قوله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم } يعني التابعين وهم الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ، ثم ذكر أنهم يدعون لأنفسهم ولمن سبقهم بالإيمان والمغفرة ، فقال : { يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً } غشاً وحسداً وبغضاً ، { للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم } ، فكل من كان في قلبه غل على أحد من الصحابة ولم يترحم على جميعهم فإنه ليس ممن عناه الله بهذه الآية ، لأن الله تعالى رتب المؤمنين على ثلاثة منازل : المهاجرين والأنصار والتابعين الموصوفين بما ذكر ، فمن لم يكن من التابعين بهذه الصفة كان خارجاً من أقسام المؤمنين . قال ابن أبي ليلى : الناس على ثلاثة منازل : المهاجرين ، والذين تبوؤوا الدار والإيمان ، والذين جاؤوا من بعدهم ، فاجتهد أن لا تكون خارجاً من هذه المنازل ، أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا عبد الله بن حامد ، أنبأنا أحمد بن عبد الله بن سليمان حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا أبو إسماعيل بن إبراهيم عن عبد الملك بن عمير عن مسروق عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : " أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فسببتموهم سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها " . وقال مالك ابن مغول : قال عامر بن شرحبيل الشعبي : يا مالك تفاضلت اليهود والنصارى على الرافضة بخصلة ، سئلت اليهود : من خير أهل ملتكم ؟ فقالت : أصحاب موسى عليه السلام . وسئلت النصارى : من خير أهل ملتكم ؟ فقالوا : حواري عيسى عليه السلام . وسئلت الرافضة : من شر أهل ملتكم ؟ فقالوا : أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، أمروا بالاستغفار لهم فسبوهم ، كالسيف عليهم مسلول إلى يوم القيامة ، لا تقوم لهم راية ولا يثبت لهم قدم ، ولا تجتمع لهم كلمة ، كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله بسفك دمائهم وتفريق شملهم وإدحاض حجتهم ، أعاذنا الله وإياكم من الأهواء المضلة . قال مالك بن أنس : من يبغض أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو كان في قلبه عليهم غل فليس له حق في فيء المسلمين ، ثم تلا : { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } حتى أتى على هذه الآية : { للفقراء المهاجرين والذين تبوؤوا الدار والإيمان والذين جاؤوا من بعدهم } إلى قوله : { رؤوف رحيم } .
وحسب من بعدهم من الفضل أن يسير خلفهم ، ويأتم بهداهم ، ولهذا ذكر الله من اللاحقين ، من هو مؤتم بهم وسائر خلفهم فقال : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } أي : من بعد المهاجرين والأنصار { يَقُولُونَ } على وجه النصح لأنفسهم ولسائر المؤمنين : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } ، وهذا دعاء شامل لجميع المؤمنين ، السابقين من الصحابة ، ومن قبلهم ومن بعدهم ، وهذا من فضائل الإيمان أن المؤمنين ينتفع بعضهم ببعض ، ويدعو بعضهم لبعض ، بسبب المشاركة في الإيمان المقتضي لعقد الأخوة بين المؤمنين{[1039]} التي من فروعها أن يدعو بعضهم لبعض ، وأن يحب بعضهم بعضا .
ولهذا ذكر الله في الدعاء نفي الغل عن القلب ، الشامل لقليل الغل وكثيره{[1040]} الذي إذا انتفى ثبت ضده ، وهو المحبة بين المؤمنين والموالاة والنصح ، ونحو ذلك مما هو من حقوق المؤمنين .
فوصف الله من بعد الصحابة بالإيمان ، لأن قولهم : { سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ } دليل على المشاركة في الإيمان{[1041]} وأنهم تابعون للصحابة في عقائد الإيمان وأصوله ، وهم أهل السنة والجماعة ، الذين لا يصدق هذا الوصف التام إلا عليهم ، ووصفهم بالإقرار بالذنوب والاستغفار منها ، واستغفار بعضهم لبعض ، واجتهادهم في إزالة الغل والحقد عن قلوبهم لإخوانهم المؤمنين ، لأن دعاءهم بذلك مستلزم لما ذكرنا ، ومتضمن لمحبة بعضهم بعضا ، وأن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه وأن ينصح له حاضرا وغائبا ، حيا وميتا ، ودلت الآية الكريمة [ على ] أن هذا من جملة حقوق المؤمنين بعضهم لبعض ، ثم ختموا دعاءهم باسمين كريمين ، دالين على كمال رحمة الله وشدة رأفته وإحسانه بهم ، الذي من جملته ، بل من أجله ، توفيقهم للقيام بحقوق الله وحقوق عباده .
فهؤلاء الأصناف الثلاثة هم أصناف هذه الأمة ، وهم المستحقون للفيء الذي مصرفه راجع إلى مصالح الإسلام . وهؤلاء أهله الذين هم أهله ، جعلنا الله منهم ، بمنه وكرمه .
ثم مدح - سبحانه - كل من سار على نهج المهاجرين والأنصار فى قوة الإيمان ، وفى طهارة القلب ، وسماحة النفس فقال - تعالى - : { والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ . . } عطف عند الأكثرين أيضا على المهاجرين ، والمراد بهؤلاء : قيل : الذين هاجروا حين قوة الإسلام ، فالمجىء حسى ، وهو مجيئهم إلى المدينة ، وضمير من بعدهم ، للمهاجرين الأولين .
وقيل هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة ، فالمجىء إما إلى الوجود أو إلى الايمان وضمير { مِن بَعْدِهِمْ } للفريقين : المهاجرين والأنصار .
وهذا هو الذى يدل عليه كلام عمر - رضى الله عنه - وكلام كثير من السلف كالصريح فيه ، فالآية قد استوعبت جميع المؤمنين .
ويبدو لنا أن هذا الرأى الثانى ، وهو كون الذين جاءوا من بعدهم يشمل المؤمنين الصادقين جميعا ، أقرب إلى الصواب ، لأنهم هم التابعون بإحسان للمهاجرين والأنصار إلى يوم القيامة ، كما قال - تعالى - : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ . . . } وعليه يكون المعنى : والذين جاءوا من بعد المهاجرين والأنصار ، واتبعوهم بإحسان إلى يوم القيامة { يَقُولُونَ } على سبيل الدعاء لأنفسهم ولإخوانهم فى العقيدة ، { رَبَّنَا اغفر لَنَا } أى : يا ربنا اغفر لنا ذنوبنا ، واغفر ، لإخواننا فى الدين { الذين سَبَقُونَا بالإيمان } فهم أسبق منا إلى الخير والفضل . . { وَلاَ تَجْعَلْ } يا ربنا { فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ } أى : حسدا وحقدا { لِّلَّذِينَ آمَنُواْ } أى : يا ربنا لا تجعل فى قلوبنا أى غل أو حسد لإخواننا المؤمنين جميعا .
{ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أى : يا ربنا إنك شديد الرأفة بعبادك واسع الرحمة بهم . وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة ، أن من حق الصحابة - رضى الله عنهم - على من جاءوا بعدهم ، أن يدعوا لهم ، وأن ينزلوهم فى قلوبهم منزلة الاحترام والتبجيل والتكريم . .
ورحم الله الإمام القرطبي فقد أفاض فى بيان هذا المعنى ، فقال ما ملخصه : قوله - تعالى - : { والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ . . . } يعنى التابعين ، ومن دخل فى الإسلام إلى يوم القيامة .
قال ابن أبى ليلى : الناس على ثلاثة منازل : المهاجرون ، والذين تبوأوا الدار والإيمان ، والذين جاءوا من بعدهم ، فاجتهد ألا تخرج من هذه المنازل .
وهذه الآية دليل على وجوب محبة الصحابة . .
وقال الإمام الرازي : واعلم أن هذه الآيات قد استوعبت جميع المؤمنين لأنهم إما المهاجرون ، أو الأنصار ، أو الذين جاءوا من بعدهم ، وبين أن من شأن من جاء من بعد المهاجرين والأنصار ، أن يذكر السابقين ، وهم المهاجرون والأنصار بالدعاء والرحمة ، فمن لم يكن كذلك ، بل ذكرهم بسوء كان خارجا من جملة أقسام المؤمنين ، بحسب نص هذه الآية .
وبعد أن رسمت السورة الكريمة ، تلك الصورة الوضيئة للمهاجرين والأنصار والذين ابتعوهم بإحسان . . . بعد كل ذلك أخذت فى رسم صورة أخرى ، متباينة تمام المباينة مع صورة هؤلاء الصادقين ، ألا وهى صورة المنافقين ، الذين انضموا إلى كل مناوئ للدعوة الإسلامية ، فقال - تعالى - : { أَلَمْ تَرَ . . . } .
والذين جاءوا من بعدهم ، يقولون : ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا . ربنا إنك رؤوف رحيم . .
وهذه الصورة الثالثة النظيفة الرضية الواعية . وهي تبرز أهم ملامح التابعين . كما تبرز أخص خصائص الأمة المسلمة على الإطلاق في جميع الأوطان والأزمان .
هؤلاء الذين يجيئون بعد المهاجرين والأنصار - ولم يكونوا قد جاءوا بعد عند نزول الآية في المدينة ، إنما كانوا قد جاءوا في علم الله وفي الحقيقة القائمة في هذا العلم المطلق من حدود الزمان والمكان - سمة نفوسهم أنها تتوجه إلى ربها في طلب المغفرة ، لا لذاتها ولكن كذلك لسلفها الذين سبقوا بالإيمان ؛ وفي طلب براءة القلب من الغل للذين آمنوا على وجه الإطلاق ، ممن يربطهم معهم رباط الإيمان . مع الشعور برأفة الله ، ورحمته ، ودعائه بهذه الرحمة ، وتلك الرأفة : ( ربنا إنك رؤوف رحيم ) . .
وتتجلى من وراء تلك النصوص طبيعة هذه الأمة المسلمة وصورتها الوضيئة في هذا الوجود . تتجلى الآصرة القوية الوثيقة التي تربط أول هذه الأمة بآخرها ، وآخرها بأولها ، في تضامن وتكافل وتواد وتعاطف . وشعور بوشيجة القربى العميقة التي تتخطى الزمان والمكان والجنس والنسب ؛ وتتفرد وحدها في القلوب ، تحرك المشاعر خلال القرون الطويلة ، فيذكر المؤمن أخاه المؤمن بعد القرون المتطاولة ، كما يذكر أخاه الحي ، أو أشد ، في إعزاز وكرامة وحب . ويحسب السلف حساب الخلف . ويمضي الخلف على آثار السلف . صفا واحدا وكتيبة واحدة على مدار الزمان واختلاف الأوطان ، تحت راية الله تغذ السير صعدا إلى الأفق الكريم ، متطلعة إلى ربها الواحد الرؤوف الرحيم .
إنها صورة باهرة ، تمثل حقيقة قائمة ؛ كما تمثل أرفع وأكرم مثال للبشرية يتصوره قلب كريم . صورة تبدو كرامتها ووضاءتها على أتمها حين تقرن مثلا إلى صورة الحقد الذميم والهدم اللئيم التي تمثلها وتبشر بها الشيوعية في إنجيل كارل ماركس . صورة الحقد الذي ينغل في الصدور ، وينخر في الضمير ، على الطبقات ، وعلى أجيال البشرية السابقة ، وعلى أممها الحاضرة التي لا تعتنق الحقد الطبقي الذميم . وعلى الإيمان والمؤمنين من كل أمة وكل دين !
صورتان لا التقاء بينهما في لمحة ولا سمة ، ولا لمسة ولا ظل . صورة ترفع البشرية إلى أعلى مراقيها ؛ وصورة تهبط بها إلى أدنى دركاتها . صورة تمثل الأجيال من وراء الزمان والمكان والجنس والوطن والعشيرة والنسب متضامنة مترابطة متكافلة متوادة متعارفة صاعدة في طريقها إلى الله ، بريئة الصدور من الغل ، طاهرة القلوب من الحقد ، وصورة تمثل البشرية أعداء متناحرين يلقي بعضهم بعضا بالحقد والدخل والدغل والغش والخداع والالتواء . حتى وهم في المعبد يقيمون الصلاة . فالصلاة ليست سوى أحبولة ، والدين كله ليس إلا فخا ينصبه رأس المال للكادحين !
( ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ، ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا . ربنا إنك رؤوف رحيم ) . .
هذه هي قافلة الإيمان . وهذا هو دعاء الإيمان . وإنها لقافلة كريمة . وإنه لدعاء كريم .
وقوله : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء ، وهم المهاجرون ثم الأنصار ، ثم التابعون بإحسان ، كما قال في آية براءة : { وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } [ التوبة : 100 ] فالتابعون لهم بإحسان هم : المتبعون لآثارهم الحسنة وأوصافهم الجميلة ، الداعون لهم في السر والعلانية ؛ ولهذا قال في هذه الآية الكريم : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ } أي : قائلين : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا } أي : بغضًا وحسدًا { لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } وما أحسن ما استنبط الإمام مالك من هذه الآية الكريمة : أن الرافضي الذي يسبّ الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء في قولهم : { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، حدثنا محمد بن بشر ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر ، عن أبيه ، عن عائشة أنها قالت : أمروا أن يستغفروا لهم ، فسبوهم ! ثم قرأت هذه الآية : { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ } الآية .
وقال إسماعيل بن عُلَية ، عن عبد الملك بن عمير ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : أمرتم بالاستغفار لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فسببتموهم . سمعتُ نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تذهب هذه الأمة حتى يلعن آخرها أولها " . رواه البغوي{[28592]} . .
وقال أبو داود : حدثنا مُسَدَّد ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، حدثنا أيوب ، عن الزهري قال : قال عمر ، رضي الله عنه : { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ } قال الزهري : قال عمر : هذه لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ، قُرى [ عربية : فَدَك وكذا ]{[28593]} وكذا ، فما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وللفقراء الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ، { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ } { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } فاستوعبت هذه الآية الناس ، فلم يبق أحد من المسلمين إلا له فيها حق - قال أيوب : أو قال : حظ - إلا بعض من تملكون من أرقائكم . كذا رواه أبو داود ، وفيه انقطاع{[28594]} .
وقال ابن جرير : حدثنا ابن عبد الأعلى ، حدثنا ابن ثور ، عن مَعْمَر ، عن أيوب ، عن عكرمة ابن خالد ، عن مالك بن أوس بن الحَدَثان قال : قرأ عمر بن الخطاب : { إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ } حتى بلغ { عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 60 ] ، ثم قال هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى [ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ ] } {[28595]} [ الأنفال : 41 ] ، ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } حتى بلغ للفقراء { وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ } { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } ثم قال : استوعبت هذه الآية المسلمين عامة ، وليس أحد إلا له فيها حق{[28596]} ، ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي - وهو بَسرو حِمير - نصيبه فيها ، لم يعرق فيها جبينه .
والذين جاؤوا من بعدهم هم الذين هاجروا حين قوي الإسلام أو التابعون بإحسان وهم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة ولذلك قيل أن الآية قد استوعبت جميع المؤمنين يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان أي لإخواننا في الدين ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا حقدا لهم ربنا إنك رؤوف رحيم فحقيق بأن تجيب دعاءنا .
واختلف الناس في قوله تعالى : { والذين جاؤوا من بعدهم } فقال الفراء : أراد الفرقة الثالثة من الصحابة وهي من آمن أو كبر في آخر مدة النبي صلى الله عليه وسلم . وقال جمهور العلماء : أراد من يجيء من التابعين وغيرهم إلى يوم القيامة ، فوصف الله تعالى القول الذي ينبغي أن يلتزمه كل من لم يكن من الصدر الأول وإعراب { الذين } رفع عطفاً على { هم } أو على { الذين } أو رفع بالابتداء . وقوله تعالى : { يقولون } حال فيها الفائدة والمراد : والذين جاؤوا قائلون كذا أو يكون يقولون صفة ، ولهذه الآية قال مالك وغيره : إنه من كان له في أحد من الصحابة قول سوء أو بغض{[11028]} فلا حظ له في الغنيمة أدباً له ، وجاء عراقيون إلى علي بن الحسين فسبوا أبا بكر وعمر وعثمان فقال لهم : أمن المهاجرين الأولين أنتم ؟ فقالوا : لا ، أفمن { الذين تبوءوا الدار والإيمان } ؟ قالوا : لا ، قال فقد تبرأتم من هذين الفريقين ، وأنا أشهد أنكم لستم من الذين قال الله تعالى فيهم : { والذين جاؤوا من بعدهم } الآية . قوموا فعل الله بكم وفعل ، وقال الحسن أدركت ثلاثمائة من الصحابة منهم سبعون بدرياً كلهم يحدثني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ){[11029]} . فالجماعة أن لا تسبوا الصحابة ولا تماروا في دين الله ولا تكفروا أحداً من أهل التوحيد بذنب » . والغل : الحقد والاعتقاد الرديء ، وقرأ الأعمش : «في قلوبنا غمراً للذين » والغمر : الحقد ، وقد تقدم الاختلاف في قراءة { رؤوف } .
عطف على { والذين تبوؤا الدار } [ الحشر : 9 ] على التفسيرين المتقدمين ؛ فأما على رأي من جعلوا { والذين تبوءوا الدار } [ الحشر : 9 ] معطوفاً على { للفقراء المهاجرين } [ الحشر : 8 ] جعلوا { الذين جاؤوا من بعدهم } فريقاً من أهل القُرى ، وهو غير المهاجرين والأنصار بلْ هو من جاء إلى الإِسلام بعد المهاجرين والأنصار ، فضمير { من بعدهم } عائد إلى مجموع الفريقين .
والمجيء مستعمل للطروِّ والمصير إلى حالة تماثل حالهم ، وهي حالة الإِسلام ، فكأنهم أتوا إلى مكان لإِقامتهم ، وهذا فريق ثالث وهؤلاء هم الذين ذُكروا في قوله تعالى بعدَ ذكر المهاجرين والأنصار { والذين اتَّبعوهم بإحسان } [ التوبة : 100 ] أي اتبعوهم في الإِيمان .
وإنما صيغ { جاءوا } بصيغة الماضي تغليباً لأن من العرب وغيرهم من أسلموا بعد الهجرة مثل غِفارة ، ومُزينة ، وأسلم ، ومثل عبد الله بن سَلاَم ، وسلمان الفارسي ، فكأنه قيل : الذين جاؤوا ويجيئون ، بدلالة لحن الخطاب . والمقصود من هذا : زيادة دفع إيهام أن يختص المهاجرون بما أفاء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم من أهل القرى كما اختصهم النبي صلى الله عليه وسلم بفيْء بني النضير .
وقد شملت هذه الآية كل من يوجد من المسلمين أبد الدهر ، وعلى هذا جرى فهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه . روى البخاري من طريق مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال : قال عمر : لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها ( أي الفاتحين ) كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر .
وذكر القرطبي : أن عمر دعا المهاجرين والأنصار واستشارهم فيما فتح الله عليه وقال لهم : تثبتوا الأمر وتدبروه ثم اغدوا عليَّ فلما غدَوا عليه قال : قد مررت بالآيات التي في سورة الحشر وتلا { ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى } إلى قوله : { أولئك هم الصادقون } ( 7 ، 8 ) . قال : ما هي لهؤلاء فقط وتلا قوله : والذين جاءوا من بعدهم } إلى قوله : { رؤوف رحيم } ثم قال : ما بقي أحد من أهل الإِسلام إلا وقد دخل في ذلك اهـ .
وهذا ظاهر في الفيء ، وأما ما فُتح عنوة فمسألة أخرى ولعمر بن الخطاب في عدم قسمته سوادَ العراق بين الجيش الفاتحين له عمل آخر ، وهو ليس من غرضنا . ومحله كتب الفقه والحديث .
والفريق من المفسرين الذين جعلوا قوله تعالى : { والذين تبوءوا الدار والإيمان } [ الحشر : 9 ] كلاماً مستأنفاً ، وجعل { يحبون من هاجر إليهم } [ الحشر : 9 ] خبراً عن اسم الموصول ، جعلوا قوله : { والذين جاءوا من بعدهم } كذلك مستأنفاً .
ومن الذين جعلوا قوله : { والذين تبوءوا } [ الحشر : 9 ] معطوفاً على { للفقراء المهاجرين } [ الحشر : 8 ] من جعل قوله : { والذين جاءوا من بعدهم } مستأنفاً . ونسبه ابن الفرس في « أحكام القرآن » إلى الشافعي . ورأى أن الفيء إذا كان أرضاً فهو إلى تخيير الإِمام وليس يتعين صرفه للأصناف المذكورة في فيء بني النضير .
وجملة { يقولون ربنا اغفر لنا } على التفسير المختار في موضع الحال من { الذين جاؤوا من بعدهم } .
والغلّ بكسر الغين : الحسد والبغض ، أي سألوا الله أن يطَهر نفوسهم من الغلّ والحسد للمؤمنين السابقين على ما أعطُوه من فضيلة صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وما فُضّل به بعضهم من الهجرة وبعضهم من النصرة ، فبيّن الله للذين جاؤا من بعدهم ما يكسبهم فضيلة ليست للمهاجرين والأنصار ، وهي فضيلة الدعاء لهم بالمغفرة وانطواء ضمائرهم على محبتهم وانتفاء البغض لهم .
والمراد أنهم يضمرون ما يدعون الله به لهم في نفوسهم ويرضوا أنفسهم عليه .
وقد دلت الآية على أن حقاً على المسلمين أن يَذكروا سلفهم بخير ، وأن حقاً عليهم محبة المهاجرين والأنصار وتعظيمهم ، قال مالك : من كان يبغض أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو كان قلبه عليه غل فليس له حق في فيْء المسلمين ، ثم قرأ { والذين جاءوا من بعدهم } الآية .
فلعله أخذ بمفهوم الحال من قوله تعالى : { يقولون ربنا اغفر لنا } الآية ، فإن المقصد من الثناء عليهم بذلك أن يضمروا مضمونه في نفوسهم فإذا أضمروا خلافه وأعلنوا بما ينافي ذلك فقد تخلف فيهم هذا الوصف ، فإن الفيء عطية أعطاها الله تلك الأصناف ولم يكتسبوها بحق قتال ، فاشترط الله عليهم في استحقاقها أن يكونوا محبين لسلفهم غير حاسدين لهم .
وهو يعني إلا ما كان من شنآن بين شخصين لأسباب عادية أو شرعية مثل ما كان بين العباس وعليّ حين تحاكما إلى عمر ، فقال العباس : اقض بيني وبين هذا الظالم الخائن الغادر . ومثل إقامة عمر حدّ القذف على أبي بَكرة .
وأما ما جرى بين عائشة وعليّ من النزاع والقتال وبين عليّ ومعاوية من القتال فإنما كان انتصاراً للحق في كلا رأيَي الجانبين وليس ذلك لغلّ أو تنقص ، فهو كضرب القاضي أحداً تأديباً له فوجب إمساك غيرهم من التحَزب لهم بعدهم فإنه وإن ساغ ذلك لآحادِهم لتكافىء درجاتهم أو تقاربها . والظنِّ بهم زوال الحزازات من قلوبهم بانقضاء تلك الحوادث ، لا يسوغ ذلك للأذناب من بعدهم الذين ليسوا منهم في عير ولا نفير ، وإنما هي مسحَة من حمية الجاهلية نَخرت عضد الأمة المحمدية .