غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَٱلَّذِينَ ٱجۡتَنَبُواْ ٱلطَّـٰغُوتَ أَن يَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰۚ فَبَشِّرۡ عِبَادِ} (17)

1

ثم عقب الوعيد بالوعد قائلاً { والذين اجتنبوا الطاغوت } وهو كل ما عبد من دون الله كما مر في آية الكرسي . وقوله { أن يعبدوها } بدل اشتمال منه { وأنابوا إلى الله } رجعوا بالكلية إلى تحصيل رضاه ، فالأول تخلية ، والثاني تحلية ، وحقيقة الإعراض عما سوى الله والإقبال على الله هي أن يعرف أنّ كل ما سواه فإنه ممكن الوجود لذاته فقير في نفسه وهو سبحانه واجب الوجود لذاته غني على الإطلاق لا حكم إلا له ولا تدبير إلا به وبأمره . { لهم البشرى } أي هم مخصوصون بالبشارة المطلقة وهي الخبر الأول الصدق الموجب للسرور بزوال المكاره وحصول الأماني ووقتها الموت { الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم } [ النحل : 32 ] وعند دخول الجنة

{ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم } [ الرعد : 2324 ] وعند لقاء الله { تحيتهم يوم يلقونه سلام } [ الأحزاب : 44 ] وسماع هذه البشارات في الدنيا على ألسنة الرسل لا يخرجها عن كونها بشارة في هذه الأوقات لأنها في الأول عامة للمكلفين مبهمة فيهم ولا تتعين إلا في هذه الأحوال . وقيل : هذه أنواع أخر من السعادات فوق ما عرفوها أو سمعوها نسأل الله الفوز بها . قال ابن زيد : نزلت في ثلاثة نفر كانوا يقولون في الجاهلية لا إله إلا الله : زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي . وعن ابن عباس أن أبا بكر آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم فجاءه عثمان وعبد الرحمن وطلحة والزبير وسعد وسعيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فأنزل الله { فبشر عبادي الذين يستمعون القول } أي من أبي بكر { فيتبعون أحسنه } وهو لا إله إلا الله . وقال أهل النظم : لما بين أن الذين اجتنبوا وأنابوا لهم البشرى وكان ذلك درجة عالية لا يصل إليها إلا الأقلون جعل الحكم أعم إظهاراً للرحمة فقال : كل من اختار الأحسن في كل باب كان من زمرة السعداء أهلاً للبشارة . وقال جار الله : أراد بعباده الذين يستمعون القول الذين اجتنبوا وأنابوا لا غيرهم أي هم الذين ضموا هذه الخصلة إلى تلك ، ولهذا وضع الظاهر في موضع المضمر .

وفي الآية دلالة على وجوب النظر والاستدلال وأنه إذا اعترض أمران واجب وندب ، فالأولى اختيار الواجب . وكذا الكلام في المباح والندب ، فالأولى اختيار الواجب . وكذا الكلام في المباح والندب كالقصاص والعفو وكل ما هو أحوط في الدين . مثاله في الأصول القول بأن للعالم صانعاً حياً قديماً عليماً قادراً متصفاً بنعوت الجلال والإكرام وصفات الكمال والتمام ، أولى وأحوط من إنكاره . وكذا الإقرار بالبعث والجزاء أحوط من الإنكار ، وفي الفروع الصلاة المشتملة على القراءة والتشهد والتسليم وغيرها من الأركان والأبعاض المختلف فيها أجود من الصلاة الفارغة عنها أو عن بعضها . وقال العارفون : يسمعون من النفس الدعوة إلى الشهوات ، ومن الشيطان قول الباطل والغرور ، ومن الملك الإلهامات ، ومن الله ورسوله الدعاء إلى دار السلام ، فيقبلون كلام الله ورسوله والخواطر الحسنة دون غيرها . وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم فيستمع الحديث فيه محاسن ومساوٍ فيحدث بأحسن ما سمع ويكف عما سواه . ومن الواقفين من يقف على قوله { فبشر عبادي } ويبتدئ { الذين يستمعون } وخبره { أولئك الذين هداهم } وهو إشارة إلى الفاعل { وأولئك هم أولو الألباب } إشارة إلى أن جواهر نفوسهم قابلة لفيض الهداية بخلاف من لم يكن له قابلية ذلك .