{ إلا من ارتضى من رسول } إلا من يصطفيه لرسالته فيظهره على ما يشاء من الغيب لأنه يستدل على نبوته بالآية المعجزة التي تخبر عن الغيب ، { فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً } ذكر بعض الجهات دلالة على جميعها رصداً أي : يجعل بين يديه وخلفه حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين أن يسترقوا السمع ، ومن الجن أن يستمعوا الوحي فيلقوا إلى الكهنة . قال مقاتل وغيره : كان الله إذا بعث رسولاً أتاه إبليس في صورة ملك يخبره فيبعث الله من بين يديه ومن خلفه رصداً من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين ، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبره بأنه شيطان فاحذره ، وإذا جاءه ملك قالوا له : هذا رسول ربك .
{ إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } أي : فإنه يخبره بما اقتضت حكمته أن يخبره به ، وذلك لأن الرسل ليسوا كغيرهم ، فإن الله أيدهم بتأييد ما أيده أحدا من الخلق ، وحفظ ما أوحاه إليهم حتى يبلغوه على حقيقته ، من غير أن تتخبطهم الشياطين ، ولا{[1253]} يزيدوا فيه أو ينقصوا ، ولهذا قال : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } أي : يحفظونه بأمر الله ؛
وقوله : { إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } استثناء من النفى فى قوله : { فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً } .
أى : هو - سبحانه - عالم الغيب ، فلا يطلع على غيبه أحدا من خلقه ، إلا الرسول الذى ارتضاه واختاره من خلقه ، فإنه - سبحانه - قد يطلعه على بعض غيوبه ، ليكون ذلك معجزة له ، دالة على صدقه أمام قومه .
فإذا ما أراد - سبحانه - إطلاع رسوله المصطفى لحمل رسالته على بعض غيوبه ، سخر له من جميع جوانبه حرسا من الملائكة يحرسونه من وسوسة الشيطان ونوازعه ، ومن كل ما يتعارض مع توصيل وحيه - سبحانه - إلى رسله - بكل أمانة وصيانة .
ومعنى { إِلاَّ مَنِ ارتضى . . . } من اختار واصطفى واجتنبى ، وعبر عن ذلك بقوله { مَنِ ارتضى } للإِشعار بأنه - سبحانه - يخص هؤلاء الذين رضى عنهم ورضوا عنه بالاطلاع على بعض غيوبه ، على سبيل التأييد والتكريم لهم .
و " من " فى قوله { مِن رَّسُولٍ } للبيان . والمراد بالرسول هنا : ما يشمل كل رسول اختاره - سبحانه - لحمل رسالته ، سواء أكان من البشر أم من الملائكة .
والضمير فى قوله - تعالى - { فَإِنَّهُ } و { يَسْلُكُ } يعودان على الله - عز وجل - وأطلق السلك على إيصال الخبر إلى الرسول المرتضى ، للإِشعار بأن هذا الخبر الذى أطلع الله - تعالى - رسوله عليه ، قد وصل إليه وصولا مؤكدا ، ومحفوظا من كل تحريف ، كما يدخل الشئ فى الشئ دخولا تاما بقوة وضبط ، إذ حقيقة السلك . إدخال الشئ فى الشئ بشدة وعناية . .
والمراد بقوله : { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } جميع الجهات ، وعبر عن جميع الجهات بذلك ، لأن معظم ما يتعرض له الإِنسان يكون من هاتين الجهتين .
والرصد : جمع راصد ، وهو ما يحفظ الشئ ، ويصونه من كل ما لا يريده ، أى : إلا من ارتضى - سبحانه - من رسول ، فإنه - عز وجل - يطلعه على ما يشاؤه من غيوبه ، ويجعل له حراسا من جميع جوانبه ، يحفظونه من كل سوء .
قال الآلوسى : قوله : { إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ . . } أى : لكن الرسول المرتضى بظهره - جل وعلا - على بعض الغيوب المتعلقة برسالته . . إما لكون بعض هذه الغيوب من مباديها ، بأن يكون معجزة ، وإما لكونه من أركانها وأحكامها كعامة التكاليف الشرعية ، وكيفيات الأعمال وأجزيتها ، ونحو ذلك من الأمور الغيبية ، التى بيانها من وظائف الرسالة ، بأن يسلك من جميع جوانبه عند إطلاعه على ذلك ، حرسا من الملائكة يحرسونه من تعرض الشياطين ، لما أريد إطلاعه عليه . .
هناك فقط استثناء واحد . . وهو ما يأذن به الله من الغيب ، فيطلع عليه رسله ، في حدود ما يعاونهم على تبليغ دعوته إلى الناس . فما كان ما يوحي به إليهم إلا غيبا من غيبه ، يكشفه لهم في حينه ويكشفه لهم بقدر ، ويرعاهم وهم يبلغونه ، ويراقبهم كذلك . . ويؤمر الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] أن يعلن هذا في صورة جادة رهيبة :
( إلا من ارتضى من رسول ، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، وأحاط بما لديهم ، وأحصى كل شيء عددا ) . .
فالرسل الذين يرتضيهم الله لتبليغ دعوته ، يطلعهم على جانب من غيبه ، هو هذا الوحي : موضوعه ، وطريقته ، والملائكة الذين يحملونه ، ومصدره ، وحفظه في اللوح المحفوظ . . إلى آخر ما يتعلق بموضوع رسالتهم مما كان في ضمير الغيب لا يعلمه أحد منهم .
وفي الوقت ذاته يحيط هؤلاء الرسل بالأرصاد والحراس من الحفظة ، للحفظ والرقابة . يحمونهم من وسوسة الشيطان ونزغه ، ومن وسوسة النفس وتمنيتها ، ومن الضعف البشري في أمر الرسالة ، ومن النسيان أو الانحراف . ومن سائر ما يعترض البشر من النقص و الضعف . .
والتعبير الرهيب - ( فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ) . . يصور الرقابة الدائمة الكاملة للرسول ، وهو يؤدي هذا الأمر العظيم . .
وقوله : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } هذه كقوله تعالى : { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ } [ البقرة : 255 ] وهكذا قال هاهنا : إنه يعلم الغيب والشهادة ، وإنه لا يطلع أحد من خلقه على شيء من علمه إلا مما أطلعه تعالى عليه ؛ ولهذا قال :
{ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ } وهذا يعم الرسول الملكي والبشري .
ثم قال : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } أي : يختصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله ، ويساوقونه على ما معه من وحي الله ؛ ولهذا قال : { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا }
وقد اختلف المفسرون في الضمير الذي في قوله : { لِيَعْلَمَ } إلى من يعود ؟ فقيل : إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
قال ابن جرير : حدثنا ابن حميد ، حدثنا يعقوب القمي{[29395]} عن جعفر ، عن سعيد بن جبير في قوله : { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } قال : أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل ،
{ لِيَعْلَمَ } محمد صلى الله عليه وسلم { أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا }
ورواه ابن أبي حاتم من حديث يعقوب القمي{[29396]} به . وهكذا رواه الضحاك ، والسدي ، ويزيد بن أبي حبيب .
وقال عبد الرزاق ، عن مَعْمَر عن قتادة : { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ } قال : ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلغت عن الله ، وأن الملائكة حفظتها ودفعت عنها . وكذا رواه سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة . واختاره ابن جرير .
وقيل غير ذلك ، كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله : { إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا } قال : هي معقبات من الملائكة يحفظون النبي من الشيطان ، حتى يتبين الذي أرسل به إليهم ، وذلك حين يقول ، ليعلم أهل الشرك أن قد أبلغوا رسالات ربهم .
وكذا قال ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ } قال : ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم . وفي هذا نظر .
وقال البغوي : قرأ يعقوب : " ليُعلَم " بالضم ، أي : ليعلم الناس أن الرسل بُلّغوا .
ويحتمل أن يكون الضمير عائدًا إلى الله عز وجل ، وهو قول حكاه ابن الجوزي في " زاد المسير " {[29397]} ويكون المعنى في ذلك : أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته ، ويحفظ ما بُيِّن إليهم من الوحي ؛ ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، ويكون ذلك كقوله : { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ } [ البقرة : 143 ] وكقوله : { وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ } [ العنكبوت : 11 ] إلى أمثال ذلك ، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعا لا محالة ؛ ولهذا قال بعد هذا : { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا } .
إلا من ارتضى لعلم بعضه حتى يكون له معجزة من رسول بيان ل من واستدل به على إبطال الكرامات وجوابه تخصيص الرسول بالملك والإظهار بما يكون بغير وسط وكرامات الأولياء على المغيبات إنما تكون تلقيا عن الملائكة كاطلاعنا على أحوال الآخرة بتوسط الأنبياء فإنه يسلك من بين يديه من بين يدي المرتضى ومن خلفه رصدا حرسا من الملائكة يحرسونه من اختطاف الشياطين وتخاليطهم .
فقوله : { ارتضى } مستثنى من عموم { أحداً } . والتقدير : إلاّ أحداً ارتضاه ، أي اختاره للاطلاع على شيء من الغيب لحكمة أرادها الله تعالى .
والإِتيان بالموصول والصلة في قوله : { إلاّ مَن ارتضَى مِن رسول } لقصد ما تؤذن به الصلة من الإِيماء إلى تعليل الخبر ، أي يطلع الله بعض رسله لأجل ما أراده الله من الرسالة إلى النّاس ، فيُعْلم من هذا الإِيمان أن الغيب الذي يطلع الله عليه الرسل هو من نوع ما له تعلق بالرسالة ، وهو غيب ما أراد الله إبلاغه إلى الخلق أن يعتقدوه أو أن يفعلوه ، وما له تعلق بذلك من الوعد والوعيد من أمور الآخرة ، أو أمور الدنيا ، وما يؤيد به الرسل عن الإِخبار بأمور مغيبة كقوله تعالى : { غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين } [ الروم : 24 ] .
والمراد بهذا الإِطلاعُ المحقق المفيد علماً كعلم المشاهدة . فلا تشمل الآية ما قد يحصل لبعض الصالحين من شرح صدر بالرؤيا الصادقة ، ففي الحديث : « الرؤيا الصالحة من الرجل الصالح جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوءة ، أو بالإِلهام » قال النبي صلى الله عليه وسلم « قد كان يكون في الأمم قبلكم محدِّثون فإن يَكُنْ في أمتِي منهم أحد فإن عمر بن الخطاب منهم » رواه مسلم . قال مسلم : قال ابن وهب : تفسير محدثون : ملهِمون .
وقد قال مالك في الرؤيا الحسنة : أنها تسرُّ ولا تغرُّ ، يريد لأنها قد يقع الخطأ في تأويلها .
و { مِن رسول } بيان لإِبهام { مَنْ } الموصولة ، فدل على أن مَا صْدَقَ { مَن } جماعةٌ من الرسل ، أي إلاّ الرسل الذين ارتضاهم ، أي اصطفاهم .
وشمل { رسول } كلّ مرسل من الله تعالى فيشمل الملائكة المرسلين إلى الرسل بإبلاغ وحي إليهم مثل جبريل عليه السلام . وشمل الرسل من البشر المرسلين إلى الناس بإبلاغ أمر الله تعالى إليهم من شريعة أو غيرها مما به صلاحهم .
الأول ضمير { فإنه } وهو عائد إلى الله تعالى .
والثاني الضمير المستتِر في { يسلك } وهو لا محالة عائد إلى الله تعالى كما عاد إليه ضمير { فإنه } .
والثالث والرابع ضميرَا { من بين يديه ومن خلفه } ، وهما عائدان إلى { رسول } أي فإن الله يسلك أي يرسل للرسول رصَداً من بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم ومن خلفه رصداً ، أي ملائكة يحفظون الرسول صلى الله عليه وسلم من إلقاء الشياطين إليه ما يخلط عليه ما أطلعه الله عليه من غيبه .
والسّلْك حقيقته : الإِدخال كما في قوله تعالى : { كذلك نسْلكه في قلوب المجرمين } في سورة الحجر ( 12 ) .
وأطلق السَّلك على الإِيصال المباشر تشبيهاً له بالدخول في الشيء بحيث لا مصرف له عنه كما تقدم آنفاً في قوله : { ومن يعرض عن ذكر ربه نسلكه عذاباً صعَدَاً } [ الجن : 17 ] أي يرسل إليه ملائكة متجهين إليه لا يبتعدون عنه حتى يَبْلُغَ إليه ما أُوحي إليه من الغيب ، كأنّهم شبه اتصالهم به وحراستهم إياه بشيء داخل في أجزاء جسم . وهذا من جملة الحفظ الذي حفظ الله به ذكره في قوله : { إنا نحن نزلنا الذّكر وإنا له لحافظون } [ الحجر : 9 ] .
والمراد ب { مِن بين يديه ومن خلفه } الكناية عن جميع الجهات ، ومن تلك الكناية ينتقل إلى كناية أخرى عن السلامة من التغيير والتحريف .
والرصد : اسم جمع كما تقدم آنفاً في قوله : { يجد له شهاباً رصداً } [ الجن : 9 ] . وانتصب { رصداً } على أنه مفعول به لفعل { يسلك .