تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ فَإِنَّهُۥ يَسۡلُكُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ رَصَدٗا} (27)

25

المفردات :

ارتضى : اختار واصطفى .

رصدا : حفظة .

التفسير :

27- إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا .

اختص الله وحده بعلم الغيب ، لكن من ارتضاه سبحانه واختاره لرسالته ، سواء أكان من الملائكة كجبريل ، أم من البشر كمحمد صلى الله عليه وسلم ، فإن الله تعالى يعلمه بشيء من الغيب ، بالطريقة التي يختارها الله ، وفي الوقت الذي يشاؤه الله ، وعندما ينتقل الوحي أو الغيب إلى الرسول من الملائكة أو إلى الرسول من البشر فإن الله تعالى ييسر له حراسة مترصّدة تحفظه من جميع الجهات ، ليظلّ الوحي في مكان أمين حتى يصل إلى البشر غير مختلط بمعرفة الشياطين له .

وعن الضحاك : ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين ، الذين يتشبّهون بصورة الملك ، فإذا جاء شيطان في صورة الملك ، قالوا : هذا شيطان فاحذره ، وإن جاء الملك قالوا : هذا رسول ربك .

والخلاصة : إن الله تعالى يسخّر حفظة من الملائكة ، يحفظون قواه الظاهرة والباطنة من الشياطين ، ويعصمونه من وساوسهم .

وفي الآيتين ( 26 ، 27 ) من سورة الجن دليل على أن الرسل –عليه السلام- مؤيدون بالمعجزات ، ومنها الإخبار عن بعض المغيبات .

قال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام : وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم . . . ( آل عمران : 49 ) .

وفي قوله تعالى : إلا من ارتضى من رسول . . .

إشارة إلى إبطال الكهانة والسحر والتنجيم ، لأن أصحابها أبعد شيء عن ارتضاء الله ، وأدخل ما يكون في سخطه وغضبه .

وقد أفاد القرطبي في تفسير الآيتين أن الغيب لله وحده لا يطّلع عليه إلا من ارتضى من رسله ، وليس المنجم ومن ضاهاه ، ممن يضرب بالحصى ، وينظر في الكتب ، ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول ، فيطلعه على ما يشاء من غيبه ، بل هو كافر بالله ، مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه ، وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان ، على اختلاف أحوالهم وطوالعهم ، وتباين مواليدهم ، ودرجات نجومهم ، فعمّهم حكم الغرق في ساعة واحدة ، فلا فائدة أبدا في عمل المواليد ، ولا دلالة على شقي ولا سعيد ، ولم يبق إلا معاندة القرآن العظيم ، وفيه استحلال دمه على هذا التنجيم .

قل للمنجم صبحة الطوفان هل *** ولد الجميع بكوكب الغرق

( وقيل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج : أتلقاهم والقمر في العقرب ؟ فقال رضي الله عنه : فأين قمرهم ؟ وكان ذلك في آخر الشهر .

فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها ، وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم ، والإفحام لكل جاهل يحقق أحكام النجوم .

وقال له مسافر بن عوف : يا أمير المؤمنين ، لا تسر في هذه الساعة ، وسر في ثلاث ساعات يمضين من النهار . فقال له علي رضي الله عنه : ولم ؟ قال : إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضرّ شديد ، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت وظهرت وأصبت ما طلبت . فقال علي رضي الله عنه : ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده -في كلام طويل يحتج فيه بآيات من التنزيل- فمن صدّقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله ندّا أو ضدّا ، اللهم لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك . ثم قال للمتكلم : نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها . ثم أقبل على الناس فقال : يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر ، وإنما المنجم كالساحر ، والساحر كالكافر ، والكافر في النار ، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم وتعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت ، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان . ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها ، ولقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في الصحيح لمسلم .

ثم قال : لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا لقال قائل : سار في الساعة التي أمر بها المنجم . ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده ، فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان ، ثم قال : يا أيها الناس ، توكلوا على الله وثقوا به ، فإنه يكفي ممن سواه )xi .