ويجوز العكس بأن يراد بالسيئات الصغائِر وبالمغفرة مغفرة الكبائر بالتوبة المعقبَة لها ، وقيل التكفير الستر في الدنيا ، والغفران عدم المؤاخذة بها في الآخرة ، والحاصل أن الإجمال مقصود للحث على التقوى وتحقق فائِدتها والتعريض بالتحذير من التفريط فيها ، فلا يحصل التكفير ولا المغفرة بأي احتمال .
وقوله : { والله ذو الفضل العظيم } تذييل وتكميل وهو كناية عن حصول منافع أخرى لهم من جراء التقوى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{يا أيها الذين ءامنوا إن تتقوا الله}، فلا تعصوه، {يجعل لكم فرقانا}، يعنى مخرجا من الشبهات، {ويكفر عنكم سيئاتكم}، يعنى ويمحو عنكم خطاياكم، {ويغفر لكم} يقول: ويتجاوز عنكم، {والله ذو الفضل العظيم}...
- ابن العربي: قال ابن وهب: سألت مالكا عن قول الله: {يجعل لكم فرقانا} قال: مخرجا. ثم قرأ: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا* ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"يا أيّها الّذِينَ" صدقوا الله ورسوله "إنْ تَتّقُوا اللّهَ "بطاعته، وأداء فرائضه واجتناب معاصيه، وترك خيانته، خيانة رسوله وخيانة أماناتكم "يَجْعَلْ لَكُم فُرْقانا": يقول: يجعل لكم فصلاً وفرقا بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم المشركين بنصره إياكم عليهم، وإعطائكم الظفر بهم. "ويُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ" يقول: ويمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم بينكم وبينه. "ويَغْفِرْ لَكُمْ" يقول: ويغطيها، فيسترها عليكم، فلا يؤاخذكم بها. "وَاللّهُ ذُو الفَضْلِ العَظِيمِ" يقول: والله الذي يفعل ذلك بكم، له الفضل العظيم عليكم وعلى غيركم من خلقه بفعله ذلك وفعل أمثاله، وإن فعله جزاء منه لعبده على طاعته إياه، لأنه الموفق عبده لطاعته التي اكتسبها حتى استحقّ من ربه الجزاء الذي وعده عليها.
وقد اختلف أهل التأويل في العبارة عن تأويل قوله: "يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا"؛ فقال بعضهم: مخرجا، وقال بعضهم: نجاة، وقال بعضهم: فصلاً. وكلّ ذلك متقارب المعنى وإن اختلفت العبارات عنها...
"يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تَتّقُوا اللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقانا" قال: فرقان يفرق في قلوبهم بين الحقّ والباطل، حتى يعرفوه ويهتدوا بذلك الفرقان...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله: (فُرْقَانًا)، أي: مخرجًا في الدِّين من الشبهات. وقيل: مخرجًا في الدنيا والآخرة.
ويحتمل: (فُرْقَانًا) أي: بيانًا لما ذكرنا؛ جعل اللَّه -تعالى- التقوى مشتملة على كل خير، وأصلا لكل بر، وصيرها مخرجًا من كل شبهة، ومن كل ضيق وشدة، وجعلها سبيلًا يوصل به إلى كل لذة وسرور، وينال به كل خير وبركة؛ على ما ذكر في غير آي من القرآن.
وقوله -عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ): التي سبقت، (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) أي: يستر عليكم ذنوبكم، لا يطلع أحدًا عليها، وذلك من أعظم النعم، وأصل المغفرة: الستر.
وقوله- عَزَّ وَجَلَّ -: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).
أي: عند اللَّه فضل؛ يعطيكم خيرًا مما تطمعون بالتقوى الذي ذكر.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِنْ تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} فيه أربعة تأويلات:
أحدها: معنى فرقاناً أي هداية في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل، قاله ابن زيد وابن إسحاق.
والرابع: فتحاً ونصراً، قاله الفراء.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
الفرقان: ما به يفرق بين الحق والباطل مِنْ عِلْمٍ وافر وإلهام قاهر...
والعرفانُ تعريفٌ من الله، والتكفيرُ تخفيفٌ من الله، والغفرانُ تشريفٌ للعبد من الله...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
{يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} قيل: نورا يفرق به بين الحق والباطل، ويخرج به من الشبهات، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يكثر من سؤال النور...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فُرْقَانًا} نصراً؛ لأنه يفرق بين الحق والباطل وبين الكفر بإذلال حزبه، والإسلام بإعزاز أهله. ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ الفرقان} [الأنفال: 41] أو بياناً وظهوراً يشهر أمركم ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض، (...
.). أو مخرجاً من الشبهات وتوفيقاً وشرحاً للصدور. أو تفرقة بينكم وبين غيركم من أهل الأديان، وفضلاً ومزية في الدنيا والآخرة...
واعلم أنه تعالى لما حذر عن الفتنة بالأموال والأولاد، رغب في التقوى التي توجب ترك الميل والهوى في محبة الأموال والأولاد. وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: لقائل أن يقول: إدخال الشرط في الحكم إنما يحسن في حق من كان جاهلا بعواقب الأمور، وذلك لا يليق بالله تعالى.
والجواب: أن قولنا إن كان كذا كان كذا، لا يفيد إلا كون الشرط مستلزما للجزاء، فأما أن وقوع الشرط مشكوك فيه أو معلوم فذلك غير مستفاد من هذا اللفظ، سلمنا أنه يفيد هذا الشك إلا أنه تعالى يعامل العباد في الجزاء معاملة الشاك، وعليه يخرج قوله تعالى: {ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين}.
المسألة الثانية: هذه القضية الشرطية شرطها شيء واحد وهو تقوى الله تعالى، وذلك يتناول اتقاء الله في جميع الكبائر. وإنما خصصنا هذا بالكبائر لأنه تعالى ذكر في الجزاء تكفير السيئات، والجزاء يجب أن يكون مغايرا للشرط، فحملنا التقوى على تقوى الكبائر وحملنا السيئات على الصغائر ليظهر الفرق بين الشرط والجزاء، وأما الجزاء المرتب على هذا الشرط فأمور ثلاثة:
الأول: قوله: {يجعل لكم فرقانا} والمعنى أنه تعالى يفرق بينكم وبين الكفار. ولما كان اللفظ مطلقا وجب حمله على جميع الفروق الحاصلة بين المؤمنين وبين الكفار فنقول: هذا الفرقان إما أن يعتبر في أحوال الدنيا أو في أحوال الآخرة. أما في أحوال الدنيا فإما أن يعتبر في أحوال القلوب وهي الأحوال الباطنة أو في الأحوال الظاهرة، أما في أحوال القلوب فأمور: أحدها: أنه تعالى يخص المؤمنين بالهداية والمعرفة.
وثانيها: أنه يخص قلوبهم وصدورهم بالانشراح كما قال: {أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه}.
وثالثها: أنه يزيل الغل والحقد والحسد عن قلوبهم ويزيل المكر والخداع عن صدورهم، مع أن المنافق والكافر يكون قلبه مملوءا من هذه الأحوال الخسيسة والأخلاق الذميمة، والسبب في حصول هذه الأمور أن القلب إذا صار مشرقا بطاعة الله تعالى زالت عنه كل هذه الظلمات لأن معرفة الله نور، وهذه الأخلاق ظلمات، وإذا ظهر النور فلا بد من زوال الظلمة. وأما في الأحوال الظاهرة، فإن الله تعالى يخص المسلمين بالعلو والفتح والنصر والظفر، كما قال: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} وكما قال: {ليظهره على الدين كله} وأمر الفاسق والكافر بالعكس من ذلك. وأما في أحوال الآخرة، فالثواب والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة وكل هذه الأحوال داخلة في الفرقان. والنوع الثاني من الأجزية المرتبة على التقوى قوله: {ويكفر عنكم سيئاتكم} فنقول: إن حملنا قوله: {إن تتقوا الله} على الاتقاء من الكفر، كان المراد بقوله: {ويكفر عنكم سيئاتكم} جميع السيئات التي وجدت قبل الكفر، وإن حملناه على الاتقاء عن الكبائر، كان المراد من هذا تكفير الصغائر.
والنوع الثالث: قوله: {ويغفر لكم} واعلم أن المراد من تكفير السيئات سترها في الدنيا ومن المغفرة إزالتها في القيامة لئلا يلزم التكرار. ثم قال: {والله ذو الفضل العظيم} ومن كان كذلك فإنه إذا وعد بشيء وفى به. وإنما قلنا: إن أفضال الله أعظم من أفضال غيره لوجوه:
الأول: أن كل ما سوى الحق سبحانه فإنه لا يتفضل ولا يحسن إلا إذا حصلت في قلبه داعية الإفضال والإحسان، وتلك الداعية حادثة فلا تحصل إلا بتخليق الله تعالى، وعند هذا ينكشف أن المتفضل ليس إلا الله الذي خلق تلك الداعية الموجبة لذلك الفعل.
الثاني: أن كل من تفضل يستفيد به نوعا من أنواع الكمال إما عوضا من المال أو عوضا من المدح والثناء، وإما عوضا من نوع آخر وهو دفع الألم الحاصل في القلب بسبب الرقة الجنسية والله تعالى يعطي ويتفضل ولا يطلب به شيئا من الأعواض لأنه كامل لذاته، وما كان حاصلا للشيء لذاته امتنع أن يستفيده من غيره.
الثالث: أن كل من تفضل على الغير فإن المتفضل عليه يصير ممنونا عليه من ذلك المتفضل، وذلك منفر، أما الحق سبحانه وتعالى فهو الموجد لذات كل أحد بجميع صفاته، فلا يحصل الاستنكاف من قبول إحسانه.
الرابع: أن كل من تفضل على غيره فإنه لا ينتفع المتفضل عليه بذلك التفضل إلا إذا حصلت له عين باصرة وأذن سامعة ومعدة هاضمة حتى ينتفع بذلك الإحسان، وعند هذا ينكشف أن المتفضل هو الله في الحقيقة فثبت بهذه البراهين صحة قوله: {والله ذو الفضل العظيم}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
هذه الآية آخر وصايا المؤمنين في هذا السياق وهي أعمها، والأصل الجامع لها ولغيرها، وكلمة الفرقان فيها كلمة جامعة ككلمة التقوى في مجيئها هنا مطلقة، فالتقوى هي الشجرة، والفرقان هو الثمرة، وهو صيغة مبالغة من مادة الفرق ومعناها في أصل اللغة: الفصل بين الشيئين أو الأشياء، والمراد بالفرقان هنا: العلم الصحيح والحكم الحق فيها، ولذلك فسروه بالنور، وذلك أن الفصل والتفريق بين الأشياء والأمور في العلم هو الوسيلة للخروج من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل، وإنما العلم الصحيح هو العلم التفصيلي الذي يميز بين الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص، وإن شئت قلت بين الكليات والجزئيات، والبسائط والمركبات، والنسب بين أجزاء المركبات، من الحسيات والمعنويات، ويبين كل شيء من ذلك ويعطيه حقه الذي يكون به ممتازا من غيره... وكما يكون الفرقان في مسائل العلوم وموادها من طبيعية وعقلية ولغوية، وفي الموجودات التي استنبطت العلوم منها يكون في الأحكام والشرائع والأديان، وفي الحكم بين الناس في المظالم والحقوق وفي الحروب. وقد أطلق الفرقان على أشهر الكتب الإلهية وهي التوراة والإنجيل والقرآن وغلب على القرآن {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} [الفرقان: 1] لأن كلام الله تعالى يفرق في العلم والاعتقاد بين الإيمان والكفر والحق والباطل، وفي الأحكام بين العدل والجور، وفي الأعمال بين الصحيح والفاسد والخير والشر. وأطلق هذا اللفظ على يوم بدر كما سيأتي في هذه السورة مع بيان وجهه ومتعلق فصله وتفرقته.
فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} معناه إن تتقوا الله في كل ما يجب أن يتقى بمقتضى دينه وشرعه، وبمقتضى سننه في نظام خلقه، يجعل لكم بمقتضى هذه التقوى ملكة من العلم والحكمة تفرقون بها بين الحق والباطل، وتفصلون بين الضار والنافع، وتميزون بين النور والظلمة، وتزيِّلون بين الحجة والشبهة، وقد روي عن بعض مفسري السلف تفسير الفرقان هنا بنور البصيرة الذي يفرق بين الحق والباطل وهو عين ما فصلناه من الفرقان العلمي الحكمي، وعن بعضهم بالنصر يفرق بين المحق والمبطل، بما يعز المؤمن ويذل الكافر، وبالنجاة من الشدائد في الدنيا ومن العذاب في الآخرة. وهذا من الفرقان العملي الذي هو ثمرة العلمي ذكر كل ما رآه مناسبا لحال وقته أو حال من لقنه ذلك، ولم يقصد تحديد المدلول اللغوي، ولا المعنى الكلي الذي هو ثمرة التقوى بأنواعها، وهذا النور في العلم الذي لا يصل إليه طالبه إلا بالتقوى هو الحكمة التي قال الله فيها: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب} [البقرة: 269] فهو كعهد الله في إمامة الناس بالحق لا ينال الظالمين لأنفسهم بالتقليد لغيرهم لاحتقارهم في جنب إطرائهم لمقلديهم، بل هم لا يطلبونه ولا يقصدون الوصول إليه لأنهم صدقوا بعض الجاهلين في ادعائهم إقفال بابه، وكثافة حجابه، بل أصحابه هم الأئمة المجتهدون في الشرع والدين والواضعون للعلوم التي تنفع الناس، وكان لشيخنا الأستاذ الإمام حظ عظيم منه.
أمر الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه باتقائه وباتقاء النار وباتقاء الشرك والمعاصي وباتقاء الفتن العامة في الدول والأمم، وتقدم في وصايا هذا السياق- وباتقاء الفشل والخذلان في الحرب، وباتقاء ظلم النساء، وبين أن العاقبة في إرث الأرض للمتقين، كما أن الجنة في الآخرة للمتقين، وقال: {ومن يتق الله جعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} [الطلاق: 2، 3] {ومن يتق الله فهو حسبه} [الطلاق: 3] {ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا} [الطلاق: 5] وأمثال ذلك في التقوى العامة والخاصة وأجرها وعاقبتها كثير، فمعنى التقوى العام اتقاء كل ما يضر الإنسان في نفسه وفي جنسه الإنساني القريب والبعيد وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والغايات الحسنة والكمال الممكن، ولذلك قال العلماء إنها عبارة عن ترك جميع الذنوب والمعاصي وفعل ما يستطاع من الطاعات.
وزدنا على ذلك اتقاء الأسباب الدنيوية المانعة من الكمال وسعادة الدارين بحسب سنن الله تعالى في الكون كالنصر على الأعداء، وجعل كلمة الله هي العليا في الأرض، كما هي في الواقع ونفس الأمر، وكلمة الذين كفروا السفلى كذلك. وكمال ذلك يتوقف على العلم الواسع بالكتاب والسنة- وكمال هذا يتوقف على معرفة سنن الله تعالى في الإنسان مجتمعا ومنفردا كما أرشد إليه في آيات من كتابه، ومن ثم كانت ثمرة التقوى العامة الكاملة هنا حصول ملكة الفرقان التي يفرق صاحبها بنوره بين الأشياء التي تعرض له من علم وحكم وعمل فيفصل فيها بين ما يجب قبوله وما يجب رفضه، وبين ما ينبغي فعله وما يجب تركه، وتنكير الفرقان للتنويع التابع لأنواع التقوى كالفتن في السياسة والرياسة والحلال والحرام والعدل والظلم، فكل متق لله في شيء يؤته فرقانا فيه. وبذلك كان الخلفاء والحكام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم من خلفاء العرب أعدل حكام الأمم في الأرض حتى في عهد الفتح، قال بعض حكماء الإفرنج: ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب، ولكنهم لم يتقوا فتن السياسة والرياسة لقلة اختبارهم فعوقبوا عليها بتفرقهم فضعفهم فزوال ملكهم. وكان من بعدهم من أعاجم المسلمين دونهم لجهلهم بكل نوع من أنواع التقوى الواجبة، وحرمانهم من فرقانهم فهم يزعمون أنهم يجددون مجدهم مع جهل هذا الفرقان المبين، وعدم الاعتصام بالتقوى المزكية للنفس، والمؤهلة لها للإصلاح في الأرض، بل مع انغماسهم في السكر والفواحش لظنهم أن الإفرنج قد ترقوا في دنياهم بفساقهم وفجارهم، وإنما ترقوا بحكمائهم وأبرارهم، الذين وقفوا حياتهم على العلم والعمل النافع.
{ويكفّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم} هذا عطف على {يجعل لكم فرقانا} أي ويمحو بسبب هذا الفرقان وتأثيره ما كان من تدنيس سيئاتكم لأنفسكم فنزول منها داعية العود إليها المؤدي إلى الإصرار المهلك ويغفرها لكم بسترها وترك العقاب عليها {والله ذو الفضل العظيم} ومن أعظم فضله أن جعل هذا الجزاء العظيم بقسميه السلبي والإيجابي جزاء للتقوى وأثرا لها.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
امتثال العبد لتقوى ربه عنوان السعادة، وعلامة الفلاح، وقد رتب اللّه على التقوى من خير الدنيا والآخرة شيئا كثيرا، فذكر هنا أن من اتقى اللّه حصل له أربعة أشياء، كل واحد منها خير من الدنيا وما فيها: الأول: الفرقان: وهو العلم والهدى الذي يفرق به صاحبه بين الهدى والضلال، والحق والباطل، والحلال والحرام، وأهل السعادة من أهل الشقاوة. الثاني والثالث: تكفير السيئات، ومغفرة الذنوب، وكل واحد منهما داخل في الآخر عند الإطلاق وعند الاجتماع يفسر تكفير السيئات بالذنوب الصغائر، ومغفرة الذنوب بتكفير الكبائر. الرابع: الأجر العظيم والثواب الجزيل لمن اتقاه وآثر رضاه على هوى نفسه. وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
الهتاف الأخير للذين آمنوا -في هذا المقطع من السورة- هو الهتاف بالتقوى. فما تنهض القلوب بهذه الأعباء الثقال، إلا وهي على بينة من أمرها ونور يكشف الشبهات ويزيل الوساوس ويثبت الأقدام على الطريق الشائك الطويل. وما يكون لها هذا الفرقان إلا بحساسية التقوى وإلا بنور الله: (يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا، ويكفر عنكم سيئاتكم، ويغفر لكم. والله ذو الفضل العظيم). هذا هو الزاد، وهذه هي عدة الطريق.. زاد التقوى التي تحيي القلوب وتوقظها وتستجيش فيها أجهزة الحذر والحيطة والتوقي. وعدة النور الهادي الذي يكشف منحنيات الطريق ودروبه على مد البصر؛ فلا تغبشه الشبهات التي تحجب الرؤية الكاملة الصحيحة. ثم هو زاد المغفرة للخطايا. الزاد المطمئن الذي يسكب الهدوء والقرار.. وزاد الأمل في فضل الله العظيم يوم تنفد الأزواد وتقصر الأعمال. إنها حقيقة: أن تقوى الله تجعل في القلب فرقانا يكشف له منعرجات الطريق. ولكن هذه الحقيقة -ككل حقائق العقيدة- لا يعرفها إلا من ذاقها فعلا! إن الوصف لا ينقل مذاق هذه الحقيقة لمن لم يذوقوها!. إن الأمور تظل متشابكة في الحس والعقل؛ والطرق تظل متشابكة في النظر والفكر؛ والباطل يظل متلبسا بالحق عند مفارق الطريق! وتظل الحجة تُفحم ولكن لا تُقنع. وتسكت ولكن لا يستجيب لها القلب والعقل. ويظل الجدل عبثا والمناقشة جهدا ضائعا.. ذلك ما لم تكن هي التقوى.. فإذا كانت استنار العقل، ووضح الحق، وتكشف الطريق، واطمأن القلب، واستراح الضمير، واستقرت القدم وثبتت على الطريق! إن الحق في ذاته لا يخفى على الفطرة.. إن هناك اصطلاحا من الفطرة على الحق الذي فطرت عليه؛ والذي خلقت به السماوات والأرض.. ولكنه الهوى هو الذي يحول بين الحق والفطرة.. الهوى هو الذي ينشر الغبش، ويحجب الرؤية، ويُعمي المسالك، ويخفي الدروب.. والهوى لا تدفعه الحجة إنما تدفعه التقوى.. تدفعه مخافة الله، ومراقبته في السر والعلن.. ومن ثم هذا الفرقان الذي ينير البصيرة، ويرفع اللبس، ويكشف الطريق. وهو أمر لا يقدر بثمن.. ولكن فضل الله العظيم يضيف إليه تكفير الخطايا ومغفرة الذنوب. ثم يضيف إليهما (الفضل العظيم).. ألا إنه العطاء العميم الذي لا يعطيه إلا الرب (الكريم) ذو الفضل العظيم!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استيناف ابتدائي متصل بالآيات السابقة ابتداء من قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه} [الأنفال: 20] الآية وما بعده من الآيات إلى هُنا. وافتتح بالنداء للاهتمام، كما تقدم آنفاً. وخوطب المؤمنون بوصف الإيمان تذكيراً لهم بعهد الإيمان وما يقتضيه كما تقدم آنفاً في نظائِره، وعقب التحذير من العصيان والتنبيه على سوء عواقبه، بالترغيب في التقوى وبيان حسن عاقبتها وبالوعد بدوام النصر واستقامة الأحوال إن هم داموا على التقوى. ففعل الشرط مراد به الدوام، فإنهم كانوا متقين، ولكنهم لما حُذروا من المخالفة والخيانة ناسب أن تفرض لهم الطاعة في مقابل ذلك. ولقد بَدَا حُسنُ المناسبة إذ رُتبتِ على المنهيات تحذيراتٌ من شرور وأضرار من قوله: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم} [الأنفال: 22] وقوله {واتقوا فتنة} [الأنفال: 25] الآية، ورتب على التقوى: الوعد بالنصر ومغفرة الذنوب وسعة الفضل. والفرقان... هو ما يَفرِق أي يميَز بين شيئين متشابهين، وقد أطلق بالخصوص على أنواع من التفرقة فأطلق على النصر، لأنه يفرق بين حاليْن كانا محتَمَلَيْن قبلَ ظهور النصر، ولُقب القرآنُ بالفرقان؛ لأنه فَرّقَ بين الحق والباطل، قال تعالى: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده} [الفرقان: 1] ولعل اختياره هنا لقصد شموله ما يصلح للمقام من معانيه، فقد فُسّر بالنصر، وعن السدي، والضحاك، ومجاهد، الفرقانُ المَخْرَج، وفي « أحكام ابن العربي»، عن ابن وهب وابن القاسم وأشهب أنهم سألوا مالكاً عن قوله تعالى: {يجعل لكم فرقاناً} قال مَخَرجاً ثم قرأ: {ومن يَتَقِ الله يَجْعَلْ له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب ومن يتوكل على الله فهو حسبه} [الطلاق: 3]، وفسر بالتمييز بينهم وبين الكفار في الأحوال التي يُستحب فيها التمايز في أحوال الدنيا، فيشمل ذلك أحوالَ النفس: من الهداية، والمعرفة، والرضى، وانشراح القلب، وإزالةِ الحِقد والغل والحسد بينهم، والمكرِ والخداعِ وذميمِ الخلائق. وقد أشعر قوله: {لكم} أن الفرقان شيء نافع لهم فالظاهر أن المراد منه كل ما فيه مخرج لهم ونجاة من التباس الأحوال وارتباك الأمور وانبهام المقاصد، فيؤول إلى استقامة أحوال الحياة، حتى يكونوا مطمئني البالِ منشرحي الخاطر وذلك يستدعي أن يكونوا: منصورين، غالبين، بُصراء بالأمور، كَمَلة الأخلاق سائرين في طريق الحق والرشد، وذلك هو ملاك استقامة الأمم، فاختيار الفرقان هنا، لأنه اللفظ الذي لا يؤدي غيرُه مُؤداه في هذا الغرض وذلك من تمَام الفصاحة. والتقوى تشمل التوبة، فتكفير السيئات يصح أن يكون المراد به تكفير السيئات الفارطة التي تعقبها التقوى. ومفعول {يغفر لكم}، محذوف وهو ما يستحق الغفران وذلك هو الذنب، ويتعين أن يحمل على نوع من الذنوب. وهو الصغائر التي عبر عنها باللم، ويجوز العكس بأن يراد بالسيئات الصغائِر وبالمغفرة مغفرة الكبائر بالتوبة المعقبَة لها، وقيل التكفير الستر في الدنيا، والغفران عدم المؤاخذة بها في الآخرة، والحاصل أن الإجمال مقصود للحث على التقوى وتحقق فائِدتها والتعريض بالتحذير من التفريط فيها، فلا يحصل التكفير ولا المغفرة بأي احتمال. وقوله: {والله ذو الفضل العظيم} تذييل وتكميل وهو كناية عن حصول منافع أخرى لهم من جراء التقوى...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذا هو النداء الرابع الذي يدعو المؤمنين إلى اعتبار التقوى أساساً للرؤية الصحيحة للأشياء، وميزاناً للتمييز بين الحق والباطل، وقاعدةً للمغفرة والتكفير عن السيّئات، لأنها تمثّل الموقف الواعي الذي ينظر إلى الأشياء بعين الله، ويحكم عليها من خلال شريعته، وبذلك يوحي للعقل بالإشراق وللخطوات بالتوازن على الطريق المستقيم. {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} انطلقوا بإيمانكم إلى المواقع التي تتحوّل بكم إلى الموقف الحق في خط التقوى، فإن الله قد أعدّ للمتقين كل خيرٍ ورحمةٍ ورضوان. {إَن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} يفرق بين الحق والباطل، في ما يمثله من المراقبة الدائمة لله في كل ما يتحرك فيه الإنسان أو يقف، فلا يقدم رجلاً ولا يؤخّر أخرى حتى يعلم أن في ذلك لله رضى، مما يعمِّق في داخله الإحساس الواعي بالخطوط الفاصلة بين النور والظلمة وبين الخطأ والصواب، ويجعل نوره يسعى بين يديه، وعن يمينه وعن شماله، وذلك هو خط المعرفة في حركة التقوى في حياة الإنسان. {وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}، لأن التقوى تعني التوبة الحقيقية في مضمونها العملي، الذي يمثلّ الحركة التغييرية في صعيد الواقع في مقابل التوبة الكلامية التي تعبّر عن الحالة النفسية الطارئة بعيداً عن الموقف الثابت المستمر. وبذلك يتحقق الأساس للمغفرة والرضوان والتكفير عن السيئات، لأن {الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، كما جاء في بعض الآيات. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} الذي لا يمنع أحداً من فضله ولا يحرم أحداً من لطفه ونعمه...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تناولت الآيات السابقة أوامر حياتية تتضمّن السعادة المادية والمعنوية للإِنسان، لكن العمل بها غير ممكن إِلاّ في ظلال التقوى، لذلك جاءت هذه الآية المباركة لتؤكّد أهمية التقوى وآثارها في مصير الإِنسان، وقد بيّنت الآية أربعة ثمار ونتائج للتقوى. فقالت ابتداء: (يا أيّها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً...). وكلمة «فرقان» صيغة مبالغة من مادة (فرق) وهي هنا بمعنى الشيء الذي يفصل بين الحق والباطل تماماً. إنّ هذه الجملة الموجزة والكبيرة في معناها قد بيّنت إحدى أهم المسائل المؤثرة في مصير الإِنسان، وهي أنّ درب الإِنسان نحو النصر محفوف دائماً بالمصاعب والحفر فإذا لم يبصرها جيداً ويحسنُ معرفتها واتقاءها فسيسقط فيها لا محالة، فأهم مسألة في هذا الطريق هي معرفة الحق والباطل، معرفة الحسن والقبيح، معرفة الصديق والعدو، معرفة الفوائد والأضرار، معرفة عوامل السعادة والضياع، فإذا استطاع الإِنسان معرفة هذه الحقائق جيداً فسيسهل عليه الوصول إِلى الهدف. إنّ المشكلة التي تعترض الانسان غالباً هي خطأه في تشخيص الباطل واختياره على الحق، وانتخاب العدوّ بدل الصديق، وطريق الضلال بدل طريق الهداية، وهنا يحتاج الإِنسان إِلى بصر وبصيرة قويّة، ووضوح رؤية. إنّ هذه الآية المباركة تقول: إنّ هذه البصيرة ثمرة لشجرة التقوى. أمّا كيف تعطي هذه التقوى البصيرة للإِنسان؟ فقد يكون الأمر مبهماً لدى البعض، لكن قليلا من الدقّة والتأمل كافية لتوضيح العلاقة الوثيقة بين هذين الاثنين، ولإِيضاح ذلك نقول: أوّلا: إنّ قوّة عقل الإِنسان تستطيع إدراك الحقائق بقدر كاف، ولكن ستائر من الحرص والطمع والشهوة وحبّ النفس والحسد، والحبّ المفرط للمال والأزواج والأولاد والجاه والمنصب كل ذلك يغدُوّ كالدخان الأسود أمام بصيرة العقل، أو كالغبار الغليظ الذي يملأ الآفاق، وهنا لا يمكن للإِنسان معرفة الحق والباطل في أجواء مظلمة، أمّا إذا غسل تلك الغشاوة بماء التقوى وانقشع ذلك الدخان الأسود، عند ذاك تسهل عليه رؤية نور الحق.
ثانياً: أنّنا نعلم أنّ كل كمال في أي مكان إنّما هو قبس من كمال الحق، وكلّما اقترب الإِنسان من الله فإنّ نور الكمال المطلق سينعكس في وجوده أكثر، وعلى ذلك فإنّ أي علم ومعرفة فهو نبع من علمه ومعرفته تعالى، وكلّما تقدّم الإِنسان في ظلال التقوى وترك المعاصي من الله، ذابت قطرة وجوده في بحر وجود العظيم أكثر، وسيحصل على مقدار أكثر من العلم والمعرفة. وبعبارة أُخرى فإنّ قلب الإِنسان كالمرآة، ووجود الله كالشمس الساطعة على الوجود، فإذا تلوثت مرآة قلبه من الأهواء حتى اسودت، فسوف لا تعكس النور، فإذا تمّ جلاؤها بالتقوى وزال الدرن عنها، فإنّ تلك الشمس الوضاءة الساطعة ستنعكس فيها وتنير كل مكان. ولذلك فإنّنا نرى على مدى التأريخ بعض النساء والرجال المتّقين يملكون وضوحاً من الرؤية لا يمكن بلوغه بوسائل العلم والمعرفة أبداً، فهم يرون أسباب الكثير من الحوادث التي تعصف بالمجتمع غير المرئية، ويرون وجود أعداء الحق وإن حجبتها آلاف الستائر الخادعة. وهذا الأثر العجيب للتقوى في معرفة الواقع، جاء ذكره في الكثير من الرّوايات والآيات الأُخرى، ففي سورة البقرة تقول الآية 282: (اتقوا الله ويعلمكم الله)، وجاء في الحديث المعروف: «المؤمن ينظر بنور الله».
وفي نهج البلاغة في قصار الكلم: «أكثر مصارع العقول تحت بروق المطامع».
ثالثاً: بالتحليل العقلي يمكن فهم العلاقة الوثيقة بين التقوى وإدراك الحقائق أيضاً، لأنّ المجتمعات التي تسير في دروب الفساد والرذيلة وأجهزة الإِعلام فيها تطبل لذلك المسير، والصحافة والراديو والتلفزيون كلها تدعو للتلوث والانحراف وخدمة الفساد، فمن البديهي أن يصعب على الناس تمييز الحق من الباطل، الجيد من الرديء، ونتيجة الأمر، فإنّ انعدام التقوى يكون سبباً لفقدان القدرة على هذه المعرفة أو سوء المعرفة. ومثال آخر: فإنّ عائلة غير متقيّة، وصغارها يشبون في محيط ملوث بالفساد والرّذيلة، فمن العسير على هؤلاء في المستقبل تمييز الجيد من الرديء، وإهدار القوى والطاقات في الذنوب يتسبب بقاء الناس على مستوى دان من البصيرة والمعرفة وانحطاط في التفكير حتى وإن كانوا متقدمين في الصناعة والحياة المادية. وبناءً على ما تقدم فإنّنا نرى أنّ أدنى انحراف عن التقوى يسبب نوعاً من العمى وسوء المعرفة، لذلك نرى في العالم الصناعي اليوم مجتمعات متقدمة جدّاً في العلم والصناعة، ولكنّها في حياتها اليومية مصابة بأمراض ومشاكل شديدة تبعث على الاستغراب والتعجب، وهنا تتجلى عظمة ما قاله القرآن الكريم. ونظراً إِلى أنّ التقوى لا تنحصر بالتقوى في العمل، بل تشمل التقوى في الفكر والعقل، فإنّ هذه الحقيقة تتّضح بصورة أجلى. فالتقوى في الفكر تعني مواجهة التسيّب وعدم الانضباط في التفكير، بمعنى أن نبحث في دراساتنا وتحقيقاتنا عن أصح الأدلة وأوثق البراهين، وأن لا نلتزم بعقيدة دون التحقيق الكافي والدقة اللازمة. والذين يراعون التقوى ويلتزمونها في تفكيرهم سيبلغون النتائج الصحيحة أسرع بكثير ممن لا يلتزم بها، كما أنّ الخلط والخطأ يكثر عند من لا يتقي الله في استدلالاته وأسلوب تفكيره. وهناك أمر آخر يجب الانتباه إليه، لأنّ الكثير من مفاهيمنا الإِسلامية قد تعرضت للتشويه بين المسلمين، وهو أنّ الكثير من الناس يتصور أنّ الإِنسان المتقي هو الذي يكثر من غسل بدنه ولباسه ويعتبر كل فرد وكل شيء نجساً ومشكوكاً فيه، وينزوي جانباً متجنباً الخوض في الأُمور الاجتماعية، ويسكت أمام كل واقعة، فهذه النظرات المغلوطة عن التقوى والمتقين في الحقيقة إحدى عوامل انحطاط المجتمعات الإِسلامية، لأنّ هذه التقوى لا تنتج معرفة ولا وضوح رؤية ولا تكون فرقاناً بين الحق والباطل. وعلى كل حال، وبعد أن اتضح أوّل ثواب للمتقين نعود لتفسير بقية الآية وسائر الثمار الأربعة لها. يقول القرآن الكريم: إنّه إضافة إِلى معرفة الحق من الباطل فإنّ من آثار التقوى أن يغطي على ذنوبكم ويمحوا آثارها من وجودكم (ويكفر عنكم سيئاتكم). مضافاً إِلى ذلك، فإنّه تعالى سيشملكم بمغفرته (ويغفر لكم). وثمار كثيرة أُخرى تنتظركم لا يعلمها إلاّ الله: (والله ذو الفضل العظيم).
فهذه الآثار الأربعة هي ثمرات في شجرة التقوى، ووجود روابط طبيعية بين التقوى وقسم من هذه الآثار لا يمنع من نسبة كل ذلك إلى الله تبارك وتعالى، لأنّنا وكما قلنا مراراً في هذا التّفسير فإنّ أي موجود ذي آثار إنّما تحصل بمشيئة الله وقدرته، فيمكن نسبة تلك الآثار إِلى الله عزّ وجلّ، وإِلى ذلك الموجود أيضاً.
وأمّا الفرق بين (تكفير السيئات) و (الغفران). فقد قال بعض المفسّرين بأنّ الأُولى إشارة إِلى الحجب من الدنيا، والثّانية إِلى النجاة من الجزاء الأخروي، ويردُ احتمال آخر هنا وهو أن (تكفير السيئات) تشير للآثار النفسية والاجتماعية للذنوب والتي تزول بفعل التقوى، ولكن (الغفران) إشارة إِلى مسألة العفو الإِلهي والخلاص من الجزاء...