95- يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وقد نويتم الحج والعمرة وتقومون بأعمالهما ، ومن قتله منكم قاصداً ، فعليه أن يؤدي نظير الصيد الذي قتله ، يخرجه من الإبل والبقر والغنم . ويعرف النظير بتقدير رجلين عادلين منكم يحكمان به ، ويهديه إلى الفقراء عند الكعبة ، أو يدفع بدله إليهم ، أو يخرج بقيمة المثل طعاماً للفقراء ، لكل فقير ما يكفيه يومه ، ليكون ذلك مسقطاً لذنب تعديه على الصيد ، أو يصوم أياماً بعدد الفقراء الذين كانوا يستحقون الطعام لو أخرجه . وقد شرع ذلك ليحس المعتدى بنتائج جرمه وسوء عاقبته . عفا الله عما سبق لكم من المخالفة قبل تحريمها ، ومن رجع إلى التعدي بعد العلم بتحريمه ، فإن الله يعاقبه بما ارتكب ، وهو غالب لا يُغْلَب ، شديد العقاب لمن يصر على الذنب .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } ، أي : محرمون بالحج والعمرة ، وهو جمع حرام ، يقال : رجل حرام وامرأة حرام ، وقد يكون من دخول الحرم ، يقال : أحرم الرجل إذا عقد الإحرام ، وأحرم إذا دخل الحرم . نزلت في رجل يقال له أبو اليسر ، شد على حمار وحش وهو محرم فقتله .
قوله تعالى : { ومن قتله منكم متعمداً } . اختلفوا في هذا العمد فقال قوم : هو العمد لقتل الصيد مع نسيان الإحرام . أما إذا قتله عمداً وهو ذاكر لإحرامه فلا حكم عليه ، وأمره إلى الله لأنه أعظم من أن يكون له كفارة . هذا قول مجاهد والحسن ، وقال الآخرون : أن يعمد المحرم قتل الصيد ذاكرا ً لإحرامه فعليه الكفارة ، واختلفوا فيما لو قتله خطأ ، فذهب أكثر الفقهاء إلى أن العمد والخطأ سواء في لزوم الكفارة ، وقال الزهري : على المتعمد بالكتاب ، وعلى المخطئ بالسنة ، وقال سعيد بن جبير : لا تجب كفارة الصيد بقتل الخطأ ، بل يختص بالعمد .
قوله تعالى : { فجزاء مثل } قرأ أهل الكوفة ويعقوب { فجزاء } منون ، مثل رفع على البدل من الجزاء ، وقرأ الآخرون بالإضافة { فجزاء مثل }
قوله تعالى : { ما قتل من النعم } ، معناه أنه يجب عليه مثل ذلك الصيد من النعم ، وأراد به ما يقرب من الصيد المقتول شبها ، من حيث الخلقة لا من حيث القيمة .
قوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } أي : يحكم بالجزاء رجلان عدلان ، وينبغي أن يكونا فقيهين ، ينظران إلى أشبه الأشياء من النعم فيحكمان به ، وممن ذهب إلى إيجاب المثل من النعم عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن عمر ، وابن عباس ، وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم : حكموا في بلدان مختلفة ، وأزمان شتى بالمثل من النعم . فحكم حاكمهم في النعامة ببدنه وهي لا تساوي بدنة ، وفي حمار الوحش ببقرة وهي لا يساوي بقرة . وفي الضبع بكبش وهو لا يساوي كبشاً ، فدل أنهم نظروا إلى ما يقرب من الصيد شبهاً من حيث الخلقة ، وتجب في الحمام شاة ، وهو كل ما عب وهدر من الطير ، كالفاختة ، والقمري ، والدبسي . وروي عن عمر ، وعثمان ، وابن عباس رضي الله عنهم : أنهم قضوا في حمام مكة بشاة .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أخبرنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي الزبير المكي ، عن جابر ابن عبد الله أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قضى في الضبع بكبش ، وفي الغزال بعنز ، وفي الأرنب بعناق ، وفي اليربوع بجفرة .
قوله تعالى : { هدياً بالغ الكعبة } ، أي : يهدي تلك الكفارة إلى الكعبة ، فيذبحها بمكة ، ويتصدق بلحمها على مساكين الحرم .
قوله تعالى : { أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً } . قال الفراء رحمه الله : العدل بالكسر ، المثل من جنسه ، والعدل بالفتح ، المثل من غير جنسه . وأراد به : أنه في جزاء الصيد مخير بين أن يذبح المثل من النعم ، فيتصدق بلحمه على مساكين الحرم ، وبين أن يقوم المثل دراهم ، والدراهم طعاماً ، فيتصدق بالطعام على مساكين الحرم ، أو يصوم عن كل مد من الطعام يوماً ، وله أن يصوم حيث شاء ، لأنه لا نفع فيه للمساكين . وقال مالك : إن لم يخرج المثل يقوم الصيد ، ثم يجعل القيمة طعاماً فيتصدق به ، أو يصوم ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يجب المثل من النعم ، بل يقوم الصيد ، فإن شاء صرف تلك القيمة إلى شيء من النعم ، وإن شاء إلى الطعام فيتصدق به ، وإن شاء صام عن كل نصف صاع من بر ، أو صاع من شعير يوماً . وقال الشعبي والنخعي : جزاء الصيد على الترتيب ، والآية حجة لمن ذهب إلى التخيير .
قوله تعالى : { ليذوق وبال أمره } أي : جزاء معصيته .
قوله تعالى : { عفا الله عما سلف } ، يعني : قبل التحريم ، ونزول الآية ، قال السدي : عفا الله عما سلف في الجاهلية .
قوله تعالى : { ومن عاد فينتقم الله منه } في الآخرة .
قوله تعالى : { والله عزيز ذو انتقام } ، وإذا تكرر من المحرم قتل الصيد فيتعدد عليه الجزاء عند عامة أهل العلم . قال ابن عباس رضي الله عنهما : إذا قتل المحرم صيداً متعمداً يسأل : هل قتلت قبله شيئاً من الصيد ؟ فإن قال نعم ، لم يحكم عليه ، وقيل له : اذهب ينتقم الله منك ، وإن قال لم أقتل قبله شيئاً حكم عليه ، فإن عاد بعد ذلك لم يحكم عليه ، ولكن يملأ ظهره وصدره ضرباً وجيعاً ، وكذلك حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في وج ، وهو واد بالطائف ، واختلفوا في المحرم ، هل يجوز له أكل لحم الصيد ؟ فذهب قوم إلى أنه لا يحل له بحال ، ويروى ذلك عن ابن عباس ، وهو قول طاووس ، وبه قال سفيان الثوري ، واحتجوا بما أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ، عن عبد الله بن عباس ، عن الصعب بن جثامة الليثي أنه أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً ، وهو بالأبواء أو بودان ، فرده عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما في وجهي ، قال : إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم ، وذهب الأكثرون إلى أنه يجوز للمحرم أكله إذا لم يصطد بنفسه ، ولا اصطيد لأجله أو بإشارته ، وهو قول عمر ، وعثمان ، وأبي هريرة ، وبه قال عطاء ، ومجاهد ، وسعيد بن جبير ، وهو مذهب مالك ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق ، وأصحاب الرأي ، وإنما رد النبي صلى الله عليه وسلم على الصعب بن جثامة لأنه ظن أنه صيد من أجله . والدليل على جوازه ما أخبرنا أبو الحسن ابن السرخسي ، أنا زاهر بن أحمد ، أنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن أبي النضر مولى عمر بن عبيد الله التيمي ، عن نافع مولى أبي قتادة ، عن أبي قتادة بن ربعي الأنصاري رضي الله عنه أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى كان ببعض طريق مكة ، تخلف مع أصحاب له محرمين ، وهو غير محرم ، فرأى حماراً وحشياً ، فاستوى على فرسه وسأل أصحابه أن يناولوه سوطه فأبوا ، فأخذه ثم شد على الحمار فقتله ، فأكل منه بعض أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وأبى بعضهم فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوه عن ذلك ، فقال : " إنما هي طعمة أطعمكموها الله تعالى " . أخبرنا عبد الوهاب بن محمد الخطيب ، أنا عبد العزيز بن أحمد الخلال ، أنا أبو العباس الأصم ، أخبرنا الربيع ، أنا الشافعي ، أنا إبراهيم بن محمد ، عن عمرو بن أبي عمرو ، عن المطلب بن حنطب ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( لحم الصيد لكم في الإحرام حلال ، ما لم تصيدوه أو يصطاد لكم ) ، قال أبو عيسى : المطلب لا نعرف له سماعاً من جابر ابن عبد الله رضي الله عنه .
وإذا أتلف المحرم شيئاً من الصيد لا مثل له من النعم مثل بيض ، أو طائر دون الحمام ، ففيه قيمة يصرفها إلى الطعام ، فيتصدق به أو يصوم عن كل مد يوما ، واختلفوا في الجراد : فرخص فيه قوم للمحرم وقالوا : هو من صيد البحر ، روي ذلك عن كعب الأحبار ، والأكثرون على أنها لا تحل ، فإن أصابها فعليه صدقة ، قال عمر : في الجراد تمرة ، وروي عنه وعن ابن عباس : قبضة من طعام .
ثم حرج بالنهي عن قتل الصيد في حال الإحرام ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } أي : محرمون في الحج والعمرة ، والنهي عن قتله يشمل النهي عن مقدمات القتل ، وعن المشاركة في القتل ، والدلالة عليه ، والإعانة على قتله ، حتى إن من تمام ذلك أنه ينهى المحرم عن أكل ما قُتل أو صيد لأجله ، وهذا كله تعظيم لهذا النسك العظيم ، أنه يحرم على المحرم قتل وصيد ما كان حلالا له قبل الإحرام .
وقوله : { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } أي : قتل صيدا عمدا { ف } عليه { جزاء مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ } أي : الإبل ، أو البقر ، أو الغنم ، فينظر ما يشبه شيئا من ذلك ، فيجب عليه مثله ، يذبحه ويتصدق به . والاعتبار بالمماثلة أن { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : عدلان يعرفان الحكم ، ووجه الشبه ، كما فعل الصحابة رضي الله عنهم ، حيث قضوا بالحمامة شاة ، وفي النعامة بدنة ، وفي بقر الوحش -على اختلاف أنواعه- بقرة ، وهكذا كل ما يشبه شيئا من النعم ، ففيه مثله ، فإن لم يشبه شيئا ففيه قيمته ، كما هو القاعدة في المتلفات ، وذلك الهدي لا بد أن يكون { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } أي : يذبح في الحرم .
{ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ } أي : كفارة ذلك الجزاء طعام مساكين ، أي : يجعل مقابلة المثل من النعم ، طعام يطعم المساكين .
قال كثير من العلماء : يقوم الجزاء ، فيشترى بقيمته طعام ، فيطعم كل مسكين مُدَّ بُرٍّ أو نصفَ صاع من غيره . { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ } الطعام { صِيَامًا } أي : يصوم عن إطعام كل مسكين يوما . { لِيَذُوقَ } بإيجاب الجزاء المذكور عليه { وَبَالَ أَمْرِهِ } { وَمَنْ عَادَ } بعد ذلك { فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ } وإنما نص الله على المتعمد لقتل الصيد ، مع أن الجزاء يلزم المتعمد والمخطيء ، كما هو القاعدة الشرعية -أن المتلف للنفوس والأموال المحترمة ، فإنه يضمنها على أي حال كان ، إذا كان إتلافه بغير حق ، لأن الله رتب عليه الجزاء والعقوبة والانتقام ، وهذا للمتعمد . وأما المخطئ فليس عليه عقوبة ، إنما عليه الجزاء ، [ هذا جواب الجمهور من هذا القيد الذي ذكره الله . وطائفة من أهل العلم يرون تخصيص الجزاء بالمتعمد وهو ظاهر الآية . والفرق بين هذا وبين التضمين في الخطأ في النفوس والأموال في هذا الموضع الحق فيه لله ، فكما لا إثم لا جزاء لإتلافه نفوس الآدميين وأموالهم ]{[278]}
ثم نهى - سبحانه - المؤمنين نهيا صريحا عن قتل الصيد وهم حرم وبين ما يجب على القاتل وكرر تحذيره وتهديده لمن يتعدى حدوده فقال - تعالى :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ . . . }
قال القرطبي : قوله - تعالى - { ياأيها الذين } خطاب عام لكل مسلم ، وهذا النهي هو الابتلاء المذكور في قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد } . . الآية وروى أن أبا اليسر - واسمه عمرو بن مالك الأنصاري - كان محرماً عام الحديبية بعمرة فقتل حمار وحش فنزلت هذه الآية .
والمراد بالصيد هنا المصيد ، لأنه هو الذي يقع عليه القتل .
وقوله { حرم } جمع حرام . وهذا اللفظ المحرم بالحج أو بالعمرة أو بهما وإن كان في الحل ، كما يتناول من كان في الحرم وإن كان حلالا .
قال ابن جرير : والحرم جمع حرام ، يقال : هذا رجل حرام ، وهذه أمرأة حرام ، فإذا قيل محرم ، قيل للمرأة محرمة والإِحرام : هو الدخول فيه . يقال : أحرم القوم : إذا دخلوا في الشهر الحرام أو في الحرم ، فتأويل الكلام : " لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون " .
والصيد المهي عن قتله هنا : صيد البر ، لأن صيد البحر قد أحله الله بعد ذلك بقوله : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ } الآية .
والنهى كما يتناول قتل صيد البر بإزهاق روحه بأي طريق من طرق الإِزهاق ، يتناول - أيضاً - قتله بطريق التسبب كالإِشارة إليه مثلا . ويتناول كذلك حظر الصيد نفسه ، لقوله - تعالى - في مطلع هذه السورة : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ولقوله - تعالى - بعد هذه الآية التي معنا : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً } فالنهي في قوله - تعالى - { لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } يتناول القتل عن طريق المباشرة أو التسبب كما يتناول أي عمل يؤدي إلى صيد الحيوان .
وإنما كان النهي في الآية منصبا على القتل ، لأنه هو المقصود الأعظم من وراء مباشرة عملية الصيد إذ الصائد يريد قتل المصيد لكي يأكله في الغالب .
هذا ، وقد اختلف الفقهاء في المصيد الذي يحرم صيده على المحرم .
فذهب بعضهم إلى أن المراد به ما يصاد مطلقاً سواء أكان مأكولا أم غير مأكول ولا يستثنى من ذلك إلا ما جاء النص باستثنائه ، وذلك لأن الصيد اسم عام يتناول كل ما يصاد من المأكول ومن غير المأكول .
وبهذا الرأي قال الأحناف ومن وافقهم من الفقهاء .
ويرى الشافعية أن المراد به المأكول فقط ، لأن الصيد إنما يطلق على ما يحل أكله فحسب .
وقد انبنى على هذا الخلاف أن من قتل وهو محرم سبعاً ، فالأحناف يرون أنه يجب عليه الجزاء الذي فصلته الآية . والشافعية يرون أنه لا يجب عليه ذلك .
قال الإِمام ابن كثير : قوله - تعالى - { لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } .
هذا تحريم منه - تعالى - لقتل الصيد في حال الإِحرام ، ونهي عن تعاطيه فيه . وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول ولو ما تولد منه ومن غيره ، فأما غير المأكول من حيوانات البر ، فعند الشافعي يجوز قتلها ، والجمهور على تحريم قتلها أيضاً ولا يستثنى من ذلك إلا ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأت والعقرب والفأرة والكلب والعقور " - وفي وراية الحية بدل العقرب - ومن العلماء كمالك وأحمد من ألحق بالكلب العقور : " الذئب والسبع والنمر والفهد ، لأنها أشد ضررا منه " .
وقوله : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } بيان لما يجب على المحرم في حال قتله للصيد .
قال الآلوسي ما ملخصه : والمعنى { وَمَن قَتَلَهُ } كائنا { منكم } حال كونه { متعمدا } أي : ذاكرا لإِحرامه عالما بحرمة قتل ما يقتله ، ومثله من قتله خطأ .
والفاء في قوله { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } جزائية إذا اعتبرنا { من } شرطية وهو الظاهر ، وإذا اعتبرناها موصولة تكون زائدة لشبه المبتدأ بالشرط .
وقد خرجت هذه القراءة بتخريجات منها : أن تعتبر الإِضافة بيانية أي : جزاء هو مثل ما قتل .
وظاهر الآية يفيد ترتيب الجزاء على القتل العمد ، إلا أنهم اختلفوا هنا على أقوال ذكرها القرطبي فقال ما ملخصه :
قوله - تعالى - { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } ذكر - سبحانه - المتعمد ولم يذكر المخخطئ ولا الناسي ، والمتعمد هنا هو القاصد للشيء مع العلم بالإِحرام . والمخطئ هو الذي يقصد شيئا فيصيب صيدا . والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه . واختلف العلماء في ذلك على خمسة أقوال :
الأول : ما أسنده الدارقطني عن ابن عباس قال : إنما التكفير في العمد ، وإنما غلظوا في الخطأ لئلا يعودوا .
الثاني : أن قوله { متعمدا } خرج على الغالب ، فألحق به النادر كأصول الشريعة .
الثالث : أنه لا شيء على المخطئ والناسي به قال الطبري وأحمد - في إحدى روايته - وطاووس وداود وأبو ثور .
الرابع : أنه يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان ، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم .
قال الزهري : وجب الجزاء في العمد بالقرآن ، وفي الخطأ والنسيان بالسنة . فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضيع فقال : " هي صيد " وجعل فيها إذا أصابها المحرم كبشا ، ولم يقل عمدا ولا خطأ .
الخامس : أن يقتله متعمدا لقتله ناسيا لإِحرامه - وهو قول مجاهد - ، لقوله - تعالى - بعد ذلك { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } قال : ولو كان ذاكرا لإِحرامه لوجبت عليه العقوبة الأول مرة .
قال : فدل على أنه أراد متعمدا لقتله ناسيا لإِحرامه .
ويبدو لنا أن القول الرابع الذي قال به الأئمة أبو حنيفة والشافعي ، ومالك أقرب إلى الصواب ، لأن تخصيص العمد بالذكر في الآية ، لأجل أن يرتب عليه الانتقام عند العود ، لأن العمد هو الذي يترتب عليه ذلك دون الخطأ ، ولأن جزاء الخطأ معروف من الأدلة التي قررت التسوية في ضمان المتلفات ، إذ من المعروف أن من قتل صيد إنسان عمدا أو خطأ في غير الحرم فعليه جزاؤه ، فهذا حكم عام في جميع المتلفات وما دام الأمر كذلك كان الجزاء ثابتا على المحرم متى قتل الصيد سواء أكان قتله له عمدا أم خطأ .
وقد اختلف العلماء - أيضا في المراد بالمثل في قوله - تعالى - { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } .
فجمهور الفقهاء يرون أن المراد بالمثل النظير . أي أن الجزاء يكون بالمماثلة بين الصيد المتقول وبين حيوان يقاربه في الحجم والمنظر من النعم وهي الإِبل والبقر والغنم .
ومن حججهم أن الله أوجب مثل المصيد المقتول مقيد بكونه من النعم ، فلابد أن يكون الجزاء مثلا من النعم ، وعليه فلا تصح القيمة لأنها ليست من النعم .
قال ابن كثير : وفي قوله - تعالى - : { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } دليل لما ذهب إليه مالك والشافعي وأحمد من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإِنسي ، خلافا لأبي حنيفة حيث أوجب القيمة سواء أكان الصيد المقتول مثليا أو غير مثلى . قال : وهو خير إن شاء تصدق بثمنه . وإن شاء اشترى به هديا .
والذي حكم به الصحابة في المثل أولى بالاتباع ، فإنهم حكموا في النعامة ببدنه ، وفي بقرة الوحش ببقرة ، وفي الغزال بعنز . وأما إذا لم يكن الصيد مثليا فقد حكم ابن عباس فيه بثمن يحمل إلى مكة .
ثم بين - سبحانه - بعد ذلك طريق معرفة الجزاء ، ومآله ، وأنواعه ، فقال - تعالى - { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الكعبة أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً } .
والضمير في قوله { به } يعود على الجزاء المماثل للمصيد المقتول .
وقوله : { هديا } حال من جزاء ، أو منصوب على المصدرية . أي يهديه هدياً .
والهدى : اسم لما يذبح في الحج لاهدائه إلى فقراء مكة .
وقوله : { بَالِغَ الكعبة } صفة لقوله { هدياً } لأنه إضافته لفظية :
وقوله : { أو كفارة } معطوف على جزاء . وأو للتخيير ، وكذلك في قوله { أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً } .
والعدل - بالفتح - ما عادل الشيء من غير جنسه . وأما بالكسر فما عادله من جنسه . وقيل هما سيان ومعناهما المثل مطلقا .
والمعنى الإِجمالي للآية الكريمة : يأيها الذين آمنوا بالله إيمانا حقا ، لا تقتلو الصيد وأنتم محرمون ، ومن قتل منكم الصيد وهو بهذه الصفة فعلية جزاء من النعم مماثل الصيد المقتول ومقارب له في الخلقة والمنظر ، أو في القيمة ، وهذا الجزاء المماثل للصيد المقتول يحكم به رجلان منكم تتوافر فيهما العدالة والخبرة حتى يكون حكمهما أقرب إلى الحق والصواب ، ويكون هذا الجزاء الواجب على قاتل الصيد { هَدْياً بَالِغَ الكعبة } أي : يصل إلى الحرم فيذبح فيه ويتصدق به على مساكينه ، أو يكون على قاتل الصيد { كَفَّارَةٌ } هي { طَعَامُ مَسَاكِينَ } بأن يطعمهم من غالب قوت البلد ما يساوي قيمة هذا الجزاء المماثل للصيد المقتول بحيث يعطي لكل مسكين نصف صاغ من بر أو صاعا من غيره ، أو يكون عليه ما يعادل هذا الطعام صياما ، بأن يصوم عن طعام كل مسكين يوما ، وما قل عن طعام المسكين يصوم عنه يوما كاملا .
وإذا لم يجد للصيد المقتول مماثلا كالعصفور وما يشبهه فعليه قيمته ، يشتري بها طعاما لكل مسكين مد ، أو يصوم عن كل مد يوما .
وبهذا نرى أن المحرم إذا قتل الصيد فعليه جزاء من النعم مماثل للصيد المقتول في الخلقة والمنظر أو عليه ما يساوي قيمة هذا الجزاء طعاما ، أو عليه ما يعادل هذا الطعام صياما . وهذا ما يقول به جمهور الفقهاء أما أبو حنيفة فيرى - كما سبق أن أشرنا - أن المماثلة إنما تعتبر ابتداء بحسب القيمة ، فيقوم الصيد المقتول من حيث هو ، فإن بلغت قيمته هدى يخير الجاني بين أن يشتري بها هديا يهدي إلى الكعبة ويذبح في الحرم ويتصدق بلحمه على الفقراء ، وبين أن يشتري بها طعاماً للمساكين . وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما .
والمراد من الكعبة هنا الحرم ؛ وإن خصت بالذكر تعظيما لها .
قال بعض العلماء : ولا شك أن التخيير هنا ليس على حقيقته ، إنما هو ترتيب مراتب على حسب القدرة على كل رتبة ، فالأصل بلا ريب شراء هدى وذبحه في الحرام ، فإن تعذر ذلك كان الطعام ، فإن تعذر كان الصيام .
هذا هو الظاهر عند الحنفية ، وروى عنهم أنهم قالوا بالتخيير إذا عرفت القيمة بين الذبح عند الكعبة وبين إطعام المساكين ، وبين الصوم .
وعندي أن الترتيب حسب القدرة أوضح وذلك هو رأى أحمد وزفر .
والمذاهب الأخرى تتلقى في الجملة مع الذهب الحنفي بيد أنها تعتبر المماثلة في الأوصاف .
وعندي أن المذهب الحنفي أوضح وأسهل تطبيقاً ، وأدق في تعرف المثل وقد اضطروا إليه عند استبدال الطعام بالذبح ، إذ لا يعرف مقدار الطعام إلا بمعرفة القيمة .
هذا ، وقوله - تعالى - { لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } تعليل لأيجاب الجزاء السابق على المحرم القاتل للصيد عن تعمد .
وقوله { ليذوق } من الذوق وهو إدراك المطعومات باللسان لمعرفة ما فيها من حلاوة أو مرارة أو غير ذلك .
والمراد به هنا : إدراك ألم العذاب على سبيل الاستعارة .
والوبال في الأصل : الثقل والشدة والوخامة . ومنه طعام وبيل إذا كان ثقيلا على المعدة .
ومرعى وبيل وهو الذي يتأذى به بعد أكله .
والمراد به هنا : سوء عاقبة فعله .
والمعنى : شرعنا ما شعرنا من جزاء على المحرم في حالة قتله للصيد ، ليدرك سوء عاقبة قتله وفعله السيء ، وليعلم أن مخالفته لأمر الله تؤدي إلى الخسارة في الدنيا والآخرة .
قال الإِمام الرازي : وإنما سمي الله - تعالى - ذلك وبالا ، لأنه خيره بيبن ثلاثة أشياء : اثنان منها توجب تنقيص المال - وهو ثقيل على الطبع - وهما : الجزاء بالمثل والإِطعام . والثالث : يوجب إيلام البدن وهو الصوم ، وذلك أيضا ثقيل على الطبع .
والمعنى أنه - تعالى - أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الأشياء التي كل واحد منها ثقيل على الطبع حتى يحترز عن قتل الصيد في الحرم وفي حال الإِحرام .
وقوله : { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله بعباده ولطفه بهم ، لأنه - سبحانه - لم يؤاخذهم على قتلهم للصيد وهم محرمون قبل تحريمها والنهي عنها .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بتهديد شديد لمن تتكرر منه المخالفة لأوامر الله ونواهيه فقال : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } .
أي : ومن عاد وهو محرم إلى قتل الصيد بعد ورود النهي عن ذلك فإن الله - تعالى - ينتقم منه ويعاقبه عقابا شديدا فهو - سبحانه - العزيز الذي لا يغالب ولا يقاوم ، المنتقم الذي لا يدفع انتقامه بأي وسيلة من الوسائل .
هذا وجمهور العلماء على أن المحرم يتكرر الجزاء عليه في قتل الصيد بتكرر وأن عقوبة الآخرة - وهي انتقام الله من الجاني - لا تمنع وجوب الجزاء عليه في الدنيا .
قال ابن كثير . ثم الجمهور من السلف والخلف على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة وإن تكرر ما تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد .
وقال علي بن طلحة عن ابن عباس قال : من قتل شيئا من الصيد خطأ وهو محرم يحكم عليه فيه كلما قتله . فإن قتله عمدا يحكم عليه فيه مرة واحدة . فإن عاد يقال له ينتقم الله منك .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد حذرت المؤمنين من التعرض للصيد في حالة إحرامهم ، وبينت الجزاء المترتب على من يفعل ذلك ، وهددت من يستهين بحدود الله بالعذاب الشديد .
بعد هذا يجيء تفصيل كفارة المخالفة مبدوءا بالنهي مختوما بالتهديد مرة أخرى :
( يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم . ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يحكم به ذوا عدل منكم هديا بالغ الكعبة ، أو كفارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياما ، ليذوق وبال أمره . عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ، والله عزيز ذو انتقام ) . .
إن النهي ينصب على قتل المحرم للصيد عمدا . فأما إذا قتله خطأ فلا إثم عليه ولا كفارة . . فإذا كان القتل عمدا فكفارته أن يذبح بهيمة من الأنعام من مستوى الصيد الذي قتله . فالغزالة مثلا تجزى ء فيها نعجة أو عنزة . والأيل تجزى ء فيه بقرة . والنعامة والزرافة وما إليها تجزى ء فيها بدنة . . والأرنب والقط وأمثالها يجزى ء فيه أرنب ، وما لا مقابل له من البهيمة يجزى ء عنه ما يوازي قيمته . .
ويتولى الحكم في هذه الكفارة اثنان من المسلمين ذوا عدل . فإذا حكما بذبح بهيمة أطلقت هديا حتى تبلغ الكعبة ، تذبح هناك وتطعم للمساكين . أما إذا لم توجد بهيمة فللحكمين أن يحكما بكفارة طعام مساكين ؛ بما يساوي ثمن البهيمة أو ثمن الصيد [ خلاف فقهي ] . فإذا لم يجد صاحب الكفارة صام ما يعادل هذه الكفارة . مقدرا ثمن الصيد أو البهيمة ، ومجزأ على عدد المساكين الذين يطعمهم هذا الثمن ؛ وصيام يوم مقابل إطعام كل مسكين . . أما كم يبلغ ثمن إطعام مسكين فهو موضع خلاف فقهي . ولكنه يتبع الأمكنة والأزمنة والأحوال .
وينص السياق القرآني على حكمة هذه الكفارة :
ففي الكفارة معنى العقوبة ، لأن الذنب هنا مخل بحرمة يشدد فيها الإسلام تشديدا كبيرا : لذلك يعقب عليها بالعفو عما سلف والتهديد بانتقام الله ممن لا يكف :
( عفا الله عما سلف ، ومن عاد فينتقم الله منه ، والله عزيز ذو انتقام ) .
فإذا اعتز قاتل الصيد بقوته وقدرته على نيل هذا الصيد ، الذي أراد الله له الأمان في مثابة الأمان ، فالله هو العزيز القوي القادر على الانتقام !
{ يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم } أي محرمون جمع حرام كرداح وردح ، ولعله ذكر القتل دون الذبح والذكاة للتعميم ، وأراد بالصيد ما يؤكل لحمه لأنه الغالب فيه عرفا ويؤيده قوله عليه الصلاة والسلام " خمس يقتلن في الحل والحرم ، الحدأة والغراب والعقرب والفأرة والكلب العقور " وفي رواية أخرى " الحية " بدل " العقرب " ، مع ما فيه من التنبيه على جواز قتل كل مؤذ ، واختلف في أن هذا النهي هل يلغي حكم الذبح فيلحق مذبوح المحرم بالميتة ومذبوح الوثني أو لا فيكون كالشاة المغصوبة إذا ذبحها الغاصب . { ومن قتله منكم متعمدا } ذاكرا لإحرامه عالما بأنه حرام عليه قبل ما يقتله ، والأكثر على أن ذكره ليس لتقييد وجوب الجزاء فإن إتلاف العامد والمخطئ واحد في إيجاب الضمان ، بل لقوله : { ومن عاد فينتقم الله منه } ولأن الآية نزلت فيمن تعمد إذ روي : أنه عن لهم في عمرة الحديبية حمار وحش فطعنه أبو اليسر برحمه فقتله . فنزلت . { فجزاء مثل ما قتل من النعم } برفع الجزاء ، والمثل قراءة الكوفيين ويعقوب بمعنى فعليه أي فواجبه جزاء يماثل ما قتل من النعم ، وعليه لا يتعلق الجار بجزاء للفصل بينهما بالصفة فإن متعلق المصدر كالصلة له فلا يوصف ما لم يتم بها ، وإنما يكون صفته وقرأ الباقون على إضافة المصدر إلى المفعول وإقحام مثلي كما في قولهم مثلي لا يقول كذا ، والمعنى فعليه أن يجزى مثل ما قتل . وقرئ فجزاء مثلي ما قتل بنصبهما على فليجز جزاء ، أو فعليه أن يجزي جزاء يماثل ما قتل وفجزاؤه مثل ما قتل ، وهذه المماثلة باعتبار الخلقة والهيئة عند مالك والشافعي رضي الله تعالى عنهما ، والقيمة عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى وقال : يقوم الصيد حيث صيد فإن بلغت القيمة ثمن هدى تخير بين أن يهدي ما قيمته قيمته وبين أن يشتري بها طعاما فيعطي كل مسكين نصف صاع من بر أو صاعا من غيره ، وبين أن يصوم عن طعام كل مسكين يوما وإن لم تبلغ تخير بين الإطعام والصوم واللفظ للأول أوفق . { يحكم به ذوا عدل منكم } صفة جزاء ويحتمل أن يكون حالا من ضميره في خبره أو منه إذا أضفته ، أو وصفته ورفعته بخبر قدر لمن وكما أن التقويم يحتاج إلى نظر واجتهاد يحتاج إلى المماثلة في الخلقة والهيئة إليها ، فإن الأنواع تتشابه كثيرا . وقرئ " ذو عدل " على إرادة الجنس أو الإمام . { هديا } حال من الهاء في به أو من جزاء وإن نون لتخصصه بالصفة ، أو بدل من مثل باعتبار محله أو لفظه فيمن نصبه . { بالغ الكعبة } وصف به هديا لأن إضافته لفظية ومعنى بلوغه الكعبة ذبحه بالحرم والتصدق به ، وقال أبو حنيفة يذبح بالحرم ويتصدق به حيث شاء . { أو كفارة } عطف على جزاء إن رفعته وإن نصبته فخبر محذوف . { طعام مساكين } عطف بيان أو بدل منه ، أو خبر محذوف أي هي طعام . وقرأ نافع وابن عامر كفارة { طعام } بالإضافة للتبيين كقولك : خاتم فضة ، والمعنى عند الشافعي أو أن يكفر بإطعام مساكين ما يساوي قيمة الهدي من غالب قوت البلد فيعطي كل مسكين مدا . { أو عدل ذلك صياما } أو ما ساواه من الصوم فيصوم عن طعام كل مسكين يوما ، وهو في الأصل مصدر أطلق للمفعول . { وقرئ بكسر العين وهو ما عدل بالشيء في المقدر كعدل الحمل وذلك إشارة إلى الطعام ، وصياما تمييز للعدل . { ليذوق وبال أمره } متعلق بمحذوف أي فعليه الجزاء أو الطعام أو الصوم ليذوق ثقل فعله وسوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام ، أو الثقل الشديد على مخالفة أمر الله تعالى وأصل الوبل الثقل ومنه الطعام الوبيل . { عفا الله عما سلف } من قتل الصيد محرما في الجاهلية أو قبل التحريم ، أو في هذه المرة . { ومن عاد } إلى مثل هذا . { فينتقم الله منه } فهو ينتقم الله منه وليس فيه ما يمنع الكفارة على العائد كما حكي عن ابن عباس وشريح . { والله عزيز ذو انتقام } مما أصر على عصيانه .
الخطاب لجميع المؤمنين ، وهذا النهي هو الابتلاء الذي أعلم به قوله قبل { ليبلونكم } [ المائدة : 94 ] و { الصيد } مصدر عومل معاملة الأسماء فأوقع على الحيوان المصيد ، ولفظ الصيد هنا عام ومعناه الخصوص فيما عدا الحيوان الذي أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في الحرم ، ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «خمس فواسق يقتلن في الحرم الغراب والحدأة والفأرة والعقرب والكلب العقور »{[4710]} ووقف مع ظاهر هذا الحديث سفيان الثوري والشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه فلم يبيحوا للمحرم قتل شيء سوى ما ذكر ، وقاس مالك رحمه الله على الكلب العقور كل ما كلب على الناس وعقرهم ، ورآه داخلاً في اللفظ فقال للمحرم أن يقتل الأسد والنمر والفهد والذئب وكل السباع العادية مبتدئاً بها ، فأما الهر والثعلب والضبع فلا يقتلها المحرم وإن قتلها فدى ، وقال أصحاب الرأي إن بدأ السبع المحرم فله أن يقتله ، وإن ابتدأه المحرم فعليه قيمته ، وقال مجاهد والنخعي لا يقتل المحرم من السباع إلا ما عدا عليه ، وقال ابن عمر ما حل بك من السباع فحلَّ به ، وأما فراخ السبع الصغار قبل أن تفرس{[4711]} فقال مالك في " المدونة " لا ينبغي للمحرم قتلها ، قال أشهب في كتاب محمد : فإن فعل فعليه الجزاء ، وقال أيضاً أشهب وابن القاسم لا جزاء عليه ، وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أمر المحرمين بقتل الحيات وأجمع الناس على إباحة قتلها وثبت عن عمر رضي الله عنه إباحة قتل الزنبور لأنه في حكم العقرب ، وقال مالك : يطعم قاتله شيئاً ، وكذلك قال مالك فيمن قتل البرغوث والذباب والنمل ونحوه ، وقال أصحاب الرأى لا شيء على قاتل هذه كلها ، وأما سباع الطير فقال مالك لا يقتلها المحرم وإن فعل فدى ، وقال ابن القاسم في كتاب محمد : وأحب إليَّ أن لا يقتل الغراب والحدأة حتى يؤذياه ، ولكن إن فعل فلا شيء عليه .
قال القاضي أبو محمد : وذوات السموم كلها في حكم الحية كالأفعى والرتيلا{[4712]} ، وما عدا ما ذكرناه فهو مما نهى الله عن قتله في الحرمة بالبلد أو الحال ، وفرض الجزاء على من قتله و { حرم } جمع حرام وهو الذي يدخل في الحرام أو في الإحرام ، وحرام ، يقال للذكر والأنثى والاثنين والجميع ، واختلف العلماء في معنى قوله { متعمداً } فقال مجاهد وابن جريج والحسن وابن زيد : معناه متعمداً لقتله ناسياً لإحرامه ، فهذا هو الذي يكفر وكذلك الخطأ المحض يكفر وأما إن قتله متعمداً ذاكراً لإحرامه فهذا أجلّ وأعظم من أن يكفر . قال مجاهد : قد حل ولا رخصة له ، وقاله ابن جريج ، وحكى المهدوي وغيره أنه بطل حجه ، وقال ابن زيد : هذا يوكل إلى نقمة الله ، وقال جماعة من أهل العلم منهم ابن عباس ومالك وعطاء وسعيد ابن جبير والزهري وطاوس وغيرهم ، المتعمد هو القاصد للقتل الذاكر لإحرامه ، وهو يكفر وكذلك الناسي والقاتل خطأً يكفران .
قال الزهري : نزل القرآن بالعمد وجرت السنة في قتله خطأً أنهما يكفران ، وقال بعض الناس لا يلزم القاتل خطأً كفارة ، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وابن عامر «فجزاءُ مثلِ ما » بإضافة الجزاء إلى مثل وخفض مثل ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «فجزاء » بالرفع «مثلُ » بالرفع أيضاً فأما القراءة الأولى ومعناها فعليه جزاء مثل ، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم «فجزاء » بالرفع «مثلُ » بالرفع أيضاً فأما القراءة الأولى ومعناها بقولك أنا أكرمك ، ونظير هذا قوله تعالى : { أفمن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات }{[4713]} التقدير كمن هو في الظلمات .
قال القاضي أبو محمد : ويحتمل قوله تعالى : { فجزاء مثل } أن يكون :المعنى فعليه أن يجزي مثل ما ، ثم وقعت الإضافة إلى المثل الذي يجزي به اتساعاً ، وأما القراءة الثانية فمعناها : فالواجب عليه أو فاللازم له جزاء مثل ما و «مثل » على هذه القراءة صفة لجزاء ، أي فجزاء مماثل ، وقوله تعالى : { من النعم } صفة لجزاء على القراءتين كلتيهما ، وقرأ عبد الله بن مسعود «فجزاؤه مثل ما » بإظهار هاء يحتمل أن تعود على الصيد أو على الصائد القاتل ، وقرأ أبو عبد الرحمن «فجزاءُ » بالرفع والتنوين «مثلَ ما » بالنصب ، وقال أبو الفتح «مثل » منصوبة بنفس الجزاء أي فعليه أن يجزي مثل ما قتل ، واختلف العلماء في هذه المماثلة كيف تكون ؟ ! فذهب الجمهور إلى أن الحكمين ينظران إلى مثل الحيوان المقتول في الخلقة وعظم المرأى فيجعلون ذلك من النعم جزاءه ، قال الضحاك بن مزاحم والسدي وجماعة من الفقهاء : في النعامة وحمار الوحش ونحوه بدنة ، وفي الوعل والإبل ونحوه بقرة ، وفي الظبي ونحوه كبش ، وفي الأرنب ونحوه ثنية من الغنم ، وفي اليربوع حمل صغير ، وما كان من جرادة ونحوها ففيها قبضة طعام ، وما كان من طير فيقوم ثمنها طعاماً فإن شاء تصدق به وإن شاء صام لكل صاع يوماً ، وإن أصاب بيض نعام فإنه يحمل الفحل على عدد أصاب من بكارة الإبل فما نتج منها أهداه إلى البيت وما فسد فيها منها فلا شيءٍ عليه فيه .
قال القاضي أبو محمد : حكم عمر على قبيصة بن جابر في الظبي بشاة ، وحكم هو وعبد الرحمن بن عوف ، قال قبيصة : قلت يا أمير المؤمنين إن أمره أهون من أن تدعو من يحكم معك ، قال : فضربني بالدرة حتى سابقته عَدْوا .
ثم قال : أقتلت الصيد وأنت محرم ثم تغمض{[4714]} الفتوى ؟ وهذه القصة في الموطأ بغير هذه الألفاظ . وكذلك روي أنها نزلت بصاحب لقبيصة ، وقبيصة هو راويها والله أعلم . وأما الأرنب واليربوع ونحوها فالحكم فيه عند مالك أن يقوم طعاماً ، فإن شاء تصدق به وإن شاء صام بدل كلّ مدّ يوماً ، وكذلك عنده الصيام في كفارة الجزاء إنما هو كله يوم بدل مد ، وعند قوم صاع ، وعند قوم بدل مدين ، وفي حمام الحرم عند مالك شاة في الحمامة ، وفي الحمام غيره حكومة وليس كحمام الحرم ، وأما بيض النعام وسائر الطير ففي البيضة عند مالك عشر ثمن أمه ، قال ابن القاسم : وسواء كان فيها فرخ أو لم يكن ما لم يستهل الفرخ صارخاً بعد الكسر فإن استهل ففيه الجزاء كاملاً كجزاء كبير ذلك الطير . قال ابن المواز : بحكومة عدلين ، وقال ابن وهب : إن كان في بيضة النعامة فما دونها فرخ فعشر ثمن أمه ، وإن لم يكن فصيام يوم أو مد لكل مسكين ، وذهبت فرقة من أهل العلم{[4715]} منهم النخعي وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة ، يقوّم الصيد المقتول ثم يشتري بقيمته ندّه{[4716]} من النعم ثم يهدى ، ورد الطبري وغيره على هذا القول ، و { النعم } لفظ يقع على الإبل والبقر والغنم إذا اجتمع هذه الأصناف ، فإذا انفرد كل صنف لم يقل «نعم » إلا للإبل وحدها ، وقرأ الحسن «من النعْم » بسكون العين وهي لغة ، والجزاء إنما يجب بقتل الصيد لا بنفس أخذه بحكم لفظ الآية ، وذلك في المدونة ظاهر من مسألة الذي اصطاد طائراً فنتف ريشه ثم حبسه حتى نسل ريشه فطار ، قال لا جزاء عليه ، وقصر القرآن هذه النازلة على حكمين عدلين عالمين بحكم النازلة وبالتقدير فيها ، وحكم عمر وعبد الرحمن بن عوف وأمر أبا جرير البجلي أن يأتي رجلين من العدول ليحكما عليه في عنز من الظباء أصابها قال :
فأتيت عبد الرحمن وسعداً فحكما عليّ تيساً أعفر ، ودعا ابن عمر ابن صفوان ليحكم معه في جزاء ، وعلى هذا جمهور الناس وفقهاء الأمصار ، وقال ابن وهب رحمه الله في العتبية : من السنة أن يخير الحكمان من أصاب الصيد كما خيره الله في أن يخرج هدياً بالغ الكعبة أو كفارة طعام مساكين أو عدل ذلك صياماً . فإن اختار الهدي حكما عليه بما يريانه نظيراً لما أصاب ما بينهما وبين أن يكون عدل ذلك شاة لأنها أدنى الهدي . فما لم يبلغ شاة حكما فيه بالطعام ، ثم خير في أن يطعمه أو يصوم مكان كل مد يوماً . وكذلك قال مالك في المدونة : إذا أراد المصيب أن يطعم أو يصوم وإن كان لما أصاب نظير من النعم فإنه يقوم صيده طعاماً لا دراهم ، قال : وإن قوموه دراهم واشتري بها طعام لرجوت أن يكون واسعاً ، والأول أصوب ، فإن شاء أطعمه وإلا صام مكانه لكل مد يوماً وإن زاد ذلك على شهرين أو ثلاثة ، وقال يحيى بن عمر من أصحابنا إنما يقال كم من رجل يشبع من هذا الصيد فيعرف العدد ثم يقال كم من الطعام يشبع هذا العدد ، فإن شاء أخرج ذلك الطعام ، وإن شاء صام عدد أمداده .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول حسن أحتاط فيه لأنه قد تكون قيمة الصيد من الطعام قليلة فبهذا النظر يكثر الطعام ، ومن أهل العلم من يرى أن لا يتجاوز في صيام الجزاء شهران ، قالوا : لأنها أعلى الكفارات بالصيام ، وقوله تعالى : { هدياً بالغ الكعبة } يقتضي هذا اللفظ أن يشخص بهذا الهدي حتى يبلغ ، وذكرت { الكعبة } لأنها أم الحرم ورأس الحرمة ، والحرم كله منحر لهذا الهدي فما وقف به بعرفة من هذا الجزاء فينحر بمنى ، وما لم يوقف به فينحر بمكة وفي سائر بقاع الحرم ، بشرط أن يدخل من الحل لا بد أن يجمع فيه بين حل وحرم حتى يكون بالغاً الكعبة ، وقرأ عبد الرحمن الأعرج «هدِيّاً بالغ الكعبة » بكسر الدال وتشديد الياء ، و { هدياً } نصب على الحال من الضمير في { به } ، وقيل على المصدر ، و { بالغ } نكرة في الحقيقة لم تزل الإضافة عنه الشياع ، فتقديره بالغاً الكعبة حذف تنويه تخفيفاً ، وقرأ ابن كثير وعاصم وأبو عمرو وحمزة والكسائي «أو كفارةً » منوناً «طعامُ مساكين » برفع طعام وإضافته إلى جمع المساكين ، وقرأ نافع وابن عامر برفع الكفارة دون تنوين وخفض الطعام على الإضافة ومساكين بالجمع ، قال أبو علي : إعراب طعام في قراءة من رفعه أنه عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة ، ولم يضف الكفارة لأنها ليست للطعام إنما هي لقتل الصيد .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الكلام كله مبني على أن الكفارة هي الطعام وفي هذا نظر ، لأن الكفارة هي تغطية الذنب بإعطاء الطعام ، فالكفارة غير الطعام لكنها به ، فيتجه في رفع الطعام البدل المحض{[4717]} ، ويتجه قراءة من أضاف الكفارة إلى الطعام على أنها إضافة تخصيص ، إذ كفارة هذا القتل قد تكون كفارة هدي أو كفارة طعام أو كفارة صيام ، وقرأ الأعرج وعيسى بن عمرو «أو كفارةٌ » بالرفع والتنوين «طعامُ » بالرفع دون تنوين «مسكين » على الإفراد وهو اسم الجنس ، وقال مالك رحمه الله وجماعة من العلماء : القاتل مخير في الرتب الثلاثة وإن كان غنياً ، وهذا عندهم مقتضى { أو } ، وقال ابن عباس وجماعة لا ينتقل المكفر من الهدي إلى الطعام إلا إذا لم يجد هدياً ، وكذلك لا يصوم إلا إذا لم يجد ما يطعم ، وقاله إبراهيم النخعي وحماد بن أبي سليمان ، قالوا : والمعنى أو كفارة طعام إن لم يجد الهدي .
ومالك رحمه الله وجماعة معه يرى أن المقوم إنما هو الصيد المقتول بالطعام كما تقدم ، وقال العراقيون إنما يقوم الجزاء طعاماً ، فمن قتل ظبياً قوم الظبي عند مالك وقوم عدله من الكباش أو غير ذلك عند أبي حنيفة وغيره ، وحكى الطبري عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : إذا أصاب المحرم الصيد حكم عليه جزاؤه من النعم ، فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به ، وإن لم يجد قوم الجزاء دراهم ثم قومت الدراهم حنطة ثم صام مكان كل نصف صاع يوماً قال : وإنما أريد بذكر الطعام تبيين أمر الصوم ، ومن يجد طعاماً فإنما يجد جزاء ، وأسنده أيضاً عن السدي .
قال القاضي أبو محمد : ويعترض هذا القول بظاهر لفظ الآية فإنه ينافره ، والهدي لا يكون إلا في الحرم كما ذكرنا قبل .
واختلف الناس في الطعام فقال جماعة من العلماء : الإطعام والصيام حيث شاء المكفر من البلاد ، وقال عطاء بن أبي رباح وغيره «الهدي و الإطعام بمكة والصوم حيث شئت » وقوله تعالى : { أو عدل ذلك صياماً } قرأ الجمهور بفتح العين ومعناه : نظير الشيء بالموازنة والمقدار المعنوي ، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مصرف والجحدري : «أو عِدل » بكسر العين ، قال أبو عمرو الداني ورواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال بعض الناس «العَدل » بالفتح قدر الشيء من غير جنسه ، وعِدله بالكسر قدره من جنسه ، نسبها مكي إلى الكسائي وهو وهم والصحيح عن الكسائي : أنهما لغتان في المثل ، وهذه المنسوبة عبارة معترضة وإنما مقصد قائلها أن «العِدل » بالكسر قدر الشيء موازنة على الحقيقة كعدلي البعير ، وعدله قدره من شيء آخر موازنة معنوية ، كما يقال في ثمن فرس هذا عدله من الذهب ، ولا يتجه هنا كسر العين فيما حفظت ، والإشارة بذلك في قوله { عدل ذلك } يحتمل أن تكون إلى الطعام ، وعلى هذا انبنى قول من قال من الفقهاء الأيام التي تصام هي على عدد الأمداد أو الأصواع أو أنصافها حسب الخلاف الذي قد ذكرته في ذلك . ويحتم أن تكون الإشارة ب { بذلك } إلى الصيد المقتول ، وعلى هذا انبنى قول من قال من العلماء : الصوم في قتل الصيد إنما هو على قدر المقتول ، وقال ابن عباس رضي الله عنه إن قتل المحرم ظبياً فعليه شاة تذبح بمكة ، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ، وإن قتل أيلاً{[4718]} فعليه بقرة ، فإن لم يجد فإطعام عشرين مسكيناً ، فإن لم يجد صام عشرين يوماً ، وإن قتل نعامة أو حمار وحش فعليه بدنة ، فإن لم يجد أطعم ثلاثين مسكيناً ، فإن لم يجد صام ثلاثين يوماً .
قال القاضي أبو محمد : وقد تقدم لابن عباس رضي الله عنه قول غير هذا آنفاً حكاهما عنه الطبري مسندين ، ولا ينكر أن يكون له في هيئة التكفير قولان ، وقال سعيد بن جبير في تفسير قوله تعالى : { أو عدل ذلك صياماً } قال يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة .
وقوله تعالى : { ليذوق وبال أمره } الذوق هنا مستعار كما قال تعالى : { ذق إنك أنت العزيز الكريم }{[4719]} وكما قال { فأذاقها الله لباس الجوع }{[4720]} وكما قال أبو سفيان : " ذق ُعَقُق " {[4721]} ، وحقيقة الذوق إنما هي في حاسة اللسان ، وهي في هذا كله مستعارة فيما بوشر بالنفس{[4722]} ، والوبال سوء العاقبة ، والمرعى الوبيل هو الذي يتأذى به بعد أكله{[4723]} ، وعبر [ بأمره ] عن جميع حاله من قتل وتكفير وحكم عليه ومضي ماله أو تعبه بالصيام ، واختلف المتأولون في معنى قوله تعالى : { عفا الله عما سلف } فقال عطاء بن أبي رباح وجماعة معه : معناه عفا الله عما سلف في جاهليتكم من قتلكم الصيد في الحرمة ومن عاد الآن في الإسلام فإن كان مستحلاً فينتقم الله منه في الآخرة ويكفر في ظاهر الحكم ، وإن كان عاصياً فالنقمة هي في إلزام الكفارة فقط ، قالوا وكلما عاد المحرم فهو مكفر .
قال القاضي أبو محمد : ويخاف المتورعون أن تبقى النقمة مع التكفير ، وهذا هو قول الفقهاء مالك ونظائره وأصحابه رحمهم الله ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : المحرم إذا قتل مراراً ناسياً لإحرامه فإنه يكفر في كل مرة ، فأما المتعمد العالم بإحرامه فإنه يكفر أول مرة ، وعفا الله عن ذنبه مع التكفير ، فإن عاد ثانية فلا يحكم عليه ، ويقال له : ينتقم الله منك ، كما قال الله ، وقال بهذا القول شريح القاضي وإبراهيم النخعي ومجاهد ، وقال سعيد بن جبير : رخص في قتل الصيد مرة فمن عاد لم يدعه الله حتى ينتقم منه .
قال القاضي أبو محمد : وهذ القول منه رضي الله عنه وعظ بالآية ، وهو مع ذلك يرى أن يحكم عليه في العودة ويكفر ، لكنه خشي مع ذلك بقاء النقمة ، وقال ابن زيد : معنى الآية { عفا الله عما سلف } لكم أيها المؤمنون من قتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم ، قال وأما من عاد فقتل الصيد وهو عالم بالحرمة متعمد للقتل فهذا لا يحكم عليه ، وهو موكول إلى نقمة الله ، ومعنى قوله { متعمداً } في صدر الآية أي متعمداً للقتل ناسياً للحرمة .
قال القاضي أبو محمد : وقد تقدم ذكر هذا الفصل ، قال الطبري : وقال قوم : هذه الآية مخصوصة في شخص بعينه وأسند إلى زيد بن المعلى أن رجلاً أصاب وهو محرم فُتجوز له عنه ثم عاد فأرسل الله عليه ناراً فأحرقته ، فذلك قوله تعالى : { ومن عاد فينتقم الله منه } وقوله تعالى : { والله عزيز ذو انتقام } تنبيه على صفتين تقتضي{[4724]} خوف من له بصيرة ، ومن خاف ازدجر ، ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل{[4725]} .
استئناف لبيان آية : { ليبلونّكم الله بشيء من الصيد } [ المائدة : 94 ] أو لنسخ حكمها أن كانت تضمّنت حكماً لم يبق به عمل . وتقدّم القول في معنى { وأنتم حرم } في طالع هذه السورة [ المائدة : 1 ] .
واعلم أنّ الله حرّم الصيد في حالين : حال كون الصائد محرِماً ، وحال كون الصيد من صيد الحرم ، ولو كان الصائد حلالاً ؛ والحكمة في ذلك أنّ الله تعالى عظّم شأن الكعبة من عهد إبراهيم عليه السلام وأمره بأن يتّخذ لها حرَماً كما كان الملوك يتّخذون الحِمى ، فكانت بيت الله وحماه ، وهو حرم البيت محترماً بأقصى ما يعدّ حرمة وتعظيماً فلذلك شرع الله حرماً للبيت واسعاً وجعل الله البيت أمناً للناس ووسّع ذلك الأمن حتى شمل الحيوان العائش في حرمه بحيث لا يرى الناس للبيت إلاّ أمنا للعائذ به وبحرمه . قال النابغة :
والمؤمنِ العائذاتِ الطيرَ يمسحُها *** رُكبانُ مكَّةَ بين الغِيل فالسَّنَد
فالتحريم لصيد حيوان البرّ ، ولم يحرّم صيد البحر إذ ليس في شيء من مساحة الحرم بحر ولا نهر . ثم حُرّم الصيد على المحرم بحجّ أو عمرة ، لأنّ الصيد إثارة لبعض الموجودات الآمنة . وقد كان الإحرام يمنع المحرمين القتال ومنعوا التقاتل في الأشهر الحرم لأنها زمن الحج والعمرة فألحق مثل الحيوان في الحرمة بقتل الإنسان ، أو لأنّ الغالب أنّ المحرم لا ينوي الإحرام إلاّ عند الوصول إلى الحرم ، فالغالب أنَّه لا يصيد إلاّ حيوان الحرم .
والصيد عامّ في كلّ ما شأنه أن يصاد ويقتل من الدوابّ والطير لأكله أو الانتفاع ببعضه . ويلحق بالصيد الوحوش كلّها . قال ابن الفرس : والوحوش تسمّى صيداً وإن لم تُصد بعدُ ، كما يقال : بئس الرميَّة الأرنب ، وإن لم ترم بعد . وخصّ من عمومه ما هو مضرّ ، وهي السباع المؤذية وذوات السموم والفأر وسباع الطير . ودليل التخصيص السنّة . وقصد القتل تبع لتذكّر الصائد أنّه في حال إحرام ، وهذا مورد الآية ، فلو نسي أنّه محرم فهو غير متعمّد ، ولو لم يقصد قتله فأصابه فهو غير متعمّد . ولا وجه ولا دليل لمن تأوّل التعمّد في الآية بأنّه تعمّد القتل مع نسيان أنّه محرم .
وقوله : { وأنْتم حُرُم } حُرُم جمع حرام ، بمعنى مْحرم ، مثل جمع قذال على قذل ، والمحرم أصله المتلبِّس بالإحرام بحجّ أو عمرة . ويطلق المحرم على الكائن في الحرم . قال الراعي :
قتلوا ابنَ عفّان الخليفةَ مُحْرماً
أي كائناً في حرم المدينة . فأمّا الإحرام بالحجّ والعمرة فهو معلوم ، وأمّا الحصول في الحرم فهو الحلول في مكان الحرم من مكة أو المدينة . وزاد الشافعي الطائف في حرمة صيده لا في وجوب الجزاء على صائده . فأمّا حرم مكة فيحرم صيده بالاتّفاق . وفي صيده الجزاء . وأمّا حرم المدينة فيحرم صيده ولا جزاء فيه ، ومثله الطائف عند الشافعي .
وحرم مكة معلوم بحدود من قبل الإسلام ، وهو الحرم الذي حرّمه إبراهيم عليه السلام ووضعت بحدوده علامات في زمن عمر بن الخطاب . وأمّا حرم المدينة فقال النبي صلى الله عليه وسلم " المدينة حرم من ما بين عيَر أو عائر ( جبل ) إلى ثور " قيل : هو جبل ولا يعرف ثور إلاّ في مكة . قال النووي : أكثر الرواة في كتاب « البخاري » ذكروا عيَراً ، وأمّا ثور فمنهم من كنّى عنه فقال : من عير إلى كذا ، ومنهم من ترك مكانه بياضاً لأنّهم اعتقدوا ذكر ثور هنا خطأ . وقيل : إنّ الصواب إلى أحُد كما عند أحمد والطبراني . وقيل : ثور جبل صغير وراء جبل أحُد .
وقوله : { ومن قتله منكم } الخ ، ( مَن ) اسم شرط مبتدأ ، و { قتله } فعل الشرط ، و { منكم } صفة لاسم الشرط ، أي من الذين آمنوا . وفائدة إيراد قوله { منكم } أعرض عن بيانها المفسّرون . والظاهر أنّ وجه إيراد هذا الوصف التنبيه على إبطال فعل أهل الجاهلية ، فمن أصاب صيدا في الحرم منهم كانوا يضربونه ويسلبونه ثيابه ، كما تقدّم آنفاً .
وتعليق حكم الجزاء على وقوع القتل يدلّ على أنّ الجزاء لا يجب إلاّ إذا قتل الصيد ، فأمّا لو جرحه أو قطع منه عضوا ولم يقتله فليس فيه جزاء ، ويدلّ على أنّ الحكم سواء أكل القاتل الصيد أو لم يأكله لأنّ مناط الحكم هو القتل .
وقوله { متعمّداً } قيد أخرج المخطىء ، أي في صيده . ولم تبيّن له الآية حكماً لكنّها تدلّ على أنّ حكمه لا يكون أشدّ من المتعمّد فيحتمل أن يكون فيه جزاء آخر أخفّ ويحتمل أن يكون لا جزاء عليه وقد بيّنته السنّة . قال الزهري : نزل القرآن بالعمد وجرت السنّة في الناسي والمخطىء أنّهما يكفّران . ولعلّه أراد بالسنّة العمل من عهد النبوءة والخلفاء ومضى عليه عمل الصحابة . وليس في ذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقال مالك ، وأبو حنيفة ، والشافعي ، وجمهور فقهاء الأمصار : إنّ العمد والخطأ في ذلك سواء ، وقد غلَّب مالك فيه معنى الغُرم ، أي قاسه على الغُرم . والعمد والخطأ في الغرم سواء فلذلك سوّى بينهما . ومضى بذلك عمل الصحابة .
وقال أحمد بن حنبل ، وابن عبد الحكم من المالكية ، وداوود الظاهري ، وابن جبير وطاووس ، والقاسم بن محمد ، وسالم بن عبد الله ، وعطاء ، ومجاهد : لا شيء على الناسي . وروي مثله عن ابن عباس .
وقال مجاهد ، والحسن ، وابن زيد ، وابن جريج : إن كان متعمّداً للقتل ناسياً إحرامه فهو مورد الآية ، فعليه الجزاء . وأمّا المتعمّد للقتل وهو ذاكر لإحرامه فهذا أعظم من أن يكفّر وقد بطل حجّه ، وصيده جيفة لا يؤكل .
والجزاء العوض عن عمل ، فسمّى الله ذلك جزاء ، لأنّه تأديب وعقوبة إلاّ أنّه شرع على صفة الكفّارات مثل كفارة القتل وكفارة الظهار .
وليس القصد منه الغرم إذ ليس الصيد بمنتفع به أحد من الناس حتى يغرَم قَاتله ليجبر ما أفاته عليه . وإنّما الصيد ملك الله تعالى أباحه في الحلّ ولم يبحه للناس في حال الإحرام ، فمن تعدّى عليه في تلك الحالة فقد فرض الله على المتعدّي جزاء . وجعله جزاء ينتفع به ضعاف عبيده .
وقد دلّنا على أنّ مقصد التشريع في ذلك هو العقوبة قولُه عقبه { ليذوق وبال أمره } . وإنّما سمّي جزاء ولم يسمّ بكفّارة لأنّه روعي فيه المماثلة ، فهو مقدّر بمثل العمل فسمّي جزاء ، والجزاء مأخوذ فيه المماثلة والموافقة قال تعالى : { جزاءاً وفاقاً } [ النبأ : 26 ] .
وقد أخبر أنّ الجزاء مثل ما قتل الصائد ، وذلك المثل من النعم ، وذلك أنّ الصيد إمّا من الدوابّ وإمّا من الطير ، وأكثر صيد العرب من الدوابّ ، وهي الحمر الوحشية وبقر الوحش والأروى والظباء ومن ذوات الجناح النعام والإوز ، وأمّا الطير الذي يطير في الجوّ فنادر صيده ، لأنّه لا يصاد إلاّ بالمعراض ، وقلّما أصابه المعراض سوى الحمام الذي بمكة وما يقرب منها ، فمماثلة الدوابّ للأنعام هيّنة . وأمّا مماثلة الطير للأنعام فهي مقاربة وليست مماثلة ؛ فالنعامة تقارب البقرة أو البدنة ، والإوز يقارب السخلة ، وهكذا . وما لا نظير له كالعصفور فيه القيمة . وهذا قول مالك والشافعي ومحمد بن الحسن . وقال أبو حنيفة وأبو يوسف : المثل القيمة في جميع ما يصاب من الصيد . والقيمة عند مالك طعام . وقال أبو حنيفة : دارهم . فإذا كان المصير إلى القيمة ؛ فالقيمة عند مالك طعام يتصدّق به ، أو يصوم عن كلّ مدّ من الطعام يوماً ، ولكسر المدّ يوماً كاملاً . وقال أبو حنيفة : يشتري بالقيمة هدياً إن شاء ، وإن شاء اشترى طعاماً ، وإن شاء صام عن كلّ نصف صاع يوماً .
وقد اختلف العلماء في أنّ الجزاء هل يكون أقلّ ممّا يجزىء في الضحايا والهدايا . فقال مالك : لا يجزىء أقل من ثني الغنم أو المعز لأنّ الله تعالى قال : { هدياً بالغ الكعبة } . فما لا يجزىء أن يكون هدياً من الأنعام لا يكون جزاء ، فمن أصاب من الصيد ما هو صغير كان مخيّراً بين أن يعطي أقلّ ما يجزي من الهدي من الأنعام وبين أن يعطي قيمة ما صاده طعاماً ولا يعطي من صغار الأنعام .
وقال مالك في « الموطأ » : وكلّ شيء فدي ففي صغاره مثل ما يكون في كباره . وإنّما مثل ذلك مثل دية الحرّ الصغير والكبير بمنزلة واحدة . وقال الشافعي وبعض علماء المدينة : إذا كان الصيد صغيراً كان جزاؤه ما يقاربه من صغار الأنعام لما رواه مالك في « الموطأ » عن أبي الزبير المكّي أنّ عمر بن الخطاب قضى في الأرنب بعَناق وفي اليربوع بجفرة . قال الحفيد ابن رشد في كتاب « بداية المجتهد » : وذلك ما روي عن عمر ، وعثمان ، وعلي ، وابن مسعود اهـ .
وأقول : لم يصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء ، فأمّا ما حكم به عمر فلعلّ مالكاً رآه اجتهاداً من عمر لم يوافقه عليه لظهور الاستدلال بقوله تعالى : { هديا بالغ الكعبة } . فإنّ ذلك من دلالة الإشارة ، ورأى في الرجوع إلى الإطعام سعة ، على أنّه لو كان الصيد لا مماثل له من صغار الأنعام كالجرادة والخنفساء لوجب الرجوع إلى الإطعام ، فليرجع إليه عند كون الصيد أصغر ممّا يماثله ممّا يجزىء في الهدايا . فمن العجب قول ابن العربي : إنّ قول الشافعي هو الصحيح ، وهو اختيار علمائنا . ولم أدر من يعنيه من علمائنا فإنّي لا أعرف للمالكية مخالفاً لمالك في هذا . والقول في الطير كالقول في الصغير وفي الدوابّ ، وكذلك القول في العظيم من الحيوان كالفيل والزرافة فيرجع إلى الإطعام . ولمّا سمّى الله هذا جزاء وجعله مماثلاً للمصيد دلّنا على أنّ من تكرّر منه قتل الصيد وهو محرم وجب عليه جزاء لكلّ دابّة قتلها ، خلافاً لداوود الظاهري ، فإنّ الشيئين من نوع واحد لا يماثلهما شيء واحد من ذلك النوع ، ولأنه قد تقتل أشياء مختلفة النوع فكيف يكون شيء من نوع مماثلاً لجميع ما قتله .
وقرأ جمهور القرّاء { فجزاء مثل ما قتل } بإضافة { جزاء } إلى { مثل } ؛ فيكون { جزاء } مصدراً بدلاً عن الفعل ، ويكون { مثلُ ما قتل } فاعل المصدر أضيف إليه مصدره . و { من النعم } بيان المثل لا ل { مَا قتَلَ } . والتقدير : فمثل ما قتل من النعم يجزىء جزاء ما قتله ، أي يكافىء ويعوّض ما قتله . وإسناد الجزاء إلى المثل إسناد على طريقة المجاز العقلي . ولك أن تجعل الإضافة بيانية ، أي فجزاء هو مثل ما قتل ، والإضافة تكون لأدنى ملابسة . ونظيره قوله تعالى : { فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا } [ سبأ : 37 ] . وهذا نظم بديع على حدّ قوله تعالى : { ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة } [ النساء : 92 ] ، أي فليحرّر رقبة . وجعله صاحب « الكشاف » من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي فليجز مثلَ ما قتلَ . وهو يقتضي أن يكون النعم هو المعوّض لا العوض لأنّ العوض يتعدّى إليه فعل ( جزى ) بالباء ويتعدّى إلى المعوّض بنفسه . تقول : جزيْت ما أتلفتُه بكذا درهماً ، ولا تقول : جزيْت كذا درهماً بما أتلفته ، فلذلك اضطرّ الذين قدّروا هذا القول إلى جعل لفظ ( مثل ) مقحماً . ونظّروه بقولهم : « مثلك لا يبخل » ، كما قال ابن عطية وهو معاصر للزمخشري . وسكت صاحب « الكشاف » عن الخوض في ذلك وقرّر القطب كلام « الكشاف » على لزوم جعل لفظ { مثل } مقحماً وأنّ الكلام على وجه الكناية ، يعني نظير { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] وكذلك ألزمه إياه التفتزاني ، واعتذر عن عدم التصريح به في كلامه بأنّ الزمخشري بصدد بيان الجزاء لا بصدد بيان أنّ عليه جزاء ما قتل . وهو اعتذار ضعيف .
فالوجه أن لا حاجة إلى هذا التقدير من أصله . وقد اجترأ الطبري فقال : أن لا وجه لقراءة الإضافة وذلك وهم منه وغفلة من وجوه تصاريف الكلام العربي .
وقرأ عاصم ، وحمزة ، ويعقوب ، والكسائي ، وخلف { فجزاءٌ مثلُ } بتنوين ( جزاء ) . ورفع ( مثل ) على تقدير : فالجزاء هو مثلُ ، على أنّ الجزاء مصدر أطلق على اسم المفعول ، أي فالمَجزي به المقتول مثلُ ما قتله الصائد .
وقوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } جملة في موضع الصفة ل { جواء } أو استئناف بياني ، أي يحكم بالجزاء ، أي بتعيينه . والمقصد من ذلك أنّه لا يبلغ كلّ أحد معرفة صفة المماثلة بين الصيد والنعم فوكل الله أمر ذلك إلى الحكمين . وعلى الصائد أن يبحث عمّن تحقّقت فيه صفة العدالة والمعرفة فيرفع الأمر إليهما . ويتعيّن عليهما أن يجيباه إلى ما سأل منهما وهما يُعيّنان المثل ويخيّرانه بين أن يعطي المثل أو الطعام أو الصيام ، ويقدّران له ما هو قَدر الطعام إن اختاره .
وقد حكم من الصحابة في جزاء الصيد عمر مع عبد الرحمان بن عوف ، وحكم مع كعب بن مالك ، وحكم سعد بن أبي وقاص مع عبد الرحمان بن عوف ، وحكم عبد الله بن عمر مع ابن صفوان . ووُصف { ذوا عدل } بقوله : { منكم } أي من المسلمين ، للتحذير من متابعة ما كان لأهل الجاهلية من عمل في صيد الحرم فلعلَّهم يدّعون معرفة خاصّة بالجزاء .
وقوله : { هدياً بالغ الكعبة } حال من { مثل ما قتل } ، أو من الضمير في ( به ) . والهدي ما يذبح أو ينحر في منحر مكة . والمنحر : منى والمروة . ولما سمّاه الله تعالى { هدياً } فله سائر أحكام الهدي المعروفة . ومعنى { بالغ الكعبة } أنّه يذبح أو ينحر في حرم الكعبة ، وليس المراد أنّه ينحر أو يذبح حول الكعبة .
وقوله : { أو كفّارة طعام مساكين } عطف على { فجزاء } وسمّى الإطعام كفّارة لأنّه ليس بجزاء ، إذ الجزاء هو العوض ، وهو مأخوذ فيه المماثلة . وأمّا الإطعام فلا يماثل الصيد وإنّما هو كفارة تكفّر به الجريمة . وقد أجمل الكفارة فلم يبيّن مقدار الطعام ولا عدد المساكين . فأمّا مقدار الطعام فهو موكول إلى الحكمين ، وقد شاع عن العرب أنّ المدّ من الطعام هو طعام رجل واحد ، فلذلك قدّره مالك بمدّ لكلّ مسكين . وهو قول الأكثر من العلماء . وعن ابن عباس : تقدير الإطعام أن يقوّم الجزاء من النعم بقيمته دراهم ثم تقوّم الدراهم طعاماً . وأمّا عدد المساكين فهو ملازم لعدد الأمداد . قال مالك : أحسن ما سمحت إليَّ فيه أنه يقوّم الصيد الذي أصاب وينظر كم ثمن ذلك من الطعام ، فيطعم مدّاً لكلّ مسكين . ومن العلماء من قدّر لكلّ حيوان معادلاً من الطعام . فعن ابن عباس : تعديل الظبي بإطعام ستة مساكين ، والأيل بإطعام عشرين مسكيناً ، وحمار الوحش بثلاثين ، والأحسن أنّ ذلك موكول إلى الحكمين .
و { أو } في قوله { أو كفارة طعام مساكين } وقوله : { أو عدل ذلك } تقتضي تخيير قاتل الصيد في أحد الثلاثة المذكورة . وكذلك كل أمر وقع ب« أو » في القرآن فهو من الواجب المخيّر . والقول بالتخيير هو قول الجمهور ، ثم قيل : الخيار للمحكوم عليه لا للحكمين . وهو قول الجمهور من القائلين بالتخيير ، وقيل : الخيار للحكمين . وقال به الثوري ، وابن أبي ليلى ، والحسن . ومن العلماء من قال : إنّه لا ينتقل من الجزاء إلى كفّارة الطعام إلاّ عند العجز عن الجزاء ، ولا ينتقل عن الكفّارة إلى الصوم إلاّ عند العجز عن الإطعام ، فهي عندهم على الترتيب . ونسب لابن عباس .
وقرأ نافع ، وابن عامر ، وأبو جعفر { كفّارةُ } بالرفع بدون تنوين مضافاً إلى طعام كما قرأ { جزاءُ مثلِ ما قتلَ } . والوجه فيه إمَّا أن نجعله كوجه الرفع والإضافة في قوله تعالى : { فجزاء مثلِ ما قتل } فنجعل { كفارة } اسم مصدر عوضاً عن الفعل وأضيف إلى فاعله ، أي يكفّره طعامُ مساكين ؛ وإمّا أن نجعله من الإضافة البيانية ، أي كفّارة من طعام ، كما يقال : ثوبُ خزّ ، فتكون الكفّارة بمعنى المكفَّر به لتصحّ إضافة البيان ، فالكفّارة بيّنها الطعام ، أي لا كفّارة غيره فإنّ الكفّارةُ تقع بأنواع . وجزم بهذا الوجه في « الكشاف » ، وفيه تكلَّف . وقرأه الباقون بتنوين { كفارةٌ } ورفع { طعامُ } على أنّه بدل من { كفارة } .
وقوله { أو عدْل ذلك صياماً } عطف على { كفّارة } والإشارة إلى الطعام . والعَدل بفتح العين ما عادل الشيء من غير جنسه . وأصل معنى العدل المساواة . وقال الراغب : إنّما يكون فيما يدرك بالبصيرة كما هنا . وأما العدل بكسر العين ففي المحسوسات كالموزونات والمكيلات ، وقيل : هما مترادفان . والإشارة بقوله : { ذلك } إلى { طعام مساكين } . وانتصب { صياماً } على التمييز لأنّ في لفظ العدْل معنى التقدير .
وأجملت الآية الصيام كما أجملت الطعام ، وهو موكول إلى حكم الحكمين . وقال مالك والشافعي : يصوم عن كلّ مدّ من الطعام يوماً . وقال أبو حنيفة : عن كلّ مُدَّين يوماً ، واختلفوا في أقصى ما يصام ؛ فقال مالك والجمهور : لا ينقص عن أعداد الأمداد أياماً ولو تجاوز شهرين ، وقال بعض أهل العلم : لا يزيد على شهرين لأنّ ذلك أعلى الكفارات . وعن ابن عباس : يصوم ثلاثة أيام إلى عشرة .
وقوله { ليذوق } متعلّق بقوله { فجزاء } ، واللاّم للتعليل ، أي جُعل ذلك جزاء عن قتله الصيد ليذوق وبال أمره .
والذوق مستعار للإحساس بالكدر . شبّه ذلك الإحساس بذوق الطعم الكريه كأنهم رَاعَوا فيه سُرعة اتّصال ألمه بالإدراك ، ولذلك لم نجعله مجازاً مرسلاً بعلاقة الإطلاق إذ لا داعي لاعتبار تلك العلاقة ، فإنّ الكدر أظهر من مطلق الإدراك . وهذا الإطلاق معتنى به في كلامهم ، لذلك اشتهر إطلاق الذوق على إدراك الآلام واللذّات . ففي القرآن { ذق إنّك أنت العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ، { لا يذوقون فيها الموت } [ الدخان : 56 ] . وقال أبو سفيان يوم أحد مخاطباً جثّة حمزة « ذق عُقق » . وشهرة هذه الاستعارة قاربت الحقيقة ، فحسن أن تبنى عليها استعارة أخرى في قوله تعالى : { فأذاقها الله لباس الجوع والخوف } [ النحل : 112 ] .
والوبال السوء وما يُكره إذا اشتدّ ، والوبيل القوي في السوء { فأخذناه أخذاً وبيلا } [ المزمل : 16 ] . وطعام وبيل : سيّء الهضم ، وكلأ وبيل ومستوبل ، تستولبه الإبل ، أي تستوخمه . قال زهير :
إلى كَلأٍ مُسْتَوْبِل مُتَوَخَّمِ
والأمر : الشأن والفعل ، أي أمر من قتل الصيد متعمّداً . والمعنى ليجد سوء عاقبة فعله بما كلّفه من خسارة أو من تعب .
وأعقب اللّهُ التهديد بما عوّد به المسلمين من الرأفة فقال : { عفا الله عمّا سلف } ، أي عفا عمّا قتلتم من الصيد قبل هذا البيان ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم فالله ينتقم منه .
والانتقام هو الذي عُبّر عنه بالوبال من قبلُ ، وهو الخسارة أو التعب ، ففهم منه أنه كلّما عاد وجب عليه الجزاء أو الكفارة أو الصوم ، وهذا قول الجمهور . وعن ابن عباس ، وشريح ، والنخعي ، ومجاهد ، وجابر بن زيد : أنّ المتعمّد لا يجب عليه الجزاء إلاّ مرة واحدة فإن عاد حقّ عليه انتقام العذاب في الآخرة ولم يقبل منه جزاء . وهذا شذوذ .
ودخلت الفاء في قوله : { فينتقم الله منه } مع أنّ شأن جواب الشرط إذا كان فعلاً أن لا تدخل عليه الفاء الرابطة لاستغنائه عن الربط بمجرّد الاتّصال الفعلي ، فدخول الفاء يقع في كلامهم على خلاف الغالب ، والأظهر أنّهم يرمون به إلى كون جملة الجواب اسمية تقديراً فيرمزون بالفاء إلى مبتدأ محذوف جُعل الفعل خبراً عنه لقصد الدلالة على الاختصاص أو التقوّي ، فالتقدير : فهو ينتقم الله منه ، لقصد الاختصاص للمبالغة في شدّة ما يناله حتى كأنّه لا ينال غيره ، أو لقصد التقوّي ، أي تأكيد حصول هذا الانتقام . ونظيره { فمن يؤمن بربّه فلا يخافُ بخساً ولا رهقاً } [ الجن : 13 ] فقد أغنت الفاء عن إظهار المبتدإ فحصل التقوّي مع إيجاز . هذا قول المحقّقين مع توجيهه ، ومن النحاة من قال : إنّ دخول الفاء وعدمه في مثل هذا سواء ، وإنّه جاء على خلاف الغالب .
وقوله : { والله عزيز ذو انتقام } تذييل . والعزيز الذي لا يحتاج إلى ناصر ، ولذلك وُصف بأنّه ذو انتقام ، أي لأنّ من صفاته الحكمة ، وهي تقتضي الانتقام من المفسد لتكون نتائج الأعمال على وفقها .