قوله تعالى : { ومنهم أميون } . أي من اليهود أميون لا يحسنون القراءة والكتابة ، جمع أمي ، منسوب إلى الأم كأنه باق على ما انفصل من الأم لم يتعلم كتابة ولا قراءة . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنا أمة أمية " لا نكتب ولا نحسب وقيل : هو منسوب إلى أم القرى وهي مكة .
قوله تعالى : { لا يعلمون الكتاب إلا أماني } . قرأ أبو جعفر : أماني بتخفيف الياء ، كل القرآن حذف إحدى الياءين تخفيفاً ، وقراءة العامة بالتشديد ، وهي جمع الأمنية وهي التلاوة ، قال الله تعالى : { إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته } أي في قراءته .
قال أبو عبيدة : إلا تلاوته وقراءة عن ظهر القلب لا يقرؤونه من كتاب ، وقيل : يعلمونه حفظاً وقراءة لا يعرفون معناه . وقال ابن عباس : يعني غير عارفين بمعاني الكتاب ، وقال مجاهد وقتادة : إلا كذباً وباطلاً ، قال الفراء : الأماني : الأحاديث المفتعلة ، قال عثمان رضي الله عنه : ما تمنيت منذ أسلمت أي ما كذبت ، وأراد بها الأشياء التي كتبها علماؤهم من عند أنفسهم ثم أضافوها إلى الله من تغيير نعت النبي صلى الله عليه وسلم وغيره ، وقال الحسن و أبو العالية : هي من التمني ، وهي أمانيهم الباطلة التي يتمنونها على الله عز وجل مثل قولهم : { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى } وقولهم : { لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة } وقولهم :{ نحن أبناء الله وأحباؤه } فعلى هذا لا يكون بمعنى لكن أي لا يعلمون الكتاب لكن يتمنون أشياء يحصل لهم .
قوله تعالى : { وإن هم } . وما هم .
قوله تعالى : { إلا يظنون } . يعني وما يظنون إلا ظناً وتوهماً لا يقيناً ، قاله قتادة والربيع ، وقال مجاهد : يكذبون .
{ وَمِنْهُمْ } أي : من أهل الكتاب { أُمِّيُّونَ } أي : عوام ، ليسوا من أهل العلم ، { لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ } أي : ليس لهم حظ من كتاب الله إلا التلاوة فقط ، وليس عندهم خبر بما عند الأولين الذين يعلمون حق المعرفة حالهم ، وهؤلاء إنما معهم ظنون وتقاليد لأهل العلم منهم .
فذكر في هذه الآيات علماءهم ، وعوامهم ، ومنافقيهم ، ومن لم ينافق منهم ، فالعلماء منهم متمسكون بما هم عليه من الضلال ، والعوام مقلدون لهم ، لا بصيرة عندهم فلا مطمع لكم في الطائفتين .
ثم بين القرآن الكريم بعد ذلك حال عوام اليهود ومقلديهم ، بعد أن بين حال علمائهم ومنافقيهم فقال تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } أي : ومن اليهود قوم أميون لا يحسنون الكتابة ، ولا يعلمون من كتابهم التوراة سوى أكاذيب اختلقها لهم علماؤهم أو أمنيات باطلة يقدرونها في أنفسهم بدون حق ، أو قراءات عارية عن التدبر والفهم ، وقصارى أمرهم الظن من غير أن يصلوا إلى مرتبة اليقين المبني على البرهان القاطع والدليل الساطع .
فالآية الكريمة فيها زيادة تيئيس للمؤمنين من إيمان كافة اليهود بفرقهم المختلفة . فإنهم قد وصلوا إلى حال من الشناعة لا مطمع معها في هداية ، فعلماؤهم محرفون لكتاب الله على حسب أهوائهم وشهواتهم ، وعوامهم لا يعرفون من كتابهم إلا الأكاذيب والأوهام التي وضعها لهم أحبارهم ، وأمة هذا شأن علمائها وعوامها لا ينتظر منها أن تستجيب للحق أو أن تقبل على الصراط المستقيم .
و ( الأماني ) - بالتشديد - جمع أمنية ، مأخوذة من تمنَّى الشيء أي : أحب أن يحصل عليه ، أو من تمنى إذا كذب ، أو من تمنى الكتاب أي قرأه .
فإن فسرنا الأماني بالأول كان قوله تعالى { إِلاَّ أَمَانِيَّ } معناه : إلا ما هم عليه من أمانيهم في أن الله لا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، وأن النار لن تمسهم إلا أياماً معدودات .
وإن فسرناها بالكذب ، كان قوله تعالى : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } معناه : إلا ما يقرءونه من قراءات خالية من التدبر ، وعارية عن الفهم . من قوله تمنى كتاب الله أول ليله . . . أي قرأ .
هذا ، وقد رجح ابن جرير تفسير ( الأماني ) بالأكاذيب فقال : ما ملخصه " وأولى ما روينا في تأويل قوله تعالى : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } بالصواب ، أن هؤلاء الأميين لا يفقهون من الكتاب الذي أنزله الله على موسى شيئاً ، ولكنهم يتخرصون الكذب ، ويتقولون الأباطيل كذباً وزوراً ، والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه وافتعاله بدليل قوله تعالى بعد { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } فأخبر عنهم أنهم يتمنون ما يتمنون من الأكاذيب ظناً منهم لا يقيناً " .
والذي نراه أن المعاني الثلاثة للأماني تنطبق على اليهود ، وكلها حصلت منهم ؛ وما دام يصدق عليهم المعاني الثلاثة لغة فجميعها مرادة من الآية ، ولا معنى لأن نشتغل بترجيح بعضها على بعض كما فعل ابن جرير وغيره .
وعلى أي تفسير من هذه التفاسير للأماني ، فالاستثناء منقطع ، لأن أي واحد من هذه المعاني ليس من علم الكتاب الحقيقي في شيء .
وفي قوله تعالى : { وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } زيادة تجهيل لهم ، لأن أمنياتهم هذه من باب الأوهام التي لا تستند إلى دليل أو شبه دليل ، أو من باب الظن الذي هو ركون النفس إلى وجه من وجهين يحتملهما الأمر دون أن تبلغ في ذلك مرتبة القطع واليقين . وهذا النوع من العلم لا يكفي في معرفة أصول الدين التي يقوم عليها الإِيمان العميق ، فهم ليسوا على علم يقيني من أمور دينهم ، وإنما هم يظنونها ظناً بدون استيقان ، والظن لا يغني من الحق شيئاً .
ثم يستطرد يقص على المسلمين من أحوال بني إسرائيل : إنهم فريقان . فريق أمي جاهل ، لا يدري شيئا من كتابهم الذي نزل عليهم ، ولا يعرف منه إلا أوهاما وظنونا ، وإلا أماني في النجاة من العذاب ، بما أنهم شعب الله المختار ، المغفور له كل ما يعمل وما يرتكب من آثام ! وفريق يستغل هذا الجهل وهذه الأمية فيزور على كتاب الله ، ويحرف الكلم عن مواضعه بالتأويلات المغرضة ، ويكتم منه ما يشاء ، ويبدي منه ما يشاء ويكتب كلاما من عند نفسه يذيعه في الناس باسم أنه من كتاب الله . . كل هذا ليربح ويكسب ، ويحتفظ بالرياسة والقيادة :
( ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني وإن هم إلا يظنون ، فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ، ثم يقولون : هذا من عند الله ، ليشتروا به ثمنا قليلا . فويل لهم مما كتبت أيديهم ، وويل لهم مما يكسبون ) . .
{ ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب } جهلة لا يعرفون الكتابة فيطالعوا التوراة ، ويتحققوا ما فيها . أو التوراة { إلا أماني } استثناء منقطع . والأماني : جمع أمنية وهي في الأصل ما يقدره الإنسان في نفسه من منى إذا قدر ، ولذلك تطلق ، على الكذب وعلى ما يتمنى وما يقرأ والمعنى لكن يعتقدون أكاذيب أخذوها تقليدا من المحرفين أو مواعيد فارغة . سمعوها منهم من أن الجنة لا يدخلها إلا من كان هودا ، وأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودة . وقيل إلا ما يقرأون قراءة عارية عن معرفة المعنى وتدبره من قوله :
تمنى كتاب الله أول ليله *** تمني داود الزبور على رسل
وهو لا يناسب وصفهم بأنهم أميون . { وإن هم إلا يظنون } ما هم إلا قوم يظنون لا علم لهم ، وقد يطلق الظن بإزاء العلم على كل رأي واعتقاد من غير قاطع ، وإن جزم به صاحبه : كاعتقاد المقلد والزائغ عن الحق لشبهة .