اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ فَإِنَّهُۥ يَسۡلُكُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ رَصَدٗا} (27)

قوله : { إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } . يجوز أن يكون استثناء منقطعاً ، أي لكن من ارتضاه فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه بالوحي و " مِنْ " في قوله : " مِنْ رسُولٍ " لبيان المرتضين وقوله : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ } بيان لذلك .

وقيل : هو متصل ، و «رَصَداً » تقدم الكلام عليه .

ويجوز أن تكون «مِنْ » ، شرطية ، أو موصولة مضمنة معنى الشرط ، وقوله «فإنَّهُ » خبر المبتدأ على القولين ؛ وهو من الاستثناء المنقطع أيضاً ، أي : لكن ، والمعنى : لكن من ارتضاه من الرسل ، فإنَّه يجعل له ملائكة رصداً يحفظونه .

فصل في الكرامات

قال الزمخشريُّ : «في هذه الآية إبطال الكرامات ؛ لأن الذين تضاف إليهم الكرامات ، وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل ، وقد خصَّ الله الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب وفيها أيضاً إبطال الكهانة والتنجيم لأن أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء ، وأدخل في السخط » .

قال الواحديُّ : وفيها دليل على أن من ادعى أنَّ النجوم تدل على ما يكون من حياة ، أو موت ، أو غير ذلك فقد كفر بما في القرآن .

قال ابن الخطيب{[58234]} : واعلم أن الواحديَّ يجوز الكرامات ، وأن يلهم الله أولياءه وقوع بعد الوقائع في المستقبل ونسبة الآية في الصورتين واحدة فإن جعل الآية دالة على المنع من أحكام النجوم ، فينبغي أن يجعلها دالة على المنع من الكرامات على ما قاله الزمخشريُّ ، فإن جوَّز الكرامات لزمه تجويز علم النجوم وتفريقه بينهما تحكم محض .

قال ابن الخطيب : وعندي لا دلالة في الآية على شيء مما قالوه ، إذ لا صيغة عموم في عينه لأنه لفظ مفرد مضاف فيحمل على غيب واحد ، وهو وقت القيامة لأنه واقع بعد قوله { أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ } الآية .

فإن قيل : فما معنى الاستثناء حينئذ ؟ .

قلنا : لعله إذا قربت القيامةُ يظهر ، وكيف لا ، وقد قال : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً }[ الفرقان : 25 ] فتعلم الملائكة حينئذ قيام القيامة ، أو هو استثناء منقطع أي : من ارتضاه من رسول يجعل من بين يديه ، ومن خلفه حفظة يحفظونه بأمر الله من شر مردة الجنِّ والإنس ، ويدل على أنه ليس المراد منه ألا يطلع أحد على شيء من المغيبات أنه ثبت بما يقارب التواتر أن «شقّاً وسطيحاً » كانا كاهنين وقد عرفا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم قبل ظهوره وكانا مشهورين بهذا العلم عند العرب حتَّى يرجع إليهما كسرى ، وربيعة بن مضر ، فثبت أن اللَّه تعالى قد يطلع غير الرسل على شيء من المغيبات ، وأيضاً هل المللِ على أن معبر الرؤيا ، يخبر عن أمور مستقبلة ، ويكون صادقاً فيه ، وأيضاً : قد نقل السلطان سنجر بن ملك شاه كاهنة من بغداد إلى خراسان وسألها عن أمور مستقبلة فأخبرته بها فوقعت على وفق كلامها .

قال ابن الخطيب{[58235]} : وأخبرني أناس محققون في علم الكلام والحكمة أنها أخبرت عن أمور غائبة بالتفصيل فكانت على وفق خبرها .

وبالغ أبو البركات في كتاب «المعتبر » في شرح حالها وقالت : تفحصت عن حالها ثلاثين سنة ، فتحققت أنها كانت تخبر عن المغيبات إخباراً مطابقاً ، وأيضاً فإنّا نشاهد ذلك في أصحاب الإلهامات الصادقة ، وقد يوجد ذلك في السحرة أيضاً ، وقد ترى الأحكام النجومية مطابقة وإن كانت قد تتخلف ، فإن قلنا : إن القرآن يدل على خلاف هذه الأمور المحسوسة لتطرق الطعن إلى القرآن فيكون التأويل ما ذكرناه .

فصل في معنى الآية

قال القرطبيُّ{[58236]} : المعنى { فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه ، لأن الرسل مؤيدون بالمعجزات ، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات كما ورد في التنزيل في قوله : { وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ }[ آل عمران : 49 ] .

وقال ابن جبير : { إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } هو جبريل - عليه السلام - وفيه بعد ، والأولى أن يكون المعنى لا يظهر على غيبه إلا من ارتضى ، أي : اصطفاه للنبوة فإنه يطلعه على ما يشاء من غيبه ليكون ذلك دالاً على نبوته .

فصل في استئثار الله بعلم الغيب

ذكر القرطبيُّ{[58237]} أن العلماء قالوا : لما تمدح الله سبحانه وتعالى بعلم الغيب واستأثره دون خلقه ، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل ، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم ، وجعله معجزة لهم ، ودلالة صادقة على نبوتهم ، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصى وينظر في الكواكب ويزجر بالطير من ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وبتخمينه وكذبه .

قال بعض العلماء : وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفو الأحوال والرتب فيهم الملك ، والسوقة ، والظالم ، والجاهل ، والعالم والغني ، والفقير ، والكبير مع اختلاف طوالعهم ، وتباين مواليدهم ، ودرجات نجومهم ، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة ، فإن قال : إنما أغرقهم الطالع الفلاني الذي ركبوا فيه ، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام هذه الطوالع كلِّها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم ، وما يقتضيه طالعه المخصوص به ، فلا فائدة إذ ذاك في عمل المواليد ، ولا دلالة فيها على شقي ، ولا سعيد ، ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم ؛ ولقد أحسن القائل : [ الكامل ]

4917 - حَكَمَ المُنجِّمُ أنَّ طَالعَ مَولِدِي*** يَقْضِي عَليَّ بِمَيتَةِ الغَرقِ

قُلْ للمُنَجِّمِ صِبْحَةَ الطُّوفانِ هَلْ*** وُلِدَ الجَمِيعُ بكَوكَبِ الغَرقِ ؟{[58238]}

وقيل لعلي - رضي الله عنه - لما أراد لقاء الخوارج : أتلقاهم والقمر لفي العقرب ؟ فقال : فأين قمرهم ؟{[58239]} وكان ذلك في آخر الشهر{[58240]} . فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها ، وما فيها من البلاغة في الرد على من يقول بالتنجيم ، وقال له مسافر بن عوف : يا أمير المؤمنين ، لا تسرِ في هذه الساعة وسِرْ بعد ثلاث ساعات يمضين من النهار ، فقال له علي - رضي الله عنه - : ولم ؟ .

قال : إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك ، وأصاب أصحابك بلاءٌ ، وضر شديد ، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظفرت ، وظهرت وأصبت ما طلبت ، فقال علي - رضي الله عنه - : ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لأصحابه منجم ، ولا لنا من بعده . ثم قال : فمن صدقك في هذا القول لن آمن عليه أن يكون كمن اتخذ من دون الله نداً ، وضداً ، اللَّهُمَّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ثم قال للمتكلم : نكذبك ، ونخالفك ، ونسير في الساعة التي تنهاها عنها ، ثم أقبل على الناس فقال : أيها الناس ، إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدوا به في ظلمات البر والبحر ، إنما المنجم كافر ، والكافر في النار ، والمنجم كالساحر ، والساحر في النار ، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم ، أو تعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيتُ ، وبقيت ، ولأحرمنَّك العطاء ، ما كان لي سلطان ، ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم ، وهو وقعة «النَّهروان » الثابتة في «صحيح مسلم » ، ثم قال : لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها ، وظفرنا ، وظهرنا لقال : إنَّما كان ذلك تنجيمي وما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ، ولا لنا من بعده ، وقد فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان ، ثم قال : يا أيها الناسُ ، توكلوا على الله وثقوا به ، فإنه يكفي ممن سواه .

قوله : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } ، يعني : ملائكة يحفظونه من أن يقرب منه شيطان ، فيحفظ الوحي من استراق الشياطين والإلقاء إلى الكهنة .

قال الضحاك : ما بعث الله نبياً إلى ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين ، أن يتشبهوا له بصورة الملك فإذا جاءه شيطان في صورة الملك ، قالوا : هذا شيطان فاحذره ، وإن جاء الملك قالوا : هذا رسول ربِّك{[58241]} .

وقال ابن عباس وابن زيد : «رَصَداً » ، أي : حفظةُ يحفظون النبي صلى الله عليه وسلم من أمامه ، وورائه من الجن ، والشياطين{[58242]} .

وقال قتادة وسعيد بن المسيِّب : هم أربعة من الملائكة حفظة يحفظون الوحي بما جاء من عند الله{[58243]} .

وقال الفرَّاءُ : فالمراد جبريل كان إذا نزل بالرسالة نزل معه ملائكة يحفظونه من أن يستمع الجن الوحي ، فيلقونه إلى كهنتهم ، فيسبقوا به الرسول .

وقال السديُّ : «رَصَداً » أي : حفظة يحفظون الوحي ، مما جاء من عند الله ، وما ألقاه الشيطان قالوا : إنه من الشيطان ، و «رَصَداً » نصب على المفعول .

قال الجوهريُّ{[58244]} : «والرَّصدُ : القوم يرصدون كالحرس ، يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث وربما قالوا : أرصاد ، والرّاصد للشيء : الراقب له ، يقال : رصده يرصده رصْداً ورصَداً ، والتَّرصُّد : الترقب ، والمرصد : موضع الرصد » .


[58234]:ينظر: الفخر الرازي 30/148.
[58235]:السابق 30/149.
[58236]:الجامع لأحكام القرآن 19/19.
[58237]:السابق.
[58238]:ينظر: القرطبي 19/19.
[58239]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (19/19).
[58240]:في أ: السنة.
[58241]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/276) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/439) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.
[58242]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/276).
[58243]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/277) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/438) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة".
[58244]:ينظر: الصحاح 2/474.