والذين اجتنبوا الأصنام والشياطين ، ولم يتقربوا إليها ، ورجعوا إلى الله في كل أمورهم ، لهم البشارة العظيمة في جميع المواطن ، فبشر - يا محمد - عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون الأحسن والأهدى إلى الحق ، أولئك - دون غيرهم - الذين يوفقهم الله إلى الهدى ، وأولئك هم - دون غيرهم - أصحاب العقول النَّيِّرة .
{ وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ } :
لما ذكر حال المجرمين ذكر حال المنيبين وثوابهم ، فقال : { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا } والمراد بالطاغوت في هذا الموضع ، عبادة غير اللّه ، فاجتنبوها في عبادتها . وهذا من أحسن الاحتراز من الحكيم العليم ، لأن المدح إنما يتناول المجتنب لها في عبادتها .
{ وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ } بعبادته وإخلاص الدين له ، فانصرفت دواعيهم من عبادة الأصنام إلى عبادة الملك العلام ، ومن الشرك والمعاصي إلى التوحيد والطاعات ، { لَهُمُ الْبُشْرَى } التي لا يقادر قدرها ، ولا يعلم وصفها ، إلا من أكرمهم بها ، وهذا شامل للبشرى في الحياة الدنيا بالثناء الحسن ، والرؤيا الصالحة ، والعناية الربانية من اللّه ، التي يرون في خلالها ، أنه مريد لإكرامهم في الدنيا والآخرة ، ولهم البشرى في الآخرة عند الموت ، وفي القبر ، وفي القيامة ، وخاتمة البشرى ما يبشرهم به الرب الكريم ، من دوام رضوانه وبره وإحسانه وحلول أمانه في الجنة .
والطاغوت : يطلق على كل معبود سوى الله - تعالى - كالشيطان والأصنام وما يشبههما ، مأخوذ من الطغيان ، وهو مجاوزة الحد فى كل شئ . ويستعمل فى الواحد والجمع والمذكور المؤنث .
والاسم الموصول مبتدأ . وجملة { أَن يَعْبُدُوهَا } بدل اشتمال من الطاغوت ، وجملة { لَهُمُ البشرى } هى الخبر .
والمعنى : والذين اجتنبوا عبادة الطاغوت ، وكرهوا عبادة غير الله - تعالى - أيا كان هذا المعبود ، وأقبلوا على الخضوع والخشوع له وحده - عز وجل . أولئك الذين يفعلون ذلك { لَهُمُ البشرى } العظيمة فى حياتهم ، وعند مماتهم ، وحين يقفون بين يديى الله - تعالى - : { فَبَشِّرْ عِبَادِ } أى : فبشر - أيها الرسول الكريم - عبادى الذين هذه مناقبهم ، وتلك صفاتهم . . .
وعلى الضفة الأخرى يقف الناجون ، الذين خافوا هذا المصير المشؤوم :
والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله لهم البشرى . فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ، أولئك الذين هداهم الله . وأولئك هم أولو الألباب . .
والطاغوت صياغة من الطغيان ؛ نحو ملكوت وعظموت ورحموت . تفيد المبالغة والضخامة . والطاغوت كل ما طغا وتجاوز الحد . والذين اجتنبوا عبادتها هم الذين اجتنبوا عبادة غير المعبود في أية صورة من صور العبادة . وهم الذين أنابوا إلى ربهم . وعادوا إليه ، ووقفوا في مقام العبودية له وحده .
هؤلاء ( لهم البشرى )صادرة إليهم من الملأ الأعلى . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] يبلغها لهم بأمر الله : ( فبشر عباد ) . . إنها البشرى العلوية يحملها إليهم رسول كريم . وهذا وحده نعيم !
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه : { وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا } نزلت في زيد بن عمرو بن نُفَيل ، وأبي ذر ، وسلمان الفارسي .
والصحيح أنها شاملةٌ لهم ولغيرهم ، ممن اجتنب عبادة الأوثان ، وأناب إلى عبادة الرحمن . فهؤلاء هم الذين لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة .
ثم قال : { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } أي : يفهمونه ويعملون بما فيه ، كقوله تعالى لموسى حين آتاه التوراة : { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا } [ الأعراف : 145 ] .
{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ } أي : المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة ، أي : ذوو العقول الصحيحة ، والفطَر المستقيمة .
{ والذين اجتنبوا الطاغوت } البالغ غاية الطغيان فعلوت منه بتقديم اللام على العين بني للمبالغة في المصدر كالرحموت ، ثم وصف به للمبالغة في النعت ولذلك اختص بالشيطان . { أن يعبدوها } بدل اشتمال منه . { وأنابوا إلى الله } وأقبلوا إليه بشراشرهم عم سواه . { لهم البشرى } بالثواب على ألسنة الرسل ، أو الملائكة عند حضور الموت . { فبشر عباد } .
وقوله تعالى : { والذين اجتنبوا الطاغوت } الآية ، قال ابن زيد : إن سبب نزولها زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري ، والإشارة إليهم ، وقال ابن إسحاق : الإشارة بها إلى عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد والزبير ، وذلك أنه لما أسلم أبو بكر سمعوا ذلك فجاؤوه ، فقالوا أسلمت ؟ قال نعم ، وذكرهم بالله فآمنوا بأجمعهم فنزلت فيهم هذه الآية ، وهي على كل حال عامة في الناس إلى يوم القيامة يتناولهم حكمها . و { الطاغوت } : كل ما يعبد من دون الله . و { الطاغوت } أيضاً : الشيطان ، وبه فسر هنا مجاهد والسدي وابن زيد ، وأوقعه هنا على جماعة الشياطين ، ولذلك أنث الضمير بعد .