قوله تعالى : { فتعالى الله الملك الحق } ، جل الله عن إلحاد الملحدين وعما يقوله المشركون ، { ولا تعجل بالقرآن } ، أراد النبي صلى الله عليه وسلم ، كان إذا نزل عليه جبريل بالقرآن يبادر فيقرأ معه قبل أن يفرغ جبريل مما يريد من التلاوة ومخافة الانفلات والنسيان ، فنهاه الله عن ذلك وقال ( ولا تعجل بالقرآن ) أي : لا تعجل بقراءته { من قبل أن يقضى إليك وحيه } ، أي من قبل أن يفرغ جبريل من الإبلاغ ، نظيره قوله تعالى : ( لا تحرك به لسانك لتعجل به ) وقرأ يعقوب : نقضي بالنون وفتحها وكسر الضاد ، وفتح الياء وحيه بالنصب . وقال مجاهد ، وقتادة معناه لا تقرئه أصحابك ، ولا تمله عليهم حتى يتبين لك معانيه . { وقل رب زدني علماً } يعني بالقرآن ومعانيه . وقيل : علماً إلى ما علمت . وكان ابن مسعود إذا قرأ هذه الآية قال : اللهم رب زدني إيماناً ويقيناً .
{ 114 } { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا }
لما ذكر تعالى حكمه الجزائي في عباده ، وحكمه الأمري الديني ، الذي أنزله في كتابه ، وكان هذا من آثار ملكه قال : { فَتَعَالَى اللَّهُ } أي : جل وارتفع وتقدس عن كل نقص وآفة ، { الْمُلْكُ } الذي الملك وصفه ، والخلق كلهم مماليك له ، وأحكام الملك القدرية والشرعية ، نافذة فيهم .
{ الْحَقُّ } أي : وجوده وملكه وكماله حق ، فصفات الكمال ، لا تكون حقيقة إلا لذي الجلال ، ومن ذلك : الملك ، فإن غيره من الخلق ، وإن كان له ملك في بعض الأوقات ، على بعض الأشياء ، فإنه ملك قاصر باطل يزول ، وأما الرب ، فلا يزال ولا يزول ملكا حيا قيوما جليلا .
{ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } أي : لا تبادر بتلقف القرآن حين يتلوه عليك جبريل ، واصبر حتى يفرغ منه ، فإذا فرغ منه فاقرأه ، فإن الله قد ضمن لك جمعه في صدرك وقراءتك إياه ، كما قال تعالى : { لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } ولما كانت عجلته صلى الله عليه وسلم ، على تلقف الوحي ومبادرته إليه ، تدل على محبته التامة للعلم وحرصه عليه ، أمره الله تعالى أن يسأله زيادة العلم ، فإن العلم خير ، وكثرة الخير مطلوبة ، وهي من الله ، والطريق إليها الاجتهاد ، والشوق للعلم ، وسؤال الله ، والاستعانة به ، والافتقار إليه في كل وقت .
ويؤخذ من هذه الآية الكريمة ، الأدب في تلقي العلم ، وأن المستمع للعلم ينبغي له أن يتأنى ويصبر حتى يفرغ المملي والمعلم من كلامه المتصل بعضه ببعض ، فإذا فرغ منه سأل إن كان عنده سؤال ، ولا يبادر بالسؤال وقطع كلام ملقي العلم ، فإنه سبب للحرمان ، وكذلك المسئول ، ينبغي له أن يستملي سؤال السائل ، ويعرف المقصود منه قبل الجواب ، فإن ذلك سبب لإصابة الصواب .
ثم أثنى - سبحانه - على ذاته بما يستحقه من صفات كريمة فقال : { فتعالى الله الملك الحق } .
أى : فجعل وعظم شأن الله - سبحانه - عن إلحاد الملحدين ، وإشراك المشركين فإنه هو وحده { الملك } المتصرف فى شئون خلقه ، وهو وحده الإله { الحق } وكل ما سواه فهو باطل .
ثم أرشد الله - تعالى - نبيه - صلى الله عليه وسلم - إلى كيفية تلقى القرآن من جبريل - عليه السلام - فقال : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ . . . } .
أى : ولا تتعجل بقراءة القرآن من قبل أن ينتهى جبريل من إبلاغه إليك ، قالوا : وكان النبى - صلى الله - عليه وسلم كلما قرأ عليه جبريل آية قرأها معه ، وذلك لشدة حرصه على حفظ القرآن ، ولشدة شوقه إلى سماعه ، فأرشده الله - تعالى - فى هذه الآية إلى كيفية تلقى القرآن عن جبريل ، ونهاه عن التعجل فى القراءة .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } ثم أمر - سبحانه - نبيه - صلى الله عليه وسلم - : أن يسأله المزيد من العلم فقال : { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } .
أى : وقل - أيها الرسول الكريم - مخاطبا ربك ومتوسلا إليه ، يا رب زدنى من علمك النافع .
قال الآلوسى : واستدلوا بالآية على فضل العلم حيث أمر - صلى الله عليه وسلم - بطلب الزيادة منه ، وذكر بعضهم أنه - صلى الله عليه وسلم - ما أمر بطلب الزيادة من شىء سوى العلم . وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول : " اللهم انفعنى بما علمتنى ، وعلمنى بما ينفعنى ، وزدنى علما " وكان يقول : " الله زدنى إيمانا وفقها ويقينا وعلما " .
( فتعالى الله الملك الحق . ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه . وقل : رب زدني علما ) . .
فتعالى الله الملك الحق الذي تعنو له الوجوه ؛ ويخيب في حضرته الظالمون ويأمن في ظله المؤمنون الصالحون . . هو منزل هذا القرآن من عليائه ، فلا يعجل به لسانك ، فقد نزل القرآن لحكمة ، ولن يضيعه . إنما عليك أن تدعو ربك ليزيدك من العلم ، وأنت مطمئن إلى ما يعطيك ، لا تخشى عليه الذهاب . وما العلم إلا ما يعلمه الله فهو الباقي الذي ينفع ولا يضيع . ويثمر ولا يخيب .
{ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ } أي : تنزه وتقدس{[19514]} الملك الحق ، الذي هو حق ، ووعده حق ، ووعيده حق ، ورسله حق ، والجنة حق ، والنار حق ، وكل شيء منه حق . وعدله تعالى ألا يعذب أحدًا قبل الإنذار وبعثة الرسل والإعذار إلى خلقه ؛ لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة .
وقوله : { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } كقوله تعالى في سورة " لا أقسم بيوم القيامة " { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 16 - 19 ] ، وثبت في الصحيح عن ابن عباس ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعالج من الوحي شدّة ، فكان مما يحرّك لسانه ، فأنزل{[19515]} الله هذه الآية{[19516]} يعني : أنه ، عليه السلام ، كان إذا جاءه جبريل بالوحي ، كلما قال جبريل آية قالها معه ، من شدّة حرصه على حفظ{[19517]} القرآن ، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه ؛ لئلا يشق عليه . فقال : { لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } أي : أن نجمعه في صدرك ، ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئًا ، { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وقال في هذه الآية : { وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } أي : بل أنصت ، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده ، { وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا } أي : زدني منك علمًا .
قال ابن عُيَيْنَة ، رحمه الله : ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة [ من العلم ]{[19518]} حتى توفاه الله عز وجل .
ولهذا جاء في الحديث : " إن الله تابع الوحي على رسوله ، حتى كان الوحي أكثر ما كان يوم تُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم{[19519]} وقال ابن ماجه : حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة ، حدثنا عبد الله بن نُمَيْر ، عن موسى بن عبيدة ، عن محمد بن ثابت ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " اللهم انفعني بما علَّمتني ، وعلمني ما ينفعني ، وزدني علمًا ، والحمد لله على كل حال " {[19520]} .
وأخرجه الترمذي ، عن أبي كُرَيْب ، عن عبد الله بن نُمَيْر ، به . وقال : غريب من هذا الوجه . ورواه البزار عن عمرو بن علي الفلاس ، عن أبي عاصم ، عن موسى بن عبيدة ، به . وزاد في آخره : " وأعوذ بالله من حال أهل النار " .
{ فتعالى الله } في ذاته وصفاته عن مماثلة المخلوقين لا يماثل كلامه كلامهم كما لا تماثل ذاته ذاتهم . { الملك } النافذ أمره ونهيه الحقيق بأن يرجى وعده ويخشى وعيده . { الحق } في ملكوته يستحقه لذاته ، أو الثابت في ذاته وصفاته { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } نهي عن الاستعجال في تلقي الوحي من جبريل عليه السلام ومساوقته في القراءة حتى يتم وحيه بعد ذكر الإنزال على سبيل الاستطراد . وقيل نهي عن تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتي بيانه . { وقل رب زدني علما } أي سل الله زيادة العلم بدل الاستعجال فإن ما أوحي إليك تناله لا محالة .
وقوله { فتعالى الله الملك الحق } ختم للقول لأنه لما قدم صفة سلطانه يوم القيامة وعظم قدرته وذلة عبيده وحسن تلطفه بهم ختم ذلك بهذه الكلمة وجعل بعد ذلك الأمر بنوع آخر من القول . وقوله تعالى : { ولا تعجل بالقرآن } قالت فرقة سببه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاف وقت تكلم جبريل له أن ينسى أول القرآن فكان يقرأ قبل أن يستتم جبريل عليه السلام الوحي فنزلت في ذلك{[8164]} ، وهي على هذا في معنى قوله تعالى : { لا تحرك به لسانك لتعجل به }{[8165]} [ القيامة : 16 ] وقالت فرقة سبب هذه الآية أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليه القرآن أمر بكتبه للحين فأمره الله تعالى في هذه الآية أن يتأنى حتى يفسر له المعاني وتقرر عنده{[8166]} ، وقالت فرقة سبب الآية أن امرأة شكت إلى النبي صلى لله عليه وسلم أن زوجها لطمها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينكما القصاص ثم نزلت { الرجال قوامون على النساء }{[8167]} [ النساء : 34 ] ، ونزلت هذه بمعنى الأمر بالتثبت في الحكم بالقرآن حتى يبين{[8168]} والله أعلم . وقرأ الجمهور «من قبل أن يقضي إليك وحيه » وقرأ عبد الله بن مسعود «من قبل أن نقضي إليك وحيه » . وباقي الآية بين رغبة في خير .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فارتفع الذي له العبادة من جميع خلقه، الملك الذي قهر سلطانه كلّ ملك وجبار، الحقّ عما يصفه به المشركون من خلقه. "وَلا تَعْجَلْ بالقُرآنِ مِنْ قَبْلِ أنْ يُقْضَى إلَيْكَ وَحْيُهُ ": يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تعجل يا محمد بالقرآن، فتقرئه أصحابك، أو تقرأ عليهم، من قبل أن يوحى إليك بيان معانيه، فعوتب على إكتابه وإملائه ما كان الله ينزله عليه من كتابه مَنْ كان يُكْتِبه ذلك، من قبل أن يبين له معانيه، وقيل: لا تتله على أحد، ولا تمله عليه، حتى نبينه لك...
عن ابن جُريج، قال: يقول: لا تتله على أحد حتى نتمه لك...
"وَقُلْ رَبّ زِدْنِي عِلْما" يقول تعالى ذكره: وقل يا محمد: ربّ زدني علما إلى ما علمتني أمره بمسألته من فوائده العلم ما لا يعلم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} يحتمل ما قاله أهل التأويل: إن جبريل كان إذا أتاه بالسورة وبالآي فيتلوها كلها، فلا يفرغ جبريل من التلاوة حتى يتلوها رسول الله صلى الله عليه وسلم [من أولها] مخافة أن ينساها. فأنزل الله: {ولا تعجل بالقرآن} فتقرأه {من قبل أن} يفرغ من تلاوته عليك، وقد أمنه من النسيان بقوله: {سنقرئك فلا تنسى} [الأعلى: 6] وقوله: {لا تحرك به لسانك لتعجل به} [القيامة: 16].
ثم أمره عز وجل أن يسأله أن يزيد له علما [بقوله] {وقل رب زدني علما}...
وقوله تعالى: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى وحيه} جائز ما قاله أهل التأويل: أنه كان يتلو مع تلاوة جبريل، فقال له: {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه} إن ثبت عنه أنه كان يتلو مع تلاوة جبريل: وجائز النهي من غير أن كان منه ما ذكر، والله أعلم، على ما نهي هو عن أشياء من غير أن كان منه ذلك.
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ} أي بقراءة القرآن {مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} من قبل أن يفرغ جبرئيل من تلاوته عليك. {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} بالقرآن أي فهماً، وقيل: حفظاً. ونظيرها قوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] الآية.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تعالى اللَّهُ في كبريائه؛ وكبرياؤه: سناؤه وعُلاه ومَجْدُه ورِفْعَتُه وعظَمَتُه، كل ذلك بمعنى واحد، وهو استحقاقه لأوصاف الجلال والتعظيم. و {المَلِكُ}: مبالغةً من المالك، وحقيقة الملك القدرة على الإيجاد، والانفراد بذلك. و {الحَقُّ}: في وصفه -سبحانه- بمعنى الموجود، ومنه قوله عليه السلام:"العين حق" أي موجود. ويكون الحق بمعنى ذي الحقِّ، ويكون بمعنى مُحِقِّ الحق.. كل ذلك صحيح...
{وَلاَ تَعْجَلْ بِالقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلماً}. كان يتعجل بالتلقف من جبريل مخافَة النسيان، فأَمَرَه بالتثبت في التلقين، وأَمَّنَه من طوارِق النسيان، وعرَّفه أن الذي يحفظ عليه ذلك هو الله.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فتعالى الله الملك الحق} استعظام له ولما يصرِّف عليه عباده من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده والإدارة بين ثوابه وعقابه على حسب أعمالهم، وغير ذلك مما يجري عليه أمر ملكوته.
ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد: وإذا لقنك جبريل ما يوحى إليك من القرآن، فتأنّ عليك ريثما يسمعك ويفهمك، ثم أقبل عليه بالتحفظ بعد ذلك، ولا تكن قراءتك مساوقة لقراءته. ونحوه قوله تعالى: {لاَ تُحَرّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] وقيل معناه: لا تبلغ ما كان منه مجملاً حتى يأتيك البيان...
{رَّبّ زِدْنِي عِلْماً} متضمن للتواضع لله تعالى والشكر له عند ما علم من ترتيب التعلم، أي علمتني يا رب لطيفة في باب التعلم وأدباً جميلاً ما كان عندي. فزدني علماً إلى علم، فإنّ لك في كل شيء حكمة وعلماً.
وقيل: ما أمر الله رسوله [صلى الله عليه وسلم] بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم.
ثم إنه تعالى لما عظم أمر القرآن ردفه بأن عظم نفسه فقال: {فتعالى الله الملك الحق} تنبيها على ما يلزم خلقه من تعظيمه وإنما وصفه بالحق لأن ملكه لا يزول ولا يتغير وليس بمستفاد من قبل الغير ولا غيره أولى به فلهذا وصف بذلك،...وقد ثبت أن علوه وعظمته وربوبيته بمعنى واحد وهو اتصافه بنعوت الجلال وأنه لا تكيفه الأوهام ولا تقدره العقول وهو منزه عن المنافع والمضار فهو تعالى إنما أنزل القرآن ليحترزوا عما لا ينبغي وليقدموا على ما ينبغي، وأنه تعالى منزه عن التكمل بطاعاتهم والتضرر بمعاصيهم...فالطاعات إنما تقع بتوفيقه وتيسيره، والمعاصي إنما تقع عدلا منه وكل ميسر لما خلق له.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أي: تنزه وتقدس الملك الحق، الذي هو حق، ووعده حق، ووعيده حق، ورسله حق، والجنة حق، والنار حق، وكل شيء منه حق. وعدله تعالى ألا يعذب أحدًا قبل الإنذار وبعثة الرسل والإعذار إلى خلقه؛ لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة.
وقوله: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} كقوله تعالى في سورة "لا أقسم بيوم القيامة "{لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16 -19]، وثبت في الصحيح عن ابن عباس؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعالج من الوحي شدّة، فكان مما يحرّك لسانه، فأنزل الله هذه الآية يعني: أنه، عليه السلام، كان إذا جاءه جبريل بالوحي، كلما قال جبريل آية قالها معه، من شدّة حرصه على حفظ القرآن، فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه؛ لئلا يشق عليه. فقال: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} أي: أن نجمعه في صدرك، ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئًا، {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} وقال في هذه الآية: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي: بل أنصت، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده، {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} أي: زدني منك علمًا.
قال ابن عُيَيْنَة، رحمه الله: ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة [من العلم] حتى توفاه الله عز وجل.
ولهذا جاء في الحديث: "إن الله تابع الوحي على رسوله، حتى كان الوحي أكثر ما كان يوم تُوُفِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن ماجه: حدثنا أبو بكر بن أبى شيبة، حدثنا عبد الله بن نُمَيْر، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن ثابت، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"اللهم انفعني بما علَّمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا، والحمد لله على كل حال".
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما بلغت هذه الجمل نهاية الإعجاز، فاشتملت على غاية الحكمة، دالة على أن لقائلها تمام العلم والقدرة والعدل في أحوال الدراين، تسبب عن سوقها كذلك أن بان له من العظمة ما أفهمه قوله، معظماً لنفسه الأقدس بما هو له أهل بعد تعظيم كتابه تعليماً لعباده ما يجب له من الحق دالاً بصيغة التفاعل على مزيد العلو: {فتعالى الله} أي بلغ الذي لا يبلغ الواصفون وصفه حق وصفه من العلو أمراً لا تحتمله العقول، فلا يلحقه شيء من إلحاد الملحدين ووصف المشركين {الملك} الذي لا يعجزه شيء، فلا ملك في الحقيقة غيره {الحق} أي الثابت الملك، فلا زوال لكونه ملكاً في زمن ما؛ و-] لعظمة ملكه وحقية ذاته وصفاته صرف خلقه على ما هم عليه من الأمور المتباينة.
ولما كانت هذه الآيات في ذم من أعرض عن هذا الذكر، كان تقدير: فلا تعرض عنه، بل أقبل عليه لتكون من المتقين الذاكرين، ولما كان هذا الحث العظيم ربما اقتضى للمسابق في التقوى المبالغة في المبادرة إليه فيستعجل بتلقفه قبل الفراغ من إيحائه، قال عاطفاً على هذا المقدر: {ولا تعجل بالقرآن} أي بتلاوته.
ولما كان النهي عاماً لجميع الأوقات القبلية، دل عليه بالجار لئلا يظن أنه خاص بما يستغرق زمان القبل جملة واحدة فقال: {من قبل أن} ولما كان النظر هنا إلى فراغ الإيحاء لا إلى موح معين، بنى للمجهول قوله: {يقضى} أي ينهى {إليك وحيه} من الملك النازل إليك من حضرتنا به كما أنا لم نعجل بإنزاله عليك جملة، بل رتلناه لك ترتيلاً، ونزلناه إليك تنزيلاً مفصلاً تفصيلاً، وموصلاً توصيلاً -كما أشرنا إليه أول السورة، فاستمع له ملقياً جميع تأملك إليه ولا تساوقه بالقراءة، فإذا فرغ فاقرأه فإنا نجمعه في قلبك ولا نسقيك بإنسائه وأنت مصغ إليه، ولا بتكليفك للمساوقة بتلاوته {وقل رب} أي المحسن إليّ بإفاضة العلوم عليّ {زدني علماً} أي بتفهيم ما أنزلت إليّ منه وإنزال غيره كما زدتني بإنزاله وتحفيظه، لتتمكن من معرفة الأسباب المفيدة لتبع الخلق لك، فإنه كما تقدم على قدر إحاطة العلم يكون شمول القدرة، وفي هذا دليل على أن التأني في العلم بالتدبر وبإلقاء السمع أنفع من الاستعجال المتعب للبال المكدر للحال، وأعون على الحفظ، فمن وعى شيئاً حق الوعي حفظه غاية الحفظ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا إنشاء ثناء على الله منزل القرآن وعلى منة هذا القرآن، وتلقين لشكره على ما بيّن لعباده من وسائل الإصلاح وحملهم عليه بالترغيب والترهيب وتوجيهه إليهم بأبلغ كلام وأحسن أسلوب فهو مفرع على ما تقدم من قوله {وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً} إلى آخرها... والتفريع مؤذن بأن ذلك الإنزال والتصريف ووسائل الإصلاح كلّ ذلك ناشئ عن جميل آثار يشعر جميعها بعلوه وعظمته وأنه الملك الحق المدبر لأمور مملوكاته على أتم وجوه الكمال وأنفذ طرق السياسة. وفي وصفه بالحق إيماء إلى أن مُلك غيره من المتَسَميّن بالملوك لا يخلو من نقص كما قال تعالى: {الملك يومئذ الحق للرحمن} [الفرقان: 26]... والجمع بين اسم الجلالة واسمه (المَلِك) إشارة إلى أن إعظامه وإجلاله مستحَقّان لذاته بالاسم الجامع لصفات الكمال، وهو الدال على انحصار الإلهيّة وكمالها. ثمّ أتبع ب (الحق) للإشارة إلى أن تصرفاته واضحة الدلالة على أن ملكه ملك حق لا تصرف فيه إلاّ بما هو مقتضَى الحكمة. والحق: الذي ليس في ملكه شائبة عجز ولا خضوع لغيره، وفيه تعريض بأن ملك غيره زائف. وفي تفريع ذلك على إنزال القرآن إشارة أيضاً إلى أن القرآن قانون ذلك الملك، وأن ما جاء به هو السياسة الكاملة الضامنة صلاح أحوال متبعيه في الدنيا والآخرة.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أو يستكمل من الرسول الذي يأتيك به، فإذا كنت تخاف أن يفوتك منه شيء، فإن الله الذي تكفل بإنزاله بطريقة غير عادية، قادر على أن يحفظه لك بالطريقة نفسها. {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} في ما تنزل عليَّ من وحي، وفي ما تفجره من ينابيع الحكمة في قلبي ووجداني، وتحركني فيه من دروس التجربة، وتفتحه لي من آفاق المعرفة... فذلك هو الهدف الذي ينطلق الإنسان إليه في طبيعة التكامل الفكري والروحي والعملي، في ما يريد أن يحققه من بناء شخصيته على أساس العلم الذي كلما نما في وجدانه، كلما كان مصدر قوة جديدة للحياة في ذاته.