ثم أخبر تعالى عن سعة مغفرته ورحمته ، وأنه يغفر الذنوب ، ويتوب الله على من يتوب ، فيتغمده برحمته ، ويشمله بإحسانه ، وأنه لو آخذ{[493]} العباد على ما قدمت أيديهم من الذنوب ، لعجل لهم العذاب ، ولكنه تعالى حليم لا يعجل بالعقوبة ، بل يمهل ولا يهمل ، والذنوب لا بد من وقوع آثارها ، وإن تأخرت عنها مدة طويلة ، ولهذا قال :
{ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا } أي : لهم موعد ، يجازون فيه بأعمالهم ، لا بد لهم منه ، ولا مندوحة لهم عنه ، ولا ملجأ ، ولا محيد عنه ، وهذه سنته في الأولين والآخرين ، أن لا يعاجلهم بالعقاب ، بل يستدعيهم إلى التوبة والإنابة ، فإن تابوا وأنابوا ، غفر لهم ورحمهم ، وأزال عنهم العقاب ، وإلا ، فإن استمروا على ظلمهم وعنادهم ، وجاء الوقت الذي جعله موعدا لهم ، أنزل بهم بأسه ، ولهذا قال : { وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا }
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك ما يدل على سعة رحمته ، وعظيم فضله فقال : { وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } .
أى : وربك - أيها الرسول الكريم - هو صاحب المغفرة الكثيرة ، وصاحب الرحمة التى وسعت كل شئ . لو يؤاخذ الناس بما كسبوا من الذنوب والمعاصى ، لعجل لهم العذاب بسبب ما يرتكبونه من كفر وآثام . ولكنه - سبحانه - لم يعجل لهم العذاب رحمة منه وحلما .
وجملة { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ . . } معطوفة على مقدر ، فكأنه - سبحانه - قال : لكنه - سبحانه - لم يؤاخذهم ، بل جعل وقتا معينا لعذابهم ، لن يجدوا من دون هذا العذاب موئلا .
أى ملجأ يلتجئون إليه ، أو مكانا يعتصمون به .
فالموئل : اسم مكان . يقال : وَأَلَ فلان إلى مكان كذا يَئِل وَأْلاً . . إذا لجأ إليه ليعتصم به من ضر متوقع .
فالآية الكريمة تبين أن الله - تعالى - بفضله وكرمه لا يعاجل الناس . بالعقاب ، ولكنه - عز وجل - ليس غافلا عن أعمالهم ، بل يؤخرهم إلى الوقت الذى تقتضيه حكمته ، لكى يعاقبهم على ما ارتكبوه من ذنوب وآثام .
وفى معنى هذه الآية وردت آيات كثيرة ، منها قوله - تعالى - : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } وقوله - تعالى - : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب }
وقوله : { وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ } أي : ربك{[18302]} - يا محمد - غفور ذو رحمة واسعة ، { لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ } ، كَمَا قَالَ : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ } [ فاطر : 45 ] ، وقال : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ } [ الرعد : 6 ] . والآيات في هذا كثيرة .
ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر ، وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد ، ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد ، وتضع كل ذات حمل حملها ؛ ولهذا قال : { بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا } أي : ليس لهم عنه محيد ولا محيص ولا معدل .
{ وربك الغفور } البليغ المغفرة . { ذو الرّحمة } الموصوف بالرحمة . { لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجّل لهم العذاب } استشهاد على ذلك بإمهال قريش مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم . { بل لهم موعد } وهو يوم بدر أو يوم القيامة . { لن يجدوا من دونه موئلاً } منجاً ولا ملجأ ، يقال وأل إذا نجا ووأل إليه إذا لجأ إليه .
جرى القرآن على عادته في تعقيب الترهيب بالترغيب والعكسِ ، فلما رماهم بقوارع التهديد والوعيد عطف على ذلك التعريضَ بالتذكير بالمغفرة لعلهم يتفكرون في مرضاته ، ثم التذكير بأنه يشمل الخلق برحمته في حين الوعيد فيؤخر ما توعدهم به إلى حد معلوم إمهالاً للناس لعلهم يرجعون عن ضلالهم ويتدبرون فيما هم فيه من نعم الله تعالى فلعلهم يشكرون ، موجهاً الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم مفتتحاً باستحضار الجلالة بعنوان الربوبية للنبيء صلى الله عليه وسلم إيماءً إلى أن مضمون الخبر تكريم له ، كقوله : { وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم } [ الأنفال : 33 ] .
والوجه في نظم الآية أن يكون { الغفور } نعتاً للمبتدأ ويكون { ذو الرحمة } هو الخبر لأنه المناسب للمقام ولما بعده من جملة { لو يؤاخذهم } ، فيكون ذكر { الغفور } إدماجاً في خلال المقصود . فخُص بالذكر من أسماء الله تعالى اسم { الغفور } تعريضاً بالترغيب في الاستغفار .
والغفور : اسم يتضمن مبالغة الغفران لأنه تعالى واسع المغفرة إذ يغفر لمن لا يُحصَون ويغفر ذنوباً لا تُحصى إن جاءه عبده تائباً مقلعاً منكسراً ، على أن إمهاله الكفارَ والعصاةَ هو أيضاً من أثر المغفرة إذ هو مغفرة مؤقتة .
وأما قوله : { ذو الرحمة } فهو المقصود تمهيداً لجملة { لو يؤاخذهم بما كسبوا } ، فلذلك كانت تلك الجملة بياناً لجملة { وربك الغفور ذو الرحمة } باعتبار الغفور الخبر وهو الوصف الثاني .
والمعنى : أنهم فيما كسبوه من الشرك والعناد أحرياء بتعجيل العقوبة لكن الله يمهلهم إلى أمد معلوم مقدر . وفي ذلك التأجيل رحمة بالناس بتمكين بعضهم من مهلة التدارك وإعادة النظر ، وفيه استبْقاؤهم على حالهم زمناً .
فوصف { ذو الرحمة } يساوي وصف ( الرحيم ) لأن ( ذو ) تقتضي رسوخ النسبة بين موصوفها وما تضاف إليه .
وإنما عدل عن وصف ( الرحيم ) إلى { ذو الرحمة } للتنبيه على أنه خبر لا نعت تنبيهاً بطريقة تغيير الأسلوب ، فإن اسم ( الرحيم ) صار شبيهاً بالأسماء الجامدة ، لأنه صيغ بصيغة الصفة المشبهة فبعُد عن ملاحظة الاشتقاق فيه واقترب من صنف الصفة الذاتية .
و ( بل ) للإضراب الإبطالي عن مضمون جواب ( لو ) ، أي لم يعجل لهم العذاب إذْ لهم موعد للعذاب متأخرٌ ، وهذا تهديد بما يحصل لهم يوم بدر .
والموْئل : مَفْعل من وَأَلَ بمعنى لَجَأ ، فهو اسم مكان بمعنى الملْجأ .
وأكد النفي ب ( لن ) رداً على إنكارهم ، إذ هم يحسبون أنهم مفلتون من العذاب حين يرون أنه تأخر مدةً طويلة ، أي لأن لا ملجأ لهم من العذاب دون وقت وَعده أو مكان وَعده ، فهو مَلجؤهم . وهذا من تأكيد الشيء بما يشبه ضده ، أي هم غير مُفلَتِين منه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وربك الغفور}، يعني: إذا تجاوز عنهم في تأخير العذاب عنهم،
{ذو الرحمة}، يعني: ذا النعمة حين لا يعجل بالعقوبة،
{لو يؤاخذهم بما كسبوا} من الذنوب،
{بل} العذاب {لهم موعد}، يعني: ميقاتا يعذبون فيه،
{لن يجدوا من دونه موئلا}، يعني: ملجأ يلجؤون إليه.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وربك الساتر يا محمد على ذنوب عباده بعفوه عنهم إذا تابوا منها "ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا "هؤلاء المعرضين عن آياته إذا ذكروا بها بما كسبوا من الذنوب والآثام، "لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ" ولكنه لرحمته بخلقه غير فاعل ذلك بهم إلى ميقاتهم وآجالهم، "بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ" يقول: لكن لهم موعد، وذلك ميقات محلّ عذابهم...
"لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا" يقول تعالى ذكره: لن يجد هؤلاء المشركون، وإن لم يعجل لهم العذاب في الدنيا من دون الموعد الذي جعلته ميقاتا لعذابهم، ملجأ يلجؤون إليه، ومنجى ينجون معه، يعني أنهم لا يجدون معقلا يعتقلون به من عذاب الله...عن مجاهد، قوله: "مَوْئِلا" قال: محرزا...
عن ابن عباس، قوله: "لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلا": يقول: ملْجأً.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{وربك الغفور ذو الرحمة} يحتمل أن يكون على وجهين:
أحدها: {الغفور} حين ستر عليهم، ولم يعاقبهم وقت عصيانهم. و {ذو الرحمة} يقبل توبتهم، إذا تابوا.
والثاني: {الغفور} إذا استغفروا، وتابوا {ذو الرحمة} يرحمهم، ويتجاوز عنهم ما سبق لهم من الذنوب.
{لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب} في الدنيا.
{بل لهم موعد} قال الحسن: جعل الله لكل أمة، يهلكون هلاكهم، موعدا وأجلا كقوله: {إن موعدهم الصبح} (هود: 81) وقال في آية أخرى: {تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك غير مكذوب} (هود: 65). وجعل موعد هذه الأمة الساعة، وهو قوله: {بل الساعة موعدهم} (القمر: 47). وقال بعض أهل العلم: أهلك الله كل أمة كذبت رسولها لتتعظ الأمة التي تأتي بعدها. وجعل هلاك أمة محمد بالساعة لأنه ليس بعدها أمة تتعظ به.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{الغَفُورُ} لأنه ذو الرحمة، ورحمته الأزلية أوجَبَتْ المغفرة لهم. ويقال {الغَفُورُ}: للعاصين من عباده، و {ذُو الرَّحْمَةِ} بجميعهم فَيُصلح أحوالَ كافتهم. {لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا}: لعجَّل لهم العذابَ؛ أي عَامَلَهم بما استوجبوه من عصيانهم، فعجَّلَ لهم العقوبة، لكنه يؤخرها لمقتضى حكمته، ثم في العاقبة يفعل ما يفعل على قضية إرادته وحكمه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{الغفور} البليغُ المغفرةِ {ذُو الرحمة} الموصوفُ بالرحمة، ثم استشهد على ذلك بترك مؤاخذة أهل مكة عاجلاً من غير إمهالٍ مع إفراطهم في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لمّا أخبر تعالى عن القوم الذين حتم بكفرهم، أنهم لا يهتدون أبداً، عَقَّب ذلك بأنه للمؤمنين، {الغفور ذو الرحمة}، ويتحصل للكفار من صفته تعالى بالغفران والرحمة، ترك المعاجلة، ولو أخذوا بحسب ما يستحقونه لبادرهم بالعذاب المبيد لهم، ولكنه تعالى أخرهم إلى موعد لا يجدون عنه مَنْجىً، قالت فرقة هو أجَل الموت...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا مقتضياً لأخذهم، عطف على ما اقتضاه السياق مما ذكرته من العلة قولَه تعالى: {وربك} مشيراً بهذا الاسم إلى ما اقتضاه الوصف من الإحسان بأخذ من يأخذ منهم وإمهال غيره لحكم دبرها؛ ثم أخبر عنه بما ناسب ذلك من أوصافه فقال: {الغفور} أي هو وحده الذي يستر الذنوب إما بمحوها وإما بالحلم عنها إلى وقت {ذو الرحمة} أي الذي يعامل -وهو قادر- مع موجبات الغضب معاملة الراحم بالإكرام؛ ثم استشهد على ذلك بقوله تعالى: {لو يؤاخذهم} أي هؤلاء الذين عادوك وآذوك، وهو عالم بأنهم لا يؤمنون لو يعاملهم معاملة المؤاخذ {بما كسبوا} حين كسبهم {لعجل لهم العذاب} واحداً بعد واحد، ولكنه لا يعجل لهم ذلك {بل لهم موعد} يحله بهم فيه، ودل على أن موعده ليس كموعد غيره من العاجزين بقوله دالاً على كمال قدرته: {لن يجدوا من دونه} أي الموعد {موئلاً} أي ملجأ ينجيهم منه، فإذا جاء موعدهم أهلكناهم فيه بأول ظلمهم وآخره.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
جرى القرآن على عادته في تعقيب الترهيب بالترغيب والعكسِ، فلما رماهم بقوارع التهديد والوعيد عطف على ذلك التعريضَ بالتذكير بالمغفرة لعلهم يتفكرون في مرضاته، ثم التذكير بأنه يشمل الخلق برحمته في حين الوعيد فيؤخر ما توعدهم به إلى حد معلوم إمهالاً للناس لعلهم يرجعون عن ضلالهم ويتدبرون فيما هم فيه من نعم الله تعالى فلعلهم يشكرون، موجهاً الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم مفتتحاً باستحضار الجلالة بعنوان الربوبية للنبيء صلى الله عليه وسلم إيماءً إلى أن مضمون الخبر تكريم له، كقوله: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم} [الأنفال: 33]...
والمعنى: أنهم فيما كسبوه من الشرك والعناد أحرياء بتعجيل العقوبة لكن الله يمهلهم إلى أمد معلوم مقدر. وفي ذلك التأجيل رحمة بالناس بتمكين بعضهم من مهلة التدارك وإعادة النظر، وفيه استبْقاؤهم على حالهم زمناً...
فوصف {ذو الرحمة} يساوي وصف (الرحيم) لأن (ذو) تقتضي رسوخ النسبة بين موصوفها وما تضاف إليه. وإنما عدل عن وصف (الرحيم) إلى {ذو الرحمة} للتنبيه على أنه خبر لا نعت تنبيهاً بطريقة تغيير الأسلوب، فإن اسم (الرحيم) صار شبيهاً بالأسماء الجامدة، لأنه صيغ بصيغة الصفة المشبهة فبعُد عن ملاحظة الاشتقاق فيه واقترب من صنف الصفة الذاتية...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
وربُّك الغفورُ ذو الرحمة.. {وربُّكَ} عبّر بربّك للإشارة إلى أنه الخالق المُرَبِّي القائمُ على عباده، القَيُّومُ على أمورهم {الغفورُ} الذي من شأنه المغفرةُ لعباده يعفو عن كثيرٍ ولا يأخذ بكل ما فَعلوا، وقُدِّمَت المغفرة على الرحمة، لأن... التطهير مُقدَّمٌ على التجميل،... وقوله تعالى: {ذو الرحمة} و (ذو) بمعنى صاحب، فالمعنى صاحب الرحمة، أي أن الرحمة تلازم ذاتَه العَلِيّةَ وتختص بها، فلا رحمةَ إلا منه، وغيرُه لا رحمة عنده فالله وحده هو الذي يملك الرحمة وما عند غيرِ الله لا يُعَدُّ رحمةً بالنسبة لما عنده، إنما يكون أمرا نسبيا، والرحمة الحقُّ لا تكون إلا من عند الله، فهو خالق الوجود وخالق الرُّحَماء،فكُلُّ رحمةٍ هي منه...
وإنّ من رحمته مغفرتَه، ومن رحمته أنه يُمهل حتى تكون التوبةُ النَّصوحُ، وتوبةُ العبدِ أَحَب ُّإليه، ومغفرتُه أقرب عنده...، ولذا قال سبحانه: {لو يؤاخِذهم بما كَسَبوا لَعَجَّلَ لهم العذابَ} هذه الجملة السامية كالنتيجة لكون الله تعالى غفورا ذا رحمة،... ولأنها نتيجةٌ لِما قبْلها كانت غير متّصِلة بها بالعطف، وعبر سبحانه وتعالى بالماضي في قوله تعالى: {بما كسبوا} للإشارة إلى أنه كثير يكفي لأشد العقاب... {لَعَجَّلَ لهم العذابَ}... وهذا يشير إلى أن أهل مكة ارتكبوا من الشر بالكفر، والإيذاء والفتنة في الدين والاستهزاء بآيات الله وبما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ما يستحقون به أشد العذاب، وأن ينزل بهم ما نزل، ولكن الله سبحانه أراد أن يكون محمد خاتِم النبيين، وأن تكون رسالته دائمة بمن يؤمنون، فلا يُنْزِل سبحانه وتعالى عقابا بهم، ولا يصيب الذين كفروا خاصة، ولذا قال تعالى: {بل لهم موعدٌ لن يجدوا من دونه مَوْئِلاً}... {لن يجدوا من دونه مَوْئِلاً}... فهو نازلٌ بهم في ميقاته،لا خلاصَ لهم منه...
فمِن رحمة الله بالكفار أنه لم يُعاجِلْهم بعذابٍ يستأصلهم، بل أمهلهم وتركهم؛ ... ولاشك أن في إمهالهم في الدنيا حكمةً لله بالغةً، ولعل الله يُخرج من ظُهور هؤلاء من يؤمن به، ومن يَحمل راية الدين ويدافع عنه، وقد حدث هذا كثيراً في تاريخ الإسلام، فمِن ظَهْر أبي جهل جاء عكرمة، وأَمْهَل الله خالد بن الوليد، فكان أعظم قائد في الإسلام...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فغفرانه تعالى يقضي أن يرحم التوابين، ورحمته تقضي أن لا يعجّل عذاب غيرهم، إِذ مِن المحتمل أن يلتحق بعضهم بصفوف التوابين، إِلاَّ أن عدالته تعالى تقتضي مجازاة المذنبين العاصين الظالمين عندما يصل طُغيانهم وتمردهم إلى أقصى درجاته، وعندما يكون بقاء مثل هؤلاء الأفراد الفاسدين المفسدين الذين لا يوجد أمل في إصلاحهم، عبثاً وبدون فائدة، لذا ينبغي تطهير الأرض منهم، ومِن لوث وجودهم.