قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب } يعني : يهود المدينة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : نزلت في رفاعة بن زيد ، ومالك بن دخشم ، كانا إذا تكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لويا لسانهما وعاباه ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . قوله تعالى : { يشترون } يستبدلون .
قوله تعالى : { الضلالة } ، يعني : بالهدى .
قوله تعالى : { ويريدون أن تضلوا السبيل } أي : عن السبيل يا معشر المؤمنين .
{ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ *وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا * مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا }
هذا ذم لمن { أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ } وفي ضمنه تحذير عباده عن الاغترار بهم ، والوقوع في أشراكهم ، فأخبر أنهم في أنفسهم { يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ } أي : يحبونها محبة عظيمة ويؤثرونها إيثار من يبذل المال الكثير في طلب ما يحبه . فيؤثرون الضلال على الهدى ، والكفر على الإيمان ، والشقاء على السعادة ، ومع هذا { يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ } .
وكأن السورة الكريمة بعد أن نظمت المجتمع الإِسلامي هذا التنظيم الداخلى السليم ، أخذت فى تحذير المؤمنين من عدوهم الخارجى ، وأطلعتهم على ما يضمره لهم أهل الكتاب من كراهية وبغضاء .
استمع إلى السورة الكريمة وهى تحكى كى ذلك فتقول : { أَلَمْ تَرَ . . . . بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } .
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ ( 44 ) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ( 45 ) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( 46 ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ( 47 ) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( 48 ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ( 49 ) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا ( 50 ) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا ( 51 ) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا ( 52 ) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا ( 53 ) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آَتَيْنَا آَلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآَتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا ( 54 ) فَمِنْهُمْ مَنْ آَمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا ( 55 )
قال الآلوسى : قوله - تعالى - { أَلَمْ تَرَ } هذه الكلمة قد تذكر لمن تقدم علمه فتكون للتعجب والتقدير والتذكير لمن علم بما يأتى كالأحبار وأهل التواريخ ، وقد تذكر لمن لا يكون كذلك فتكون لتعريفه وتعجيبه . وقد اشتهرت فى ذلك حتى أجريت مجرى المثل فى هذا الياب . بأن شبه حال من لم ير الشئ بحال من رآه فى أنه لا ينبغى أن يخفى عليه وأنه ينبغى أن يتعجب منه ثم أجرى الكلام معه كما يجرى مع من رأى قصدا إلى المبالغة فى شهرته وعراقته فى التعجب - والرؤية إما بمعنى الإِبصار - أى ألم تنظر إليهم ، وإما بمعنى الإِدراك القلبى متضمنا معنى الوصول والانتهاء - أى ألم ينته علمك إليهم .
والمراد ب { الذين } أحبار اليهود . والمراد بالذى أوتوه ما بين لهم فى الكتاب من العلوم والأحكام التى من جملتها ما علموه من نعوت النبى صلى الله عليه وسلم ومن حقية دين الإِسلام بالاتباع .
والمرد بالكتاب : التوراة التى أنزلها الله - تعالى - على موسى عليه السلام - ليكون هداية لبنى إسرائيل ، فحرفوها تركوا العمل بها .
والمراد بالسبيل : الطريق المستقيم وهو طريق الإِسلام فأل فيه للعهد .
والمعنى : ألم ينته علمك إلى حال هؤلاء الأحبار من اليهود الذين أعطوا حظا ومقدارا من علم التوراة ؟ إن كنت لم تعلم أحوالهم أو لم تنظر إليهم فهاك خبرهم وتلك هى حقيقتهم ، إنهم يشترون الضلالة وهو البقاء على اليهودية بعد وضوح الآيات لهم الدالة على صحة دين الإِسلام ، وهم لا يكتفون بتلبسهم بالضلال الذى أشربته نفوسهم ، بل يرديون لكم يا معشر المسلمين أن تتكروا دين الإِسلام الذى هو السبيل الحق ، وأن تتبعوه فى ضلالهم وكفرهم .
فالمقصود من الآية الكريمة تعجيب المؤمنين من سوء أحوال أولئك الأحبار ، وتحذير لهم من موالاتهم أو من الاستماع إلى أكاذيبهم وشبهاتهم .
والخطاب لكل من يصلح له من المؤمنين . وتوجيهه إلى النبى - صلى الله عليه وسلم - هنا مع توجيهه بعد ذلك إلى الكل - فى قوله { أَن تَضِلُّواْ } - للإِيذان بكما لشهرة شناعة حال أولئك اليهود ، وأنها بلغت من الظهور إلى حيث يتعجب منها كل من يراها أو يعلمها .
وقد وصفهم - سبحانه - بأنهم أوتوا نصيباً من الكتاب ، ولم يؤتوا الكتاب كله ، لأنهم نسوا حظا كبيراً مما ذكروا به ، ولم يبق عندهم من علم الكتاب إلا القليل ، وهذا القليل لم يعملوا به بل حرفوه وبدلوه وأخضعوا تفسيره لأهوائهم وشهواتهم .
وقوله { يَشْتَرُونَ الضلالة وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل } هو موطن التعجب من شأنهم لأنهم لا يطلبون الضلالة بفتور أو تريث وإنما يطلبونها بشراهة ونهم ويدفعون فيها أغلى الأثمان وهو الهدى ، ولا يكتفون بذلك بل يبتغون من المؤمنين أن يكونوا مثلهم فى الضلال .
وقريب من معنى هذه الآية قوله تعالى - { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً } وذكر سبحانه - الشئ الذى اشتروه وهو الضلالة ، وطوى ذكر المتروك وهو الهدى ، للايذان بغاية ظهوره . وللاشعار بأنهم قوم يطلبون الضلالة فى ذاتها . وأن البعد عن الحق والهدى مطلب من مطالبهم يدفعون فيه الثمن عن رغبة ، وذلك لأنهم قوم مردوا على الضلالة فغدوا لا يستمرئون سواها ، ولا يركنون إلا إليها . وإن قوما هذا شأنهم لجديرون بالابتعاد عنهم ، والتحقير من أمرهم . لأنك - كما يقول الفخر الرازى - لا ترى حالة أسوأ ولا أقبح ممن جمع بين هذهين الأمرين : أعنى الضلال والإِضلال .
قال الآلوسى : وقوله : { يَشْتَرُونَ الضلالة } . . الخ استئناف مبين لمناط التشنيع ومدار التعجب المفهومين من صدر الكلام ، مبنى على سؤال نشأ منه كأنه قيل : ماذا يصنعون حتى ينظر إليهم ؟ فقيل يختارون الضلالة على الهدى أو يستبدلوها بعد تمكنهم منه . . . . وذهب أبو البقاء إلى أن جملة { يَشْتَرُونَ } حالة مقدرة من ضمير { أُوتُواْ } أو حال من { الذين } .
( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، يشترون الضلالة ، ويريدون أن تضلوا السبيل ؟ والله أعلم بأعدائكم وكفى بالله وليا ، وكفى بالله نصيرا . من الذين هادوا ، يحرفون الكلم عن مواضعه . ويقولون : سمعنا وعصينا ، واسمع - غير مسمع - وراعنا . ليا بألسنتهم ، وطعنا في الدين . ولو أنهم قالوا : سمعنا وأطعنا ، واسمع وانظرنا ، لكان خيرا لهم وأقوم . ولكن لعنهم الله بكفرهم ، فلا يؤمنون إلا قليلاً . . )
إنه التعجيب الأول - من سلسلة التعجيبات الكثيرة - من موقف أهل الكتاب - من اليهود - يوجه الخطاب فيه إلى الرسول [ ص ] أو إلى كل من يرى هذا الموقف العجيب المستنكر :
( ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب . . يشترون الضلالة . ويريدون أن تضلوا السبيل )
لقد كان من شأن أن يؤتوا نصيبا من الكتاب . . الهداية . . فقد آتاهم الله التوراة ، على يدي موسى عليه السلام ، لتكون هداية لهم من ضلالتهم الأولى . . ولكنهم يدعون هذا النصيب . يدعون الهداية . ويشترون الضلالة ! والتعبير بالشراء يعني القصد والنية في المبادلة ! ففي أيديهم الهدى ولكنهم يتركونه ويأخذون الضلالة . فكأنما هي صفقة عن علم وعن قصد وعمد . لا عن جهل أو خطأ أو سهو ! وهو أمر عجيب مستنكر ، يستحق التعجيب منه والاستنكار .
ولكنهم لا يقفون عند هذا الأمر العجيب المستنكر . بل هم يريدون أن يضلوا المهتدين . يريدون أن يضلوا المسلمين . . بشتى الوسائل وشتى الطرق . التي سبق ذكرها في سورتي البقرة وآل عمران ؛ والتي سيجيء طرف منها في هذه السورة كذلك . . فهم لا يكتفون بضلال أنفسهم الذي يشترونه ؛ بل يحاولون طمس معالم الهدى من حولهم ؛ حتى لا يكون هناك هدى ولا مهتدون !
وفي هذه اللمسة : الأولى ، والثانية ، تنبيه للمسلمين وتحذير ؛ من الاعيب اليهود وتدبيرهم . . وياله من تدبير ! وإثارة كذلك لنفوس المسلمين ضد الذين يريدون لهم الضلالة بعد الهدى . وقد كان المسلمون يعتزون بهذا الهدى ؛ ويعادون من يحاول ردهم عنه إلى جاهليتهم التي عرفوها وعرفوا الإسلام . فكرهوها وأحبوا الإسلام ! وكرهوا كل من يحاول ردهم إليها في قليل أو كثير . . وكان القرآن يخاطبهم هكذا ، عن علم من الله ، بما في صدورهم من هذا الأمر الكبير .
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ، أنهم يشترون الضلالة بالهدى ويعرضون عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ليشتروا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا { وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُوا السَّبِيلَ } أي يودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع .
{ ألم تر إلى الذين أوتوا } من رؤية البصر أي ألم تنظر إليهم ، أو القلب . وعدي بإلى لتضمن معنى الانتهاء . { نصيبا من الكتاب } حظا يسيرا من علم التوراة لأن المراد أحبار اليهود . { يشترون الضلالة } يختارونها على الهدى ، أو يستبدلونها به بعد تمكنهم منه ، أو حصوله لهم بإنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : يأخذون الرشى ويحرفون التوراة . { ويريدون أن تضلوا } أيها المؤمنون . { السبيل } سبيل الحق .
الرؤية في قوله { ألم تر } من رؤية القلب ، وهي علم بالشيء ، وقال قوم : معناه «الم تعلم » وقال آخرون : «ألم تخبر » وهذا كله يتقارب ، والرؤية بالقلب تصل بحرف الجر وبغير حرف الجر ، والمراد ب { الذين } : اليهود ، قاله قتادة وغيره ، ثم اللفظ يتناول معهم النصارى ، وقال ابن عباس : نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت اليهودي{[4083]} .
و{ أوتوا } أعطوا ، و «النصيب » الحظ ، و { الكتاب } : التوراة والإنجيل ، وإنما جعل المعطى نصيباً في حق كل واحد منفرد ، لأنه لا يحصر علم الكتاب واحد بوجه ، و { يشترون } عبارة عن إيثارهم الكفر وتركهم الإيمان ، فكأنه أخذ وإعطاء ، هذا قول جماعة ، وقالت فرقة : أراد الذين كانوا يعطون أموالهم للأحبار على إقامة شرعهم فهذا شراء على وجهه على هذا التأويل ، { ويريدون أن تضلوا السبيل } ، معناه أن تكفروا ، وقرأ النخعي ، «وتريدون أن تضلوا » بالتاء منقوطة من فوق في [ تريدون ]{[4084]} .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الآية وما بعدها ، تقتضي توبيخاً للمؤمنين على استنامة{[4085]} قوم منهم إلى أحبار اليهود ، في سؤال عن دين ، أو في موالاة أو ما أشبه ذلك ، وهذا بيّن في ألفاظها ، فمن ذلك ، { ويريدون أن تضلوا } ، أي تدعوا الصواب في اجتنابهم ، وتحسبوهم غير أعداء ، والله أعلم بهم .
استئناف كلام راجع إلى مهيع الآيات التي سبقت من قوله : { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } [ النساء : 36 ] فإنّه بعد نذارة المشركين وجّه الإنذار لأهل الكتاب ، ووقعت آيات تحريم الخمر وقت الصلاة ، وآيات مشروعية الطهارة لها فيما بينهما ، وفيه مناسبة للأمر بترك الخمر في أوقات الصلوات والأمرِ بالطهارة ، لأنّ ذلك من الهدى الذي لم يسبق لليهود نظيره ، فهم يحسدون المسلمين عليه ، لأنّهم حرموا من مثله وفرطوا في هدى عظيم ، وأرادوا إضلال المسلمين عَداء منهم .
وجملة { ألم تر } الى { الكتاب } جملة يقصد منها التعجيب ، والاستفهام فيها تقريري عن نفي فعل لا يودّ المخاطب انتفاءه عنه ، ليكون ذلك محرّضا على الإقرار بأنه فعَل ، وهو مفيد مع ذلك للتعجيب ، وتقدّم نظيرها في قوله تعالى : { ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم } في سورة آل عمران ( 23 ) .
وجملة يشترون حالية فهي قيْد لجملة { ألم تر } ، وحالة اشترائهم الضلالة وإن كانت غير مشاهدة بالبصر فقد نزّلت منزلة المشاهَد المرئيّ ، لأنّ شهرة الشيء وتحقّقه تجعله بمنزلة المَرْئيّ .
والنصيب تقدّم عند قوله : { وللرجال نصيب } [ النساء : 7 ] في هذه السورةِ ، وفي اختياره هنا إلقاء احتمالِ قلّته في نفوس السامعين ، وإلاّ لقيل : أوتوا الكتاب ، وهذا نظير قوله تعالى بعد هذا { فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم } [ النساء : 141 ] ، أي نصيب من الفتح أو من النصر .
والمراد بالكتاب التوراة ، لأنّ اليهود هم الذين كانوا مختلطين مع المسلمين بالمدينة ، ولم يكن فيها أحد من النصارى .
والاشتراء مجاز في الاختيار والسعي لتحصيل الشيء ، لأنّ المشتري هو آخذ الشيء المرغوب فيه من المتبائعيْن ، والبائع هو باذل الشيء المرغوب فيه لحاجته إلى ثمنه ، هكذا اعتبرَ أهل العرف الذي بنيت عليه اللغة وإلاّ فإنّ كلا المتبايعين مشتر وشَار ، فلا جرم أن أطلق الاشتراء مجازاً على الاختيار ، وقد تقدّم نظيره في قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } في سورة البقرة ( 16 ) . وهذا يدلّ على أنّهم اقتحموا الضلالة عن عمد لضعف إيمانهم بكتابهم وقلّة جدوى عِلمهم عليهم .
وقوله : { ويريدون أن تضلوا السبيل } أي يريدون للمؤمنين الضلالة لئلا يفضلوهم بالاهتداء ، كقوله : { ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعدما تبين لهم الحق } [ البقرة : 109 ] . فالإرادة هنا بمعنى المحبّة كقوله تعالى : { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الدين من قبلكم } . ولك أن تجعل الإرادة على الغالب في معناها وهو الباعث النفساني على العمل ، أي يسعون لأن تضلّوا ، وذلك بإلقاء الشبه والسعي في صرف المسلمين عن الإيمان ، وقد تقدّم آنفاً قوله تعالى : { ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيماً } [ النساء : 27 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا}: ألم تر إلى فعل الذين أعطوا نصيبا، يعني حظا {من الكتاب}: التوراة، {يشترون}: يختارون، وهم اليهود، {يشترون الضلالة}، يعني باعوا إيمانا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث، بتكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد بعثته. {ويريدون أن تضلوا السبيل}: أن تخطئوا قصد طريق الهدى كما أخطأوا الهدى، {والله أعلم بأعدائكم}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
اختلف أهل التأويل في معنى قوله جلّ ثناؤه: {ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ}؛
وقال آخرون: معناه: ألم تعلم. والصواب من القول في ذلك: ألم تر بقلبك يا محمد علما إلى الذين أوتوا نصيبا. وذلك أن الخبر والعلم لا يجليان رؤية، ولكنه رؤية القلب بالعلم لذلك كما قلنا فيه.
{إلَى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتَابِ}: إلى الذين أُعطوا حظّا من كتاب الله، فعلموه. وذكر أن الله عنى بذلك طائفة من اليهود الذين كانوا حوالي مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{يَشْتَرُونَ الضّلالَةَ}: اليهود الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يختارون الضلالة، وذلك الأخذ على غير طريق الحق وركوب غير سبيل الرشد والصواب، مع العلم منهم بقصد السبيل ومنهم الحقّ. وإنما عنى الله بوصفهم باشترائهم الضلالة مقامهم على التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم وتركهم الإيمان به، وهم عالمون أن السبيل الحقّ الإيمان به وتصديقه بما قد وجدوا من صفته في كتبهم التي عندهم.
{ويُرِيدُونَ أنْ تَضِلّوا السّبِيلَ}: ويريد هؤلاء اليهود الذين وصفهم جلّ ثناؤه بأنهم أوتوا نصيبا من الكتاب أن تضلوا أنتم يا معشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم المصدّقين به أن تضلوا السبيل، يقول: أن تزولوا عن قصد الطريق، ومحجة الحقّ، فتكذبوا بمحمد، وتكونوا ضلالاً مثلهم. وهذا من الله تعالى ذكره تحذير منه عباده المؤمنين أن يستنصحوا أحدا من أعداء الإسلام في شيء من أمر دينهم، أو أن يسمعوا شيئا من طعنهم في الحقّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا} يقول: أعطوا حظا من علم {الكتاب} وهم علماؤهم {يشترون الضلالة} بعلم الكتاب. ويحتمل {يشترون الضلالة} بالهدى، ويحتمل يشترون ضلال غيرهم بالتحريف والرشا وغير ذلك كقوله تعالى: {ينفقون أموالهم ليصدوا عم سبيل الله} (الأنفال 36) وقوله: {اتبعوا سبيلا} (العنكبوت 12، ألم تر حرف التعجيب عن أمر قد بلغه، فيخرج مخرج التذكير، أو لم يبلغه فيخرج مخرج التعليم؟ والله أعلم...
وقوله تعالى: {ويريدون أن تضلوا السبيل} يحتمل وجهين: {ويريدون} أي يتمنون {أن تضلوا السبيل} لتدوم، لهم الرئاسة والسياسة، إذ كانت لهم الرئاسة على من كان على دينهم، ولم يكن لهم ذلك على من لم يكن على دينهم، فتمنوا أ ن يكونوا على دينهم لتكون لهم الرئاسة عليهم وقيل: {ويريدون ان تضلوا السبيل} أي يأمرونهم ويدعونهم إلى دينهم لما ذكرنا في طلب المنافع وإبقاء الرئاسة. والله أعلم...
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِّنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلاَلَةَ} فيه ثلاثة تأويلات:
أحدها: أنهم قد صاروا لجحودهم صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم كمشتري الضلالة بالهدى.
والثاني: أنهم كانوا يعطون أحبارهم أموالهم على ما كانوا يصنعونه من التكذيب بالرسول صلى الله عليه وسلم.
والثالث: أنهم كانوا يأخذون الرشا.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ووجه اتصال هذه الآية بما قبلها التأكيد للأحكام التي يجب العمل بها، بالتحذير ممن يدعو إلى خلافها، ويكذب بها. وقوله: (ألم تر) قال الزجاج، معناه: ألم تخبر في جميع القرآن؟ وقال غيره: ألم تعلم؟ وقال الرماني، معناه: رؤية البصر، والمرئي هو الذين، وإنما دخلت (إلى)، لأن الكلام يتضمن معنى التعجب...ومثله قوله: (ألم تر إلى ربك كيف مد الظل)...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ومكروا مكراً ولم يشعروا وجهة مكرهم أن أُعْطُوا الكتابَ ثم حُرِمُوا بركاتِ الفهم حتى حرَّفوا وأصَرُّوا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَلَمْ تَرَ} من رؤية القلب، وعدى ب"إلى"، على معنى: ألم ينته علمك إليهم؟ أو بمعنى: ألم تنظر إليهم؟
{أُوتُواْ نَصِيباً مّنَ الكتاب} حظاً من علم التوراة، وهم أحبار اليهود.
{يَشْتَرُونَ الضلالة} يستبدلونها بالهدى وهو البقاء على اليهودية. بعد وضوح الآيات لهم على صحة نبوّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه هو النبي العربي المبشر به في التوراة والإنجيل.
{وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ} أنتم أيها المؤمنون سبيل الحق كما ضلوه، وتنخرطوا في سلكهم لا تكفيهم ضلالتهم؛ بل يحبون أن يضل معهم غيرهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
و {أوتوا} أعطوا، و «النصيب» الحظ، و {الكتاب}: التوراة والإنجيل، وإنما جعل المعطى نصيباً في حق كل واحد منفرد، لأنه لا يحصر علم الكتاب واحد بوجه، و {يشترون} عبارة عن إيثارهم الكفر وتركهم الإيمان، فكأنه أخذ وإعطاء، هذا قول جماعة، وقالت فرقة: أراد الذين كانوا يعطون أموالهم للأحبار على إقامة شرعهم فهذا شراء على وجهه على هذا التأويل...
اعلم أنه تعالى لما ذكر من أول هذه السورة إلى هذا الموضع أنواعا كثيرة من التكاليف والأحكام الشرعية، قطع ههنا ببيان الأحكام الشرعية، وذكر أحوال أعداء الدين وأقاصيص المتقدمين، لأن البقاء في النوع الواحد من العلم مما يكل الطبع ويكدر الخاطر، فأما الانتقال من نوع من العلوم إلى نوع آخر، فإنه ينشط الخاطر ويقوي القريحة، وفي الآية مسائل:
المسألة الثانية: الذين أوتوا نصيبا من الكتاب: هم اليهود، ويدل عليه وجوه: الأول: أن قوله بعد هذه الآية: {من الذين هادوا} متعلق بهذه الآية. الثاني: روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في حبرين من أحبار اليهود، كانا يأتيان رأس المنافقان عبد الله بن أبي ورهطه فيثبطونهم عن الإسلام. الثالث: أن عداوة اليهود كانت أكثر من عداوة النصارى بنص القرآن، فكانت إحالة هذا المعنى على اليهود أولى.
المسألة الثالثة: لم يقل تعالى: أنهم أوتوا علم الكتاب، بل قال: {أوتوا نصيبا من الكتاب} لأنهم عرفوا من التوراة نبوة موسى عليه السلام، ولم يعرفوا منها نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، فأما الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وعرفوا الأمرين، فوصفهم الله بأن معهم علم الكتاب، فقال: {قل كفى بالله شهيدا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب}. والله أعلم.
المسألة الرابعة: اعلم أنه تعالى وصفهم بأمرين: الضلال والإضلال، أما الضلال فهو قوله: {يشترون الضلالة} وفيه وجوه:
الأول: قال الزجاج: يؤثرون تكذيب الرسول عليه الصلاة والسلام ليأخذوا الرشا على ذلك ويحصل لهم الرياسة، وإنما ذكر ذلك بلفظ الاشتراء لأن من اشترى شيئا آثره.
الثاني: أن في الآية إضمارا، وتأويله: يشترون الضلالة بالهدى كقوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} أي يستبدلون الضلالة بالهدى، ولا إضمار على قول الزجاج.
الثالث: المراد بهذه الآية عوام اليهود، فإنهم كانوا يعطون أحبارهم بعض أموالهم ويطلبون منهم أن ينصروا اليهودية ويتعصبوا لها، فكانوا جارين مجرى من يشتري بماله الشبهة والضلالة، ولا إضمار على هذا التأويل أيضا، ولكن الأولى أن تكون الآية نازلة في علمائهم. ثم لما وصفهم تعالى بالضلال وصفهم بعد ذلك بالإضلال فقال: {ويريدون أن تضلوا السبيل} يعني أنهم يتوصلون إلى إضلال المؤمنين والتلبيس عليهم؛ لكي يخرجوا عن الإسلام.
واعلم أنك لا ترى حالة أسوأ ولا أقبح ممن جمع بين هذين الأمرين أعني: الضلال والإضلال.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما أفهم ختام هذه الآية أن التشديد في الأحكام يكون سبباً للإجرام، فيكون سبباً في الانتقام؛ قرر ذلك بحال اليهود الذين أوجبت لهم الآصار عذاب النار فقال -ليكون ذلك مرغباً في تقبل ما مر من التكاليف ليسره ولرجاء الثواب، مرهباً من تركها خوفاً من العقاب، وليصير الكلام حلواً رائقاً بهجاً بتفصيل نظمه تارة بأحكام، وتارة بأقاصيص عظام، فينشط الخاطر وتقوى القريحة -: {ألم تر} أو يقال: إنه لما حذر سبحانه وتعالى فيما مضى من أهل الكتاب بقوله سبحانه وتعالى {ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً} [النساء: 27] ومر إلى أن أنزل هذه فيمن حرف في الصلاة لسانه فقط لا عن عمد الكلم عن واضعه؛ أتبعها التصريح بالتعجيب من حال المحرفين بالقلب واللسان عمداً وعدواناً اجتراء على الله سبحانه وتعالى، الملوح إليهم بالآية السابقة أنهم يريدون لنا الضلال عما هدينا إليه من سننهم فقال: {ألم تر}...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
قال الأستاذ الإمام رحمه الله تعالى:
الكلام انتقال من الأحكام وما عليها من الوعد والوعيد إلى بيان حال بعض الأمم من حيث أخذهم بأحكام دينهم وعدمه ليذكر الذين خوطبوا بالأحكام المتقدمة بأن الله تعالى مهيمن عليهم كما هيمن على من قبلهم فإذا هم قصروا يأخذهم بالعقاب الذي رتبه على ترك أحكام دينه في الدنيا والآخرة. والمنتظر من المؤمنين بعد ذكر الأحكام الماضية وما قرنت به من الوعد والوعيد أن يأخذوا بها على الوجه الموصل إلى إصلاح النفس وهو أثرها المراد منها وذلك بأن يؤخذ بها في صورتها ومعناها لا في صورتها فقط، ولكن جرت سنّة الله في الأمم أن يكتفي بعض الناس من الدين ببعض الظواهر والرسوم الدينية، كما جرى عليه بعض اليهود في القرابين وأحكام الطهارة الظاهرة، وهذا لا يكفي في اتباع الدين والقيام به على الوجه المصلح للنفوس كما أراد الله من التشريع، فأراد الله تعالى بعد بيان بعض الأحكام التي لها رسوم ظاهرة كالغسل والتيمم أن يذكر المسلمين بحال بعض الأمم التي هذا شأنها وكون هذا لم يغن عنها من الله شيئا ولم ينالوا به مرضاته ولم يكونوا به أهلا لكرامته ووعده. وقال الأستاذ الإمام: قال "أوتوا نصيبا من الكتاب "لأنهم لم يأخذوا الكتاب كله بل تركوا كثيرا من أحكامه لم يعملوا بها وزادوا عليها، والزيادة فيه كالنقص منه. فالتوراة تنهاهم عن الكذب وإيذاء الناس وأكل الربا مثلا وكانوا يفعلون ذلك وزاد لهم علماؤهم ورؤساؤهم كثيرا من الأحكام والرسوم والتقاليد الدينية فهم يتمسكون بها وليست من التوراة ولا مما يعرفونه عن موسى عليه السلام، وهم يدعون اتباعه في الدين. فالأمر المحقق الذي لا شك فيه هو أنهم يعملون ببعض أحكام التوراة وقد أهملوا سائرها ففي مقام الاحتجاج بالعمل بالدين وعدمه يذكر الواقع وهو أنهم لم يؤتوا الكتاب كله إذ لم يعملوا به كله وإنما عملوا ببعضه، وفي مقام الاحتجاج عليهم بالإيمان بالنبي والقرآن يناديهم: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا} الخ كما ترى في الآية التالية لهذه الآية ومثلها كثير...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
هذا ذم لمن {أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} وفي ضمنه تحذير عباده عن الاغترار بهم، والوقوع في أشراكهم، فأخبر أنهم في أنفسهم {يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ} أي: يحبونها محبة عظيمة ويؤثرونها إيثار من يبذل المال الكثير في طلب ما يحبه. فيؤثرون الضلال على الهدى، والكفر على الإيمان، والشقاء على السعادة، ومع هذا {يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ}. فهم حريصون على إضلالكم غاية الحرص، باذلون جهدهم في ذلك...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
"ابتداء من هذا الدرس في السورة، تبدأ المعركة التي يخوضها القرآن بالجماعة المسلمة، في مواجهة الجاهلية المحيطة بها -واليهود من أهل الكتاب خاصة- تلك المعركة التي شهدنا مواقعها ومجالاتها في سورتي موازين جديدة، وينشئ فيها قيما جديدة؛ ويستنقذ فطرتها من ركام الجاهلية؛ ويمحو ملامح الجاهلية في النفس والمجتمع؛ وينشئ ويثبت ملامح الإسلام الوضيئة الجميلة.. ثم يقودها في المعركة مع أعدائها المتربصين بها في الداخل والخارج.. اليهود والمنافقين والمشركين.. وهي على أتم استعداد للقائهم، والتفوق عليهم؛ بمتانة بنائها الداخلي الجديد:الاعتقادي والأخلاقي والاجتماعي والتنظيمي سواء.. ولقد كان التفوق الحقيقي للمجتمع المسلم على المجتمعات الجاهلية من حوله -بما فيها مجتمع اليهود القائم في قلب المدينة- هو تفوقه في البناء الروحي والخلقي والاجتماعي والتنظيمي -بفضل المنهج القرآني الرباني- قبل أن يكون تفوقا عسكريا أو اقتصاديا أو ماديا على العموم! بل هو لم يكن قط تفوقا عسكريا واقتصاديا -ماديا- فقد كان أعداء المعسكر الإسلامي دائما أكثر عددا، وأقوى عدة، وأغنى مالا، وأوفر مقدرات مادية على العموم! سواء في داخل الجزيرة العربية، أو في خارجها في زمن الفتوحات الكبرى بعد ذلك.. ولكن التفوق الحقيقي كان في ذلك البناء الروحي والخلقي والاجتماعي -ومن ثم السياسي والقيادي- الذي أسسه الإسلام بمنهجه الرباني المتفرد. وبهذا التفوق الساحق على الجاهلية في بنائها الروحي والخلقي والاجتماعي -ومن ثم السياسي والقيادي- اجتاح الإسلام الجاهلية.. اجتاحها أولا في الجزيرة العربية. واجتاحها ثانيا في الإمبراطوريتين العظيمتين الممتدتين حوله:إمبراطوريتي كسرى وقيصر.. ثم بعد ذلك في جوانب الأرض الأخرى. سواء كان معه جيش وسيف، أم كان معه مصحف وأذان! ولولا هذا التفوق الساحق ما وقعت تلك الخارقة التي لم يعرف لها التاريخ نظيرا. حتى في الاكتساحات العسكرية التاريخية الشهيرة. كزحف التتار في التاريخ القديم. وزحف الجيوش الهتلرية في التاريخ الحديث.. ذلك أنه لم يكن اكتساحا عسكريا فحسب. ولكنه كان اكتساحا عقيديا. ثقافيا. حضاريا كذلك! يتجلى فيه التفوق الساحق الذي يطوي -من غير إكراه- عقائد الشعوب ولغاتها، وتقاليدها وعاداتها.. الأمر الذي لا نظير له على الإطلاق في أي اكتساح عسكري آخر، قديما أو حديثا! لقد كان تفوقًا إنسانيًا كاملا. تفوقا في كل خصائص" "الانسانية" "ومقوماتها. كان ميلادا آخر للإنسان. ميلاد إنسان جديد غير الذي تعرفه الأرض على وجه اليقين والتأكيد. ومن ثم صبغ البلاد التي غمرها هذا المد بصبغته؛ وترك عليها طابعه الخاص؛ وطغى هذا المد على رواسب الحضارات التي عاشت عشرات القرون من قبل في بعض البلاد. كالحضارة الفرعونية في مصر. وحضارة البابليين والأشوريين في العراق، وحضارة الفينيقيين والسريان في الشام. لأنه كان أعمق جذورا في الفطرة البشرية؛ وأوسع مجالا في النفس الإنسانية، وأضخم قواعد وأشمل اتجاهات في حياة بني الإنسان، من كل تلك الحضارات. وغلبة اللغة الإسلامية واستقرارها في هذه البلاد، ظاهرة عجيبة، لم تستوف ما تستحقه من البحث والدراسة والتأمل، وهي في نظري أعجب من غلبة العقيدة واستقرارها. إذ إن اللغة من العمق في الكينونة البشرية ومن التشابك مع الحياة الاجتماعية، بحيث يعد تغييرها على هذا النحو معجزة كاملة! وليس الأمر في هذا هو أمر ""اللغة العربية "". فاللغة العربية كانت قائمة؛ ولكنها لم تصنع هذه المعجزة في أي مكان على ظهر الأرض -قبل الاسلام- ومن ثم سميتها"" اللغة الإسلامية ""فالقوة الجديدة التي تولدت في اللغة العربية، وأظهرت هذه المعجزة على يديها، كانت هي"" الإسلام ""قطعا! وكذلك اتجهت العبقريات الكامنة في البلاد المفتوحة [المفتوحة للحرية والنور والطلاقة] اتجهت إلى التعبير عن ذاتها -لا بلغاتها الأصلية- ولكن باللغة الجديدة. لغة هذا الدين. اللغة الإسلامية. وأنتجت بهذه اللغة في كل حقل من حقول الثقافة نتاجا تبدو فيه الأصالة؛ ولا يلوح عليه الاحتباس من معاناة التعبير في لغة غريبة -غير اللغة الأم- لقد أصبحت اللغة الإسلامية هي اللغة الأم فعلا لهذه العبقريات.. ذلك أن الرصيد الذي حملته هذه اللغة كان من الضخامة أولا؛ ومن ملاصقة الفطرة ثانيا؛ بحيث كان أقرب إلى النفوس وأعمق فيها، من ثقافاتها القديمة. ومن لغاتها القديمة أيضا! لقد كان هذا الرصيد هو رصيد العقيدة والتصور؛ ورصيد البناء الروحي والعقلي والخلقي والاجتماعي الذي أنشاه المنهج الإسلامي في فترة وجيزة. وكان من الضخامة والعمق واللصوق بالفطرة، بحيث أمد اللغة -لغة الإسلام- بسلطان لا يقاوم. كما أمد الجيوش -جيوش الإسلام- بسلطان لا يقاوم كذلك! وبغير هذا التفسير يصعب أن نعلل تلك الظاهرة التاريخية الفريدة. وعلى أية حال فهذا موضوع يطول شرحة. فحسبنا منه هذه اللمحة في سياق الظلال.. منذ هذا الدرس في هذه السورة تبدأ المعركة مع المعسكرات المعادية المتربصة بالجماعة الإسلامية الناشئة في المدينة.. ففي هذا الدرس تعجيب من حال اليهود وتصرفاتهم في مواجهة الدين الجديد والجماعة التي تمثله.. وفي الدرس الذي يليه بيان لوظيفة الجماعة المسلمة، وطبيعة منهجها، وحد الإسلام، وشرط الإيمان، الذي يتميز به منهجها وحياتها ونظامها.. وفي الدرس الذي يليه دعوة لهذه الجماعة للذود عن منهجها ووضعها ووجودها؛ وكشف للمنافقين المندسين فيها؛ وبيان لطبيعة الموت والحياة وقدر الله الذي يجري بهما؛ وهو جزء من تربية هذه الجماعة، وإعدادها لوظيفتها وللمعركة مع أعدائها.. وفي الدرس الذي يليه مزيد من الحديث عن المنافقين؛ وتحذير للجماعة المسلمة من الانقسام في شأنهم، أو الدفاع عن تصرفاتهم. ثم تفصيل للإجراءات التي تواجه بها الجماعة المسلمة شتى المعسكرات من حولها -أي لقواعد قانون المعاملات الدولية- وفي الدرس الذي يليه نجد نموذجا لرفعه الإسلام في معاملته ليهودي فرد في المجتمع الإسلامي!.. والدرس الذي يليه جولة مع الشرك والمشركين، وتوهين للأسس التي يقوم عليها المجتمع المشرك في الجزيرة.. ويتوسط هذه المعركة لمحة من التنظيم الداخلي، ترتبط بأوائل السورة في شأن الأسرة.. ثم يجيء الدرس الأخير -في هذا الجزء- خاصا بالنفاق والمنافقين؛ يهبط بهم إلى الدرك الأسفل من النار! وهذه الإشارات الخاطفة تبين لنا طبيعة مجالات المعركة وجوانبها المتعددة -في الداخل والخارج.. وطبيعة التوافق والتكامل، بين المعركة الداخلية والمعركة الخارجية في حياة المجتمع الإسلامي الأول.. وهي هي بذاتها معركة الأمة المسلمة اليوم وغدا في أساسها وحقيقتها."
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
في الآيات السابقة بين سبحانه وتعالى وجوب الإخلاص لله سبحانه وتعالى فيما يؤدي العبد من فرائض، وما يقوم من صدقات، وأشار إلى أن الرياء يمحق فعل الخير، ويقرب العبد من الشرك، بل إن الرياء في العبادات هو الشرك الخفي، ثم بين سبحانه وتعالى مقام أهل الإيمان ممن سبقوهم، ومقام صاحب الرسالة في الشهادة على كل من سبقوه، فرسالته هي الحق، وأنه لا يصح لمؤمن أن يستمع لما يكذب به الضالون من أهل الكتاب، وقال سبحانه في ذلك: {ألم ترى إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة}
{ألم تر} هذا تعبير قرآني قد تكرر في كثير من آي القرآن الكريم، وأصل الصيغة للاستفهام، وهو موجه إلى عدم الرؤية، والاستفهام إنكاري لنفي وقوع ما دخل عليه، فإذا قال القائل: أفعل فلان كذا...؟! يستنكر نسبة الفعل إليه، فمعناه نفي الفعل مع توبيخ من نسب إليه ذلك، أو تنبيه السامع إلى النفي، لأن معناه حينئذ: ما وقع من فلان هذا الفعل، وما كان يعقل أن يقع منه. والاستفهام هنا متجه إلى أمر منفي، ويقول العلماء إن نفي النفي إثبات، فيكون معنى النص: قد رأيت ونظرت ببصيرتك وبصرك إلى عمل الذين أوتوا نصيبا من الكتاب، وفي هذا التعبير تنبيه إلى تأكد العلم بحال هؤلاء الذين تراهم من أهل الكتاب، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم أوتوا نصيبا أي مقدارا من الكتاب ولم يؤتوا الكتاب كله؛ لأنهم نسوا حظا مما ذكروا به، ولأن الأحداث التي توالت عليهم من غارات التتار ومظالم الرومان، قد جعلت أجزاء من كتبهم تتقطع سلسلة سندها، ويذهب عنهم علمها، وهم فوق ذلك لم يعملوا بأحكام ما وصل إليهم، فهل قد وصل إليهم بعض الكتاب، وحرفوا ذلك الذي وصل إليهم، وأوّلوه على غير معناه، وأهملوا العمل بأكثره، فهم لم يؤتوا علما وتفسيرا وعملا إلا أقله!.
وموضع التنبيه والغرابة ليس هو وصفهم، وإن كان في ذاته أمرا أعجبا، إنما موضعه أنهم يبتغون الضلالة ويطلبونها ولو دفعوا فيها أغلى الأثمان، وهو الهدى، ولا يطلبونها لنفسهم، بل يريدون أن يكون غيرهم مثلهم في ضلالهم، ولذا قال سبحانه وتعالى: {يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل} أي تبعدوا عن الطريق المستقيم الذي هو صراط الله تعالى قال فيه تعالى: {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله (153)} (الأنعام).
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
انتقلت الآيات إلى الحديث من جديد عن أهل الكتاب الذين يقفون حجر عثرة في طريق الإسلام، فبينت سوء استغلالهم للقسم الضئيل الباقي عندهم من الكتاب في خدمة مصالحهم المادية، وترضية أهوائهم الشخصية، وأوضحت سعيهم إلى تضليل المسلمين، وما هم عليه من عداوة ثابتة للمؤمنين {وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ، (44) وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا (45)}. وأشارت الآيات بالأخص إلى تحريف اليهود وتأويلهم لنصوص الوحي وأوامره عن مواضعها ومقاصدها، وحكت جملة من تعابيرهم المستنكرة التي اعتادوا أن يستعملوها في أحاديثهم عن رسول الله والمؤمنين، طعنا منهم في الدين، وعارضت تعابيرها المستنكرة بتعابير أخرى لو اهتدوا إليها وعبروا بها لكان خيرا لهم وأقوم، لكن {لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)}...
حين يريد الحق سبحانه وتعالى أن يؤكد قضية من قضايا الكون ليمهد لقضية من قضايا العقائد التي تحرس نظام الكون فهو يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله:"ألم تر". والرؤية عمل العين وعمل العين متعلق بانكشاف الأحداث التي تتعرض لها العين والشيء المرئي دليله معه؛ لأن الشيء المسموع دليله يؤخذ من صدق قائله، وصدق قائله أمر مضنون، أيكذب أم يصدق؟ أما المرئي فدليله معه؛ ولذلك قالوا: ليس مع العين أين، أي أنك إذا رأيت شيئا فلا تقل: أين هو، وليس الخبر كالعيان، فالخبر الذي تسمعه ليس كالمشاهدة، إذن فالمشاهدة دليلها معها، فلا يقال: دلل على أن فلانا يلبس جلبابا أبيض وأنت تراه. إذن فحين يريد الحق أن يؤكد قضية يقول: أرأيت. ولذلك فأنت إذا حدثت إنسانا عن انحراف إنسان آخر. قد يصدقك وقد لا يصدقك، لكن إذا ما رأيت الإنسان يلعب ميسرا أو يشرب خمرا ثم تقول لمن حدثته من قبل: أرأيت من قلت لك عليه، كان الرؤية دليل. والحق سبحانه وتعالى حين يخاطب رسوله صلى الله عليه وسلم بقوله: "أرأيت "ننظر إلى الأمر، فإذا كان مشهودا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يراه بذلك تكون "أرأيت "على حقيقتها، كما يقول له: {أرأيت الذي ينهى 9 عبدا إذا صلى 10} (سورة العلق). هو صلى الله عليه وسلم قد رآه، فتكون" أرأيت "على حقيقتها أم ليست على حقيقتها؟ ولماذا يأتي بهمزة الاستفهام" أرأيت"؛ على الرغم من أنه صلى الله عليه وسلم قد رأى من ينهى إنسانا عن الصلاة ولماذا لم يقل: {رأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى}، لا؛ لأن الحق يريد أن يؤكد الخبر بمراحل. فمرة يكون الخبر خبرا تسمعه الأذن، ومرة يكون رؤية تراه، ومرة لا يقول له: أنت رأيت، ولكن يستفهم منه ب" أرأيت "لكي ينتظر منه الجواب. وبذلك يأتي الجواب من المخاطب نفسه وليس من المتكلم، وهذه آكد أنواع البيان وآكد ألوان التحقيق، فحين يخاطب الحق سبحانه وتعالى بقوله:"أرأيت "نقول: أكان ذلك مشهدا لرسول الله رآه، فتكون الرؤية على حقيقتها. فإذا كان الأمر لم يكن معاصرا لرسول الله ثم يخاطب الله رسوله بقوله: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل 1} (سورة الفيل)...
ونعلم أن أصحاب الفيل كانوا عام ميلاده صلى الله عليه وسلم، فهو حين يخاطب رسوله لم يكن المشهد أمامه، ف" ألم تر "هنا بمعنى أعلمت، ولماذا عدل هنا عن أعلمت إلى قوله:"ألم تر "؟. لأن الحق سبحانه وتعالى حين يخاطب رسوله بأمر منه فهو يوضح له: إن أخبرتك بشيء فاعلم أني أصدق من عينك، فإذا قال سبحانه: "ألم تر" فهذا يعني أنك علمت من الحق سبحانه وتعالى، وإخبار الحق ليس كإخبار الخلق؛ لأن إخبار الخلق يحتمل الصدق والكذب، لكن إخبار الحق لا يعني إلا الصدق، إذن فرؤية عينك قد تخونك؛ لأنك قد تكون غافلا فلا ترى كل الحقيقة، لكن إذا أخبرك الحق سبحانه وتعالى فسيخبرك بكل زوايا الحقيقة. إذن فإخبار الحق أوثق وآكد من رؤية العين وسبحانه عندما قال: {أرأيت الذي ينهى 9 عبدا إذا صلى 10} (سورة العلق)...
هذه مثلت الأولى، وحين قال سبحانه: {ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل 1} (سورة الفيل). كأنك تراهم الآن، ف "ألم تر" تعني كأن المشهد أمامك. إذن فوسائل تأكيد الأشياء: خبر من خلق يحتمل الصدق ويحتمل الكذب. هذه واحدة، ورؤية من خلق تحتمل انها استوعبت كل المرئي أو أحاطت ببعضه، أو خبر من خالق أحاط بكل شيء، فيجب أن يكون الخبر من الخالق أوثق الأخبار في تصديقهم...
{ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب} جاءت هذه الآية ورسول الله يعاصره قوم من اليهود. ورأى منهم بالفعل أنهم أوتوا نصيبا من الكتاب؛ لأنهم أهل كتاب، ومع ذلك يشترون الضلالة؛ ولا يقولون الحق، فيكون هذا أمرا مشهديا بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وحينما أرسل محمدا جعله ختاما للأنبياء وختم به ركب النبوة، وهذا يعني: أن النبوة كان لها ركب. وفي كل عصر من العصور يأتي نبي على مقدار اتساع الحياة، وعلى مقدار التقاء الكائنين في الحياة، وعلى مقدار الداءات والأمراض التي تأتي في المجتمع، ولكن الله علم أزلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتي في فترة ورسالته ومنهجه ينتظم ويضم كل قضايا الزمن إلى أن تقوم الساعة. وهو زمن يعلم الله أن فوارق المواصلات فيه ستنتهي، وفوارق الحواجز فيه ستنتهي، فيحدث الخبر في أدنى الشرق وأعلاه فتسمعه في أدنى الغرب وأعلاه، والخبر في الغرب تسمعه في الشرق. والداء يوجد مرة في أمريكا وبعد يوم أو يومين يوجد في أي بلد من البلاد...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
من نماذج الأساليب اليهودية في عداواتهم للمسلمين:
وينطلق القرآن إلى واقع حياة المسلمين في مجتمعهم الذي يعيش فيه غيرهم؛ من اليهود الذين أوتوا الكتاب وهو التوراة، ولكنهم حرّفوه عن معانيه الحقيقية، ووقفوا وجهاً لوجه أمام النبي محمدصلى الله عليه وسلم وأتباعه، ليعلنوا عليهم الحرب سراً وجهراً. وكان من بين أساليبهم استعمال التوراة كسلاح ديني، يحاولون من خلاله تضليل المسلمين وخلق أجواء الشك في داخلهم، ليبعدوهم بذلك عن حالة الإيمان والطمأنينة، فيكون ذلك سبباً في تهديم القاعدة الداخلية للإسلام في المجتمع الإسلامي. وينطلق القرآن، ليحدد ملامح هؤلاء وليكشف أساليبهم المتلوّنة، وليخلق في داخل الوعي الإسلامي طرق المواجهة الواعية التي تعرف كيف تتعامل مع أعدائها، كما تعرف كيف تتعامل مع أصدقائها فلا يختلط عليها العدو مع الصديق، ولا يشتبه عليها أسلوب التعامل مع الأعداء بأسلوب التعامل مع الأصدقاء. فإن الله يريد للمؤمن أن ينفتح على الحياة من موقع وضوح الرؤية للناس وللأشياء، لأن الإنسان الذي يتعامل مع القضايا بوضوح سيبقى في طريق النور، ولن يضلّ السبيل في أي مجال من المجالات. وهكذا وجَّه الله الخطاب إلى النبي، ليكون هو الذي يفتح عيون الناس على الحقيقة؛ ثم خاطب المسلمين، ليوحي إليهم بأنه يخاطبهم من خلال رسول الله، لأنهصلى الله عليه وسلم لا ينطلق معهم من خلال ذاته، بل من خلال رسالته، التي تحتويهم جميعاً. {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً} فهم لم يحصلوا على الكتاب كله، بل على نصيب منه؛ لم يعيشوا معه في أفكارهم ومشاعرهم، ولم يندمجوا مع خططه ومعانيه الروحية، بل أخذوه بأطراف ألسنتهم، ليستغلوا ذلك في أطماعهم وشهواتهم. {يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السَّبِيلَ} وتلك هي ملامحهم؛ فإنهم لا يسيرون في خط الهدف الباحث عن الحقيقة، ليرتبطوا بها، ولينقلوا خطواتهم مع خطوات الآخرين السائرين في هدى الله، ليزدادوا هدىً بهداهم، بل إنهم يسيرون على العكس من ذلك في خطوات الضلال؛ فقد حدّدوا لأنفسهم هذا الاتجاه، انطلاقاً من أطماعهم وشهواتهم، وبدأوا يبحثون عن الوسائل التي تمكنهم من الوصول إلى ما يريدون، فاشتروا الضلالة بكل ألوانها ووسائلها وأهدافها، وانحرفوا عن الهدى الذي شاهدوه نصب أعينهم، ولم يقتصروا في ذلك على أنفسهم، بل عملوا على أن يضللوا الآخرين الذين اتبعوا الهدى فكراً وعملاً. وهكذا خاطب الله المسلمين وحذّرهم أن ينتبهوا إلى ذلك كله، فيعرفوا ملامحهم ويتعرفوا إلى مقاصدهم في تضليلهم...