السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{إِلَّا مَنِ ٱرۡتَضَىٰ مِن رَّسُولٖ فَإِنَّهُۥ يَسۡلُكُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦ رَصَدٗا} (27)

وقال القرطبي : المعنى { فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول } فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه لأنّ الرسل مؤيدون بالمعجزات ، ومنها الإخبار عن بعض المغيبات كما ورد في التنزيل في قوله تعالى : { وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم } [ آل عمران : 49 ] .

وقال الزمخشري : في هذه الآية إبطال الكرامات لأنّ الذين تضاف إليهم وإن كانوا أولياء مرتضين فليسوا برسل ، وقد خص الله تعالى الرسل من بين المرتضين بالاطلاع على الغيب ، وفيها إبطال الكهانة والتنجيم لأنّ أصحابهما أبعد شيء من الارتضاء وأدخله في السخط ا . ه . وإنكار الكرامات مذهب المعتزلة .

وأمّا مذهب أهل السنة فيثبتونها ، فإنه يجوز أن يلهم الله تعالى بعض أوليائه وقوع بعض الوقائع في المستقبل فيخبر به وهو من إطلاع الله إياه على ذلك ، ويدل على صحة ذلك ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «لقد كان فيمن قبلكم من الأمم ناس محدثون من غير أن يكونوا أنبياء وإن يكن في أمّتي أحد فإنه عمر » أخرجه البخاري . قال ابن وهب : تفسير محدثون ملهمون ولمسلم عن عائشة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : «في الأمم قبلكم محدثون ، فإن يكن في أمّتي منهم أحد ، فإنّ عمر بن الخطاب منهم » ففي هذا إثبات كرامات الأولياء .

فإن قيل : لو جازت الكرامة للولي لما تميزت معجزة النبي من غيرها وانسدّ الطريق إلى معرفة الرسول من غيره ؟ أجيب : بأنّ معجزة النبي أمر خارق للعادة مع عدم المعارضة مقترن بالتحدّي ، ولا يجوز للولي أن يدّعي خرقاً للعادة مع التحدّي إذ لو ادعاه الولي لكفر من ساعته فبان الفرق بين المعجزة والكرامة . وأمّا الكهانة وما ضاهاها فقال القرطبي : إنّ العلماء قالوا لما تمدّح سبحانه بعلم الغيب واستأثر به دون خلقه كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيب أحد سواه ، ثم استثنى من ارتضاه من الرسل ، فأعلمهم ما شاء من غيبه بطريق الوحي إليهم وجعله معجزة لهم ودلالة صادقة على نبوّتهم ، وليس المنجم ومن ضاهاه ومن يضرب بالحصا وينظر في الكواكب ويزجر بالطير ممن ارتضاه من رسول فيطلعه على ما يشاء من غيبه ، بل هو كافر بالله مفتر عليه بحدسه وتخمينه وكذبه .

قال بعض العلماء : وليت شعري ما يقول المنجم في سفينة ركب فيها ألف إنسان مختلفي الأحوال والرتب ، فيهم الملك والسوقة والعالم والجاهل والغني والفقير والكبير والصغير مع اختلاف طوالعهم وتباين مواليدهم ودرجات نجومهم ، فعمهم حكم الغرق في ساعة واحدة ، فإن قال قائل : إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه فيكون على مقتضى ذلك أنّ هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم ، وما يقتضيه طالعه المخصوص به ، فلا فائدة إذاً في عمل المواليد ولا دلالة فيها على شقي وسعيد ولم يبق إلا معاندة القرآن الكريم ، ولقد أحسن القائل :

حكم المنجم إن طالع مولدي *** يقضي علي بميتة الغرق

قل للمنجم صبحة الطوفان هل *** ولد الجميع بكوكب الغرق

وقيل لعلي رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج : تلقهم والقمر في العقرب ، فقال : فأين قمرهم وكان ذلك في آخر السنة . فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها وما فيها من المبالغة في الردّ على من يقول بالنجم . وقال له مسافر بن عون : يا أمير المؤمنين لا تسر في هذه الساعة وسر بعد ثلاث ساعات تمضين من النهار . فقال له عليّ : ولم ؟ قال له : إنك إن سرت في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاء وضر شديد ، وإن سرت في الساعة التي أمرتك بها ظهرت وظفرت وأصبت ما طلبت ، فقال عليّ : ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجم ولا لنا من بعده ، ثم قال : فمن صدقك في هذا القول لم آمن عليه أن يكون اتخذ من دون الله ندّاً أو ضدّاً ، اللهمّ لا طير إلا طيرك ولا خير إلا خيرك ، ثم قال للمتكلم : نكذبك ونخالفك ونسير في الساعة التي تنهانا عنها ، ثم أقبل على الناس فقال : يا أيها الناس إياكم وتعلم النجوم إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر إنما المنجم كالكافر ، والكافر في النار ، والمنجم كالساحر والساحر في النار ، والله لئن بلغني أنك تنظر في النجوم أو تعمل بها لأخلدنك في الحبس ما بقيت وبقيت ، ولأحرمنك العطاء ما كان لي سلطان . ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها فلقي القوم فقتلهم وهي وقعة النهروان الثابتة في صحيح مسلم ثم قال : «لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا لقال : إنما كان ذلك بتنجيمي ، وما لمحمد منجم وما لنا بعده ، وقد فتح الله تعالى علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان ، ثم قال : يا أيها الناس توكلوا على الله وثقوا به فإنه يكفي عمن سواه » .

{ فإنه } أي : الله سبحانه يظهر ذلك الرسول على ما يريد من ذلك الغيب ، وذلك أنه إذا أراد إظهاره عليه { يسلك } أي : يدخل إدخال السلك في الجوهرة في تقوّمه ونفوذه من غير أدنى تعويج إلى غير المراد { من بين يديه } أي : الجهة التي يعلمها ذلك الرسول { ومن خلفه } أي : الجهة التي تغيب عن علمه ، فصار ذلك كناية عن كل جهة . قال البقاعي : ويمكن أن يكون ذكر الجهتين دلالة على الكل ، وخصهما لأنّ العدو متى أعريت واحدة منهما أتى منها ، ومتى حفظتا لم يأت من غيرهما لأنه يصير بين الأوّلين والآخرين { رصداً } أي : حرساً من جنوده يحرسونه ويحفظونه من الشياطين أن يسترقوا السمع من الملائكة ويحفظونه من الجنّ أن يسمعوا الوحي فيلقوه إلى الكهنة قبل الرسول ، فيطردونهم عنه ويعصمونه من وساوسهم حتى يبلغ ما يوحى إليه .

وقال مقاتل وغيره : كان الله إذا بعث رسولاً أتاه إبليس في صورة ملك بخبر ، فبعث الله تعالى من بين يديه ومن خلفه رصداً من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين ، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان فاحذره ، وإذا جاءه ملك قالوا له : هذا رسول ربك . وعن الضحاك : ما بعث نبي إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبهوا بصورة الملك .