اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَٱلَّذِينَ ٱجۡتَنَبُواْ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن يَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰۚ فَبَشِّرۡ عِبَادِ} (17)

قوله : { والذين اجتنبوا الطاغوت } الذين مبتدأ ، والجملة من «لَهُمُ الْبُشْرَى » الخبر ، وقيل : «لَهُمْ » هو الخبر نفسه ، و «الْبُشْرَى » فاعل به .

وهذا أولى لأنه من باب الإخبار بالمفردات . والطّاغوت قال الزمخشري : فَعَلُوتٌ من الطُّغْيَان كالمَلَكُوتِ والرَّهَبُوت إلا أن فيها قلباً بتقديم اللام على العين . لما ذكر وعيد عبدةِ الأصنام ذكر وَعْدَ من اجْتَنَبَ عبادتها واحْتَرَزَ عن أهل الشرك ليكون الوعد مقروناً بالوعيد أبداً فيحصل كمالُ الترغيب والترهيبِ .

قيل : المراد بالطاغوت هنا : الشيطان .

فإن قيل : إنما عبدوا الصنم .

فالجواب : أن الداعي إلى عبادة الصنم هو الشيطان فلما كان الشيطان هو الداعي كانت عبادة للشيطان ، وقيل : المراد بالطاغوت : الصنم وسميت طَوَاغِيتَ على سبيل المجاز لأنه لا فعل لها ، والطغاة هم الذين يعبدونها إلا أنه لما حصل الطغيان بسبب عبادتها والقرب منها وُصِفت بذلك ) إطلاقاً لاسم السبب على المسِّبب بحَسَبِ الظاهر .

وقيل : الطاغوت كل من يُعْبَدُ ويطاع دون الله . نقل ذلك في التواريخ أن الأصل في عبادة الأصنام أن القوم كانوا مشبهة واعتقدوا في الإله أنه نورٌ عظيم وأن الملائكة أنواع مختلفة في الصغر والكبر فوضعوا تماثيل صورها على وفق تلك الخيالات فكانوا يعبدون تلك التماثيل عل اعتقادهم أنهم يعبدون الله والملائكة .

قوله : { أَن يَعْبُدُوهَا } الضمير يعود على الطَّاغوت لأنها تؤنث ، وقد تقدم الكلام عليها مستوفى في البقرة و «أَنْ يَعْبُدُوها » في محل نصب على البدل من «الطّاغوت » بدل اشتمال كأنه قيل : اجْتَنَبُوا عبادَة الطاغوت .

قوله : { فَبَشِّرْ عِبَادِ } من إيقاع الظاهر موقع المضمر أي فبشِّرْهُم أي أولئك المجتبين ، وإنما فعل ذلك تصريحاً بالوصف المذكور .

فصل :

الذين اجتنبوا الطاغوت أي أعرضوا عن عبادة ما سوى الله وأنابوا أي رَجَعُوا بالكلية إلى الله وأقبلوا بالكلية على عبادة الله . ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء :

أحدها : قوله : { لَهُمُ البشرى } وهذه البشرى تحصل عند القرب من الموت وعند الوضع في القبر ، وعند الخروج من القبر ، وعند الوقوف في عَرْصَة القيامة وعند ما يصير فريق في الجنة وفريق في السعير ، ففي كل موضع من هذه المواضع تحصل البشارة بنوع من الخير ، وهذا المُبَشَّر يحتمل أن يكون هم الملائكة عند الموت لقوله :

{ الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ } [ النحل : 32 ] أو بعد دخول الجنة لقوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار } [ الرعد : 23-24 ] ويحتمل أن يكون هو الله تعالى كما قال : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } [ الأحزاب : 44 ] ، ثم قال { فَبَشِّرْ عِبَادِي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه } وهم الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم . وهذه الآية تدل على وجوب النظر والاستدلال لأنه مدح الإنسان الذي إذا سمع أشياء كثيرة يختار منها ما هو الأحسن الأصوب وتمييز الأحسن الأصوب عما سواه لا يتأتى بالسماع وإنما بحجة العقل . واختلفوا في المراد باتِّباع الأحْسَنِ ، فقيل : هو مثل أن يسمع القصاص والعفو فيعفو ، لأن العفو مندوب إليه لقوله : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } [ البقرة : 237 ] ، وقيل : يسمع العزائم والرخص فيتبع الأحسن وهو العزائم ، وقيل : يستمعون القرآن وغير القرآن فيتبعون القرآن . وروى عطاء عن ابن عباس : آمن أبو بكر بالنبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه عثمان وعبدُ الرحمن بن عوف وطلحةُ والزبيرُ وسَعْدُ بنُ أبي وقاص وسِعِيدُ بن زيدٍ فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فنزل فيهم : { فَبَشِّرْ عِبَادِ ( ي ) الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } . وقال ابن الخطيب : إنا قبل البحث عن الدلائل وتقريرها والشبهات وتزييفها نَعْرض تلك المذاهب وأضدادها على عقولنا فكل ما حكم به أول العقل بأنه أفضل وأكمل كان أولى بالقبول ، مثاله أن صريح العقل شاهد بأن الإقرار بأن ( إله العالم حي علام قادر حكيم رحيم أولى من إنكار ذلك فكان ذلك المذهب أولى . والإقرار ) بأن الله لا يجري في ملكه وسلطانه إلا ما كان على وفق مشيئته أولى من القول بأن أكثر ما يجري في سلطان الله على خلاف إرادته ، والإقرار بأن الله تعالى فَرْدٌ أَحَدٌ صَمَدٌ ، منزه عن التركيب والأعضاء أولى من القول بكونه متبعِّضاً ، مؤلفاً ، وأيضاً القول باستغنائه عن المكان والزمان أولى من القول بأنه لا يستغني عنه ألبتة ،