{ بل يريد الإنسان ليفجر أمامه } يقول لا يجهل ابن آدم أن ربه قادر على جمع عظامه لكنه يريد أن يفجر أمامه ، أي : يمضي قدماً على معاصي الله ما عاش راكباً رأسه لا ينزع عنها ولا يتوب ، هذا قول مجاهد ، والحسن ، وعكرمة ، والسدي . وقال سعيد بن جبير : { ليفجر أمامه } يقدم الذنب ويؤخر التوبة ، فيقول : سوف أتوب ، سوف أعمل حتى يأتيه الموت على شر أحواله وأسوأ أعماله . قال الضحاك : هو الأمل ، يقول : أعيش فأصيب من الدنيا كذا وكذا وكذا ، ولا يذكر الموت . وقال ابن عباس ، وابن زيد : يكذب بما أمامه من البعث والحساب . وأصل الفجور : الميل ، وسمي الفاسق والكافر : فاجراً ، لميله عن الحق .
وقوله - تعالى - { بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } بيان لحال أخرى من أحوال فجور هؤلاء المشركين وطغيانهم ، وانتقال من إنكار الحسبان إلى الإِخبار عن حال هذا الإِنسان .
والفجور : يطلق على القول البالغ النهاية فى السوء ، وعلى الفعل القبيح المنكر ، ويطلق على الكذب ، ولذا وصفت اليمين الكاذبة ، باليمين الفاجرة فيكون فجر بمعنى كذب ، وزنا ومعنى .
ولفظ " الأمام " يطلق على المكان الذى يكون فى مواجهة الإِنسان ، والمراد به هنا : الزمان المستقبل وهو يوم القيامة ، الذى دل عليه قوله - تعالى - بعد ذلك : { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة } .
أى : أن هذا الإِنسان المنكر للبعث والحساب لا يريد أن يكف عن إنكاره وكفره ، بل يريد أن يستمر على فجوره وتكذيبه لهذا اليوم بكل إصرار وجحود ، فهو يسأل عنه سؤال استهزاء وتهكم فيقول : { أَيَّانَ يَوْمُ القيامة } أى : متى يجئ يوم القيامة هذا الذى تتحدثون عنه - أيها المؤمنون - وتخشون ما فيه من حساب وجزاء ؟
قال القرطبى : قوله - تعالى - : { بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } قال ابن عباس : يعنى الكافر . يكذب بما أمامه من البعث والحساب . . ودليله { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة } . أى : يسأل متى يكون ؟ على وجه التكذيب والإِنكار ، فهو لا يقنع بما هو فيه من التكذيب . ولكن يأثم لما بين يديه . ومما يدل أن الفجور : التكذيب ، ما ذكره القتبى وغيره ، من أن أعرابيا قصد عمر بن الخطاب ، وشكى إليه نَقْبَ إبله ودَبَرها - أى : مرضها وجربها - وسأله أن يحمله على غيرها فلم يحمله . فقال الأعرابى :
أقسم بالله أبو حفص عمر . . . ما مسها من نقب ولا دبر
فاغفر له اللهم إن كان فجر . . . يعنى : إن كان كذبنى فيما ذكرت . .
وأعيد لفظ الإِنسان فى هذه الآيات أكثر من مرة ، لأن المقام يقتضى توبيخه وتقريعه ، وتسجيل الظلم والجحود عليه .
والضمير فى " أمامه " يجوز أن يعود إلى يوم القيامة . أى : بل يريد الإِنسان ليكذب بيوم القيامة ، الثابت الوقوع فى الوقت الذى يشاؤه الله - عز وجل - .
ويجوز أن يعود على الإِنسان ، فيكون المعنى : بل يريد الإِنسان أن يستمر فى فجوره وتكذيبه بيوم القيامة فى الحال وفى المال . أى : أن المراد بأمامه : مستقبل أيامه .
وجئ بلفظ " أيان " الدال على الاستفهام للزمان البعيد ، للإِشعار بشدة تكذيبهم ، وإصرارهم على عدم وقوعه فى أى وقت من الأوقات .
ويكتفي هنا بهذا التقرير المؤكد ، وسيجيء في نهاية السورة دليل آخر من واقع النشأة الأولى . إنما يخلص هنا إلى الكشف عن العلة النفسية في هذا الحسبان ، وتوقع عدم جمع العظام . . إن هذا الإنسان يريد أن يفجر ، ويمضي قدما في الفجور ، ولا يريد أن يصده شيء عن فجوره ، ولا أن يكون هناك حساب عليه وعقاب . ومن ثم فهو يستبعد وقوع البعث ، ويستبعد مجيء يوم القيامة :
وقوله : { بَلْ يُرِيدُ الإنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } قال سعيد ، عن ابن عباس : يعني يمضي قدما .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } يعني : الأمل ، يقول الإنسان : أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة ، ويقال : هو الكفر بالحق بين يدي القيامة .
وقال مجاهد { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } ليمضي أمامه راكبا رأسه . وقال الحسن : لا يلقى ابن آدم إلا تنزع نفسه إلى معصية الله قدما قدما ، إلا من عصمه الله .
ورُوي عن عكرِمة ، وسعيد بن جُبَير ، والضحاك ، والسدي ، وغير واحد من السلف : هو الذي يَعجَل الذنوبَ ويُسوّف التوبة .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : هو الكافر يكذب بيوم الحساب . وكذا قال ابن زيد ، وهذا هو الأظهر من المراد ؛ ولهذا قال بعده { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ } ؟
وقوله تعالى : { بل يريد الإنسان ليفجر أمامه } قال بعض المتأولين : الضمير في { أمامه } عائد على { الإنسان } ، ومعنى الآية أن الإنسان إنما يريد شهواته ومعاصيه ليمضي فيها أبداً قدماً راكب رأسه ومطيع أمله ومسوفاً بتوبته ، قاله مجاهد والحسن وعكرمة وابن جبير والضحاك والسدي . وقال السدي : المعنى ليظلم على قدر طاقته ، وقال الضحاك المعنى يركب رأسه في طلب الدنيا دائماً ، وقوله تعالى : { ليفجر أمامه } تقديره لكن يفجر ، وقال ابن عباس ما يقتضي أن الضمير في { أمامه } عائد على { يوم القيامة } ، والمعنى أن الإنسان هو في زمن وجوده أمام يوم القيامة وبين يديه ، ويوم القيامة خلفه فهو يريد شهواته ليفجر في تكذيبه بالبعث وغير ذلك بين يدي يوم القيامة ، وهو لا يعرف قدر الضرر الذي هو فيه ، ونظيره قوله تعالى : { ليفجر } قول قيس بن سعد ( أردت لكيما يعرف الناس أنها سراويل قيس والوفود شهود ){[11465]} .
و { بل } في أول الآية هي إضراب على معنى الترك لا على معنى إبطال الكلام الأول ، وقد تجيء بل لإبطال القول الذي قبلها .