ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب قال الناس : إن محمداً تزوج امرأة ابنه فأنزل الله عز وجل{ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } يعني : زيد بن حارثة ، أي : ليس أبا أحد من رجالكم الذين لم يلدهم فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها . فإن قيل : أليس إنه كان له أبناء : القاسم ، والطيب ، والطاهر ، وإبراهيم ، كذلك : الحسن والحسين ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن : " إن ابني هذا سيد " قيل : هؤلاء كانوا صغاراً لم يكونوا رجالاً . والصحيح ما قلنا : إنه أراد أبا أحد من رجالكم الذين لم يلدهم { ولكن رسول الله وخاتم النبيين } ختم الله به النبوة ، وقرأ ابن عامر وعاصم : خاتم بفتح التاء على الاسم ، أي : آخرهم ، وقرأ الآخرون بكسر التاء على الفاعل ، لأنه ختم به النبيين فهو خاتمهم . قال ابن عباس : يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابناً يكون بعده نبياً . وروي عن عطاء عن ابن عباس : أن الله تعالى لما حكم أن لا نبي بعده لم يعطه ولداً ذكراً يصير رجلاً ، { وكان الله بكل شيء عليماً } .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أنبأنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد الخذاشاهي ، أنبأنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجوربدي ، أنبأنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني يونس بن زيد ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة قال : كان أبو هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه ، ترك منه موضع لبنة فطاف به النطار يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون سواها فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة ، ختم بي البنيان وختم بي الرسل " .
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا علي بن أحمد الخزاعي ، أنبأنا الهيثم بن كليب الشاشي ، أنبأنا أبو عيسى الترمذي ، أنبأنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، وغير واحد قالوا ، أنبأنا سفيان عن الزهري ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن لي أسماء أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب " . العاقب الذي ليس بعده نبي .
{ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ْ }
أي : لم يكن الرسول { مُحَمَّدٌ ْ } صلى اللّه عليه وسلم { أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ْ } أيها الأمة فقطع انتساب زيد بن حارثة منه ، من هذا الباب .
ولما كان هذا النفي عامًّا في جميع الأحوال ، إن حمل ظاهر اللفظ على ظاهره ، أي : لا أبوة نسب ، ولا أبوة ادعاء ، وقد كان تقرر فيما تقدم أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، أب للمؤمنين كلهم ، وأزواجه أمهاتهم ، فاحترز أن يدخل في هذا النوع ، بعموم النهي المذكور ، فقال : { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ْ } أي : هذه مرتبته مرتبة المطاع المتبوع ، المهتدى به ، المؤمن له الذي يجب تقديم محبته ، على محبة كل أحد ، الناصح الذي لهم ، أي : للمؤمنين ، من بره [ ونصحه ]{[1]} كأنه أب لهم .
{ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ْ } أي : قد أحاط علمه بجميع الأشياء ، ويعلم حيث يجعل رسالاته ، ومن يصلح لفضله ، ومن لا يصلح .
ثم حدد - سبحانه - وظيفة رسوله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه بما هو أهله ، فقال - تعالى - : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } أى : لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم أبا لأحد من رجالكم أبوة حقيقة ، تترتب عليها آثارها وأحكامها من الإِرث ، والنفقة والزواج . . . . وزيد كذلك ليس ابنا له صلى الله عليه وسلم فزواجه صلى الله عليه وسلم بزينب التى طلقها زيد لا حرج فيه ، ولا شبهة فى صحته ، وقوله : { ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين } استدراك لبيان وظيفته وفضله .
أى : لم يكن صلى الله عليه وسلم أبا لأحدكم على سبيل الحقيقة ، ولكنه كان رسولا من عند الله - تعالى - ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان وكان - أيضا - خاتم النبيين ، بمعنى أنهم ختموا به ، فلا نبى بعده ، فهو كالخاتَم والطابَع لهم . ختم الله - تعالى - به الرسول والأنبياء ، فلا رسول ولا نبى بعده إلى قيام الساعة .
قال القرطبى : قرأ الجمهور { وَخَاتَمَ } - بكسر التاء - بمعنى أنه ختمهم ، أى : جاء آخرهم .
وقرأ عاصم { وخاتم } - بفتح التاء - بمعنى أنهم ختموا به ، فهو كالخاتم والطابع لهم .
وقيل : الخاتم والخاتم - بالفتح والكسر - لغتان ، مثل طابع وطابع . .
وقد روى الإِمام مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مثلى ومثل الأنبياء من قبلى كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها ، إلا موضع لبنة ، فجعل الناس يدخولنها ويتعدبون منها ويقولون : ما أجمل هذه الدار ، هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال صلى الله عليه وسلم فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء " .
وقد ذكر الإِمام ابن كثير عددا من الأحاديث فى هذا المعنى منها ما رواه الإِمام مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب ، وأحلت لى الغنائم ، وجعلت لى الأرض طهورا ومسجدا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بى النبيون " .
ثم قال - رحمه الله - بعد أن ذكر هذا الحديث وغيره : والأحاديث فى هذا كثيرة ، فمن رحمة الله - تعالى - بالعباد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، ثم من تشريفه له ختم الأنبياء والمرسلين به ، وإكمال الحنيف له ، وقد أخبر - تعالى - فى كتابه ، وأخبر رسوله فى السنة المتواترة عنه ، أنه لا نبى بعده ، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل ، ولو تخرق وشعبذ ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم . .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } .
أى : وكان - عز وجل - وما زال ، هو العليم علما تاما بأحوال خلقه ، وبما ينفعهم ويصلحهم ، ولذا فقد شرع لكم ما أنتم فى حاجة إليه من تشريعات ، واختار رسالة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم لتكون خاتمة الرسالات ، فعليكم أن تقابلوا ذلك بالشكر والطاعة ، ليزيدكم - سبحانه - من فضله وإحسانه .
( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم )فزينب ليست حليلة ابنه ، وزيد ليس ابن محمد . إنما هو ابن حارثة . ولا حرج إذن في الأمر حين ينظر إليه بعين الحقيقة الواقعة .
والعلاقة بين محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وبين جميع المسلمين - ومنهم زيد بن حارثة - هي علاقة النبي بقومه ، وليس هو أبا لأحد منهم :
( ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) . .
ومن ثم فهو يشرع الشرائع الباقية ، لتسير عليها البشرية ؛ وفق آخر رسالة السماء إلى الأرض ، التي لا تبديل فيها بعد ذلك ولا تغيير .
( وكان الله بكل شيء عليما ) . .
فهو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية ، وما يصلحها ؛ وهو الذي فرض على النبي ما فرض ، واختار له ما اختار . ليحل للناس أزواج أدعيائهم ، إذا ما قضوا منهن وطرا ، وانتهت حاجتهم منهن ، وأطلقوا سراحهن . . قضى الله هذا وفق علمه بكل شيء . ومعرفته بالأصلح والأوفق من النظم والشرائع والقوانين ؛ ووفق رحمته وتخيره للمؤمنين .
وقوله : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } ، نهى{[23545]} [ تعالى ] {[23546]} أن يقال بعد هذا : " زيد بن محمد " أي : لم يكن أباه وإن كان قد تبناه ، فإنه ، صلوات الله عليه وسلامه ، لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم ؛ فإنه ولد له القاسم ، والطيب ، والطاهر ، من خديجة فماتوا صغارا ، وولد له إبراهيم من مارية القبطية ، فمات أيضا رضيعا {[23547]} ، وكان له من خديجة أربع بنات : زينب ، ورقية ، وأم كلثوم ، وفاطمة ، رضي الله عنهم{[23548]} أجمعين ، فمات في حياته ثلاث وتأخرت فاطمة حتى أصيبت به ، صلوات الله وسلامه عليه ، ثم ماتت بعده لستة أشهر .
وقوله : { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } كقوله : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] فهذه الآية نص في{[23549]} أنه لا نبي بعده ، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول [ بعده ] {[23550]} بطريق الأولى والأحرى ؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة ، فإن كل رسول نبي ، ولا ينعكس . وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر الأزدي ، حدثنا زُهَيْر بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبيّ بن كعب{[23551]} ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارًا فأحسنها وأكملها ، وترك فيها موضع لَبنة لم يَضَعها ، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ، ويقولون : لو تمَّ موضع هذه اللبنة ؟ فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة " .
ورواه الترمذي ، عن بُنْدَار ، عن أبي عامر العقدي ، به{[23552]} ، وقال : حسن صحيح .
حديث آخر : قال{[23553]} الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا المختار بن فُلفُل ، حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرسالة والنبوة قد انقطعت ، فلا رسول بعدي ولا نبي . " قال : فشَقّ ذلك على الناس قال : قال{[23554]} : ولكن المبشرات " . قالوا : يا رسول الله ، وما المبشرات ؟ قال : " رؤيا الرجل المسلم ، وهي جزء من أجزاء النبوة " .
وهكذا روى الترمذي عن الحسن بن محمد الزعفراني ، عن عفان بن مسلم ، به{[23555]} وقال : صحيح غريب من حديث المختار بن فُلفُل .
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا سَليم بن حَيَّان ، عن سعيد بن ميناء ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها إلا موضع لَبنة ، فكان مَنْ دخلها فنظر إليها قال : ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة ! فأنا موضع اللبنة ، ختم بي الأنبياء ، عليهم السلام " .
ورواه البخاري ، ومسلم ، والترمذي من طرق ، عن سليم{[23556]} بن حيان ، به . {[23557]} وقال الترمذي : صحيح غريب من هذا الوجه .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثلي ومثل النبيين [ من قبلي ]{[23558]} كمثل رجل بنى دارا فأتمها إلا لَبنَة واحدة ، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة " . انفرد بإخراجه مسلم من رواية الأعمش ، به{[23559]} .
حديث آخر : قال [ الإمام ]{[23560]} أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا عثمان بن عُبَيد الراسبي قال : سمعت أبا الطفيل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا نبوة بعدي إلا المبشرات " . قال : قيل : وما المبشرات يا رسول الله ؟ قال : " الرؤيا الحسنة - أو قال - الرؤيا الصالحة . " {[23561]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن هَمَّام بن مُنَبِّه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة{[23562]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتا فأحسنها وأكملها وأجملها ، إلا موضع لَبنة من زاوية من زواياها ، فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون : ألا وَضَعْتَ هاهنا لبنة فيتم بنيانك ؟ ! " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فكنت أنا اللبنة " .
أخرجاه من حديث عبد الرزاق . {[23563]}
حديث آخر : عن أبي هريرة أيضا : قال{[23564]} الإمام مسلم : حدثنا يحيى بن أيوب{[23565]} وقتيبة وعلي بن حجر قالوا : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فُضلت على الأنبياء بست : أعْطِيتُ جوامع الكلم ، ونُصِرْتُ بالرعب ، وأحِلَّت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون " .
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث إسماعيل بن جعفر ، وقال الترمذي : حسن صحيح . {[23566]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثلي ومثل الأنبياء من قبلي ، كمثل رجل بنى دارًا فأتمها إلا موضع لبنة واحدة ، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة " .
ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي كُرَيْب ، كلاهما عن أبي معاوية ، به . {[23567]}
حديث آخر : قال{[23568]} الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سُويد الكلبي ، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي ، عن العِرْباض بن سارية قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنْجَدِل في طينته . " {[23569]}
حديث آخر : قال{[23570]} الزهري : أخبرني محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعده{[23571]} نبي . " أخرجاه في الصحيحين{[23572]} .
وقال{[23573]} الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن عبد الله بن هُبَيْرة ، عن عبد الرحمن بن جبير قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودّع ، فقال : " أنا محمد النبي الأمي - ثلاثا - ولا نبي بعدي ، أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه ، وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش ، وتجوز بي ، وعُوفيتُ وعُوفيتْ{[23574]} أمتي ؛ فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم ، فإذا ذُهب بي فعليكم بكتاب الله ، أحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه " . تفرد به الإمام أحمد . {[23575]}
ورواه{[23576]} [ الإمام ]{[23577]} أحمد أيضا عن يحيى بن إسحاق ، عن ابن لَهِيعة ، عن عبد الله بن هبيرة ، عن عبد الله بن مريج{[23578]} الخولاني ، عن أبي قيس - مولى عمرو بن العاص - عن عبد الله بن عمرو فذكر مثله سواء{[23579]} {[23580]} .
والأحاديث في هذا كثيرة ، فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد ، صلوات الله وسلامه عليه ، إليهم ، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به ، وإكمال الدين الحنيف له . وقد أخبر تعالى في كتابه ، ورسوله في السنة المتواترة عنه : أنه لا نبي بعده ؛ ليعلموا أن كل مَنِ ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك ، دجال ضال مضل ، ولو تخرق{[23581]} وشعبذ ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنَيرجيَّات{[23582]} ، فكلها محال وضلال عند أولي الألباب ، كما أجرى الله ، سبحانه وتعالى ، على يد الأسود العَنْسي باليمن ، ومسيلمة الكذاب باليمامة ، من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة ، ما علم كل ذي لب وفهم وحِجى أنهما كاذبان ضالان ، لعنهما الله . وكذلك كل مدع لذلك إلى يوم القيامة حتى يختموا بالمسيح الدجال ، [ فكل واحد من هؤلاء الكذابين ]{[23583]} يخلق الله معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب مَنْ{[23584]} جاء بها . وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه ، فإنهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر إلا على سبيل الاتفاق ، أو لما لهم فيه من المقاصد إلى غيره ، ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم ، كما قال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنزلُ الشَّيَاطِينُ تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } الآية [ الشعراء : 221 ، 222 ] . وهذا بخلاف الأنبياء ، عليهم السلام ، فإنهم في غاية البر والصدق{[23585]} والرشد والاستقامة [ والعدل ]{[23586]} فيما يقولونه ويفعلونه ويأمرون به وينهون عنه ، مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات ، والأدلة الواضحات ، والبراهين الباهرات ، فصلوات الله وسلامه عليهم دائما مستمرا ما دامت الأرض والسموات .
القول في تأويل قوله تعالى : { مّا كَانَ مُحَمّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلََكِن رّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النّبِيّينَ وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً } .
يقول تعالى ذكره : ما كان أيها الناس محمد أبا زيد بن حارثة ، ولا أبا أحد من رجالكم ، الذين لم يلده محمد ، فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها ، ولكنه رسول الله وخاتم النبيين ، الذي ختم النبوّة فطبع عليها ، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة ، وكان الله بكل شيء من أعمالكم ومقالكم وغير ذلك ذا علم لا يخفى عليه شيء . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثتا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ما كانَ محَمّدٌ أبا أحَدٍ مِنْ رجالِكُمْ قال : نزلت في زيد ، إنه لم يكن بابنه ولعمري ولقد وُلد له ذكور ، إنه لأبو القاسم وإبراهيم والطيب والمطهر وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخاتَمَ النّبِيّينَ : أي آخرهم وكانَ اللّهُ بكُلّ شَيْءٍ عَلِيما .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عليّ بن قادم ، قال : حدثنا سفيان ، عن نسير بن ذعلوق ، عن عليّ بن الحسين في قوله : ما كانَ مُحَمّدٌ أبا أحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْقال : نزلت في زيد بن حارثة .
والنصب في رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى تكرير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والرفع بمعنى الاستئناف ، ولكن هو رسول الله ، والقراءة النصب عندنا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَخاتَمَ النّبِيّينَ فقرأ ذلك قرّاء الأمصار سوى الحسن وعاصم بكسر التاء من خاتم النبيين ، بمعنى أنه ختم النبيين . ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : وَلَكِن نَبِيّا خَتمَ النّبِيّينَ فذلك دليل على صحة قراءة من قرأه بكسر التاء ، بمعنى أنه الذي ختم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وعليهم وقرأ ذلك فيما يذكر الحسن وعاصم : خاتَمَ النّبِيّينَ بفتح التاء ، بمعنى أنه آخر النبيين ، كما قرأ : «مَخْتُومٌ خَاتمَهُ مِسْكٌ » بمعنى : آخره مسك من قرأ ذلك كذلك .
استئناف للتصريح بإبطال أقوال المنافقين والذين في قلوبهم مرض وما يلقيه اليهود في نفوسهم من الشك .
وهو ناظر إلى قوله تعالى : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } [ الأحزاب : 4 ] . والغرض من هذا العموم قطعُ توهّم أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم ولد من الرجال تجري عليه أحكام البنوّة حتى لا يتطرق الإِرجاف والاختلاق إلى من يتزوجهن من أيامى المسلمين أصحابِه مثل أمِّ سلمة وحفصة .
و { من رجالكم } وصف ل { أحد } ، وهو احتراس لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبو بنات . والمقصود : نفي أن يكون أبا لأحد من الرجال في حين نزول الآية لأنه كان وُلد له أولادٌ أو وَلَدَاننِ بمكة من خديجة وهم الطيّب والطاهر ( أو هما اسمان لواحد ) والقاسم ، ووُلد له إبراهيم بالمدينة من مارية القبطية ، وكلهم ماتوا صبياناً ولم يكن منهم موجود حين نزول الآية .
والمنفي هو وصف الأبوّة المباشرة لأنها الغرض الذي سيق الكلام لأجله والذي وَهِم فيه من وَهِم فلا التفات إلى كونه جَدًّا للحسن والحسين ومحسن أبناء ابنته فاطمة رضي الله عنها إذ ليس ذلك بمقصود ، ولا يخطر ببال أحد نفي أبوته لهم بمعنى الأبوة العليا ، أو المراد أبوّة الصلب دون أبوة الرّحم .
وإضافة ( رجال ) إلى ضمير المخاطبين والعدول عن تعريفه باللام لقصد توجيه الخطاب إلى الخائضين في قضية تزوج زينب إخراجاً للكلام في صيغة التغليط والتغليظ .
وأما توجيهه بأنه كالاحتراز عن أحفاده وأنه قال : { من رجالكم } وأما الأحفاد فهم من رجاله ففيه سماجة وهو أن يكون في الكلام توجيه بأن محمداً صلى الله عليه وسلم بريء من المخاطبين أعني المنافقين وليس بينه وبينهم الصلة الشبيهة بصلة الأبوة الثابتة بطريقة لحن الخطاب من قوله تعالى { وأزواجه أمهاتهم } [ الأحزاب : 6 ] كما تقدم .
واستدراك قوله : { ولكن رسول الله } لرفع ما قد يُتوهم مِن نفي أبوته ، من انفصال صلة التراحم والبّرِ بينه وبين الأمة فذُكِّروا بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كالأب لجميع أمته في شفقته ورحمته بهم ، وفي برّهم وتوقيرهم إياه ، شأن كل نبيء مع أمته .
والواو الداخلة على { لكن } زائدة و { لكنْ } عاطفة ولم ترد { لكن } في كلام العرب عاطفة إلاّ مقترنة بالواو كما صرح به المرادي في « شرح التسهيل » . وحرف { لكن } مفيد الاستدراك .
وعَطَف صفة { وخاتم النبيئين } على صفة { رسول الله } تكميل وزيادة في التنويه بمقامه صلى الله عليه وسلم وإيماء إلى أن في انتفاء أبوته لأحد من الرجال حكمةً قدَّرها الله تعالى وهي إرادة أن لا يكون إلا مثل الرُّسل أو أفضل في جميع خصائصه .
وإذ قد كان الرسل لم يخل عمود أبنائهم من نبيء كان كونه خاتم النبيئين مقتضياً أن لا يكون له أبناء بعد وفاته لأنهم لو كانوا أحياء بعد وفاته ولم تخلع عليهم خلعة النبوءة لأجل ختم النبوءة به كان ذلك غضاً فيه دون سائر الرسل وذلك ما لا يريده الله به .
ألا ترى أن الله لما أراد قطع النبوءة من بني إسرائيل بعد عيسى عليه السّلام صرف عيسى عن التزوج .
فلا تجعل قوله : { وخاتم النبيئين } داخلاً في حيّز الاستدراك لما علمت من أنه تكميل واستطراد بمناسبة إجراء وصف الرسالة عليه . وببيان هذه الحكمة يظهر حسن موقع التذييل بجملة { وكان الله بكل شيء عليما } إذْ أظهر مقتضى حكمته فيما قدره من الأقدار كما في قوله تعالى : { جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس } إلى قوله : { ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم } [ المائدة : 97 ] .
والآية نصّ في أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيئين وأنه لا نبيء بعده في البشر لأن النبيئين عام فخاتم النبيئين هو خاتمهم في صفة النبوءة . ولا يعكر على نصيِّة الآية أن العموم دلالتُه على الأفراد ظنية لأن ذلك لاحتمال وجود مخصّص . وقد تحققنا عدم المخصص بالاستقراء .
وقد أجمع الصحابة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء وعُرف ذلك وتواتر بينهم وفي الأجيال من بعدهم ولذلك لم يترددوا في تكفير مسيلمة والأسود العَنْسِي فصار معلوماً من الدين بالضرورة فمن أنكره فهو كافر خارج عن الإِسلام ولو كان معترفاً بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله للناس كلّهم . وهذا النوع من الإِجماع موجب العلم الضروري كما أشار إليه جميع علمائنا ولا يدخل هذا النوع في اختلاف بعضهم في حُجِّية الإِجماع إذ المختلف في حجّيته هو الإِجماع المستند لنظر وأدلة اجتهادية بخلاف المتواتر المعلوم بالضرورة في كلام الغزالي في خاتمة كتاب « الاقتصاد في الاعتقاد » مخالفة لهذا على ما فيه من قلة تحرير . وقد حمل عليه ابن عطية حملة غير منصفة وألزمهُ إلزاماً فاحشاً ينزه عنه علمه ودينه فرحمة الله عليهما .
ولذلك لا يتردد مسلم في تكفير من يُثبت نبوءةً لأحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم وفي إخراجه من حظيرة الإِسلام ، ولا تعرف طائفة من المسلمين أقدمت على ذلك إلا البابِيَّة والبَهائية وهما نحْلتان مشتقة ثانيتهما من الأولى . وكان ظهور الفرقة الأولى في بلاد فارس في حدود سنة مائتين وألف وتسربت إلى العراق وكان القائم بها رجلاً من أهل شيراز يدعوه أتباعه السيد علي محمد ، كذا اشتهر اسمه ، كان في أول أمره من غلاة الشيعة الإِمامية . أخذ عن رجل من المتصوفين اسمه الشيخ أحمد زين الدين الأَحسائي الذي كان ينتحل التصوف بالطريقة الباطنية وهي الطريقة المتلقاة عن الحلاج . وكانت طريقته تعرف بالشيخية ، ولما أظهر نحلته علي محمد هذا لقبَ نفسه بَاب العلم فغلب عليه اسم الباب .
وعرفت نحلته بالبَابِيّة وادعى لنفسه النبوءة وزعم أنه أوحي إليه بكتاب اسمه « البيان » وأن القرآن أشار إليه بقوله تعالى : { خلق الإنسان علمه البيان } [ الرحمن : 3 4 ] .
وكتاب « البيان » مؤلف بالعربية الضعيفة ومخلوط بالفارسية . وقد حكم عليه بالقتل فقتل سنة 1266 في تبريز .
وأما البهائية فهي شعبة من البابِيّة تنسب إلى مؤسسها الملقّب ببهاء الله واسمه ميرزا حُسين عَلي من أهل طهران تتلمذ للباب بالمكاتبة وأخرجته حكومة شاه العجم إلى بغداد بعد قتل الباب . ثم نقلته الدولة العثمانية من بغداد إلى أدرنة ثم إلى عكا ، وفيها ظهرت نحلته وهم يعتقدون نبوءة الباب وقد التفّ حوله أصحاب نحلة البابيّة وجعلوه خليفة البَاب فقام اسم البهائية مقام اسم البَابية فالبهائية هم البابية . وقد كان البهاء بَنى بناء في جبل الكرمل ليجعله مدفناً لرفات ( الباب ) وآل أمره إلى أن سجنته السلطنة العثمانية في سجن عَكا فلبث في السجن سبعَ سنوات ولم يطلق من السجن إلا عند ما أُعلن الدستور التركي فكان في عداد المساجين السياسيين الذين أُطلقوا يومئذٍ فرحل منتقلاً في أوروبا وأميركا مدة عامين ثم عاد إلى حيفا فاستقرّ بها إلى أن توفي سنة 1340 وبعد موته نشأ شقاق بين أبنائه وإِخوته فتفرقوا في الزعامة وتضاءلت نحلتهم .
فمن كان من المسلمين متّبعاً للبَهائية أو البابية فهو خارج عن الإِسلام مرتدّ عن دينه تجري عليه أحكام المرتدّ . ولا يرث مسلماً ويرثه جماعة المسلمين ولا ينفعهم قولهم : إنا مسلمون ولا نطقهم بكلمة الشهادة لأنهم يثبتون الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم ولكنهم قالوا بمجيء رسول من بعده . ونحن كفَّرنا الغُرابية من الشيعة لقولهم : بأن جبريل أرسل إلى علي ولكنه شُبّه له محمد بعليّ إذ كان أحدهما أشبه بالآخر من الغراب بالغراب ( وكذبوا ) فبلغ الرسالة إلى محمد صلى الله عليه وسلم فهم أثبتوا الرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم ولكنهم زعموه غير المعيّن من عند الله .
وتشبه طقوس البهائية طقوس الماسونية إلا أن البهائية تنتسب إلى التلقي من الوحي الإِلهي ، فبذلك فارقت الماسونية وعُدّت في الأديان والملل ولم تعد في الأحزاب .
وانتصب { رسول الله } معطوفاً على { أبا أحد من رجالكم } عطفاً بالواو المقترنة ب { لكن } لتفيد رفع النفي الذي دخل على عامل المعطوف عليه .
وقرأ الجمهور { وخاتِمَ النبيئين } بكسر تاء { خاتِم } على أنه اسم فاعل من ختم . وقرأ عاصم بفتح التَاء على تشبيهه بالخاتَم الذي يختم به المكتوب في أن ظهوره كان غلقاً للنبوءة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ما كان أيها الناس محمد أبا زيد بن حارثة، ولا أبا أحد من رجالكم، الذين لم يلده محمد، فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها، ولكنه رسول الله وخاتم النبيين، الذي ختم النبوّة فطبع عليها، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة، وكان الله بكل شيء من أعمالكم ومقالكم وغير ذلك ذا علم لا يخفى عليه شيء... واختلفت القرّاء في قراءة قوله:"وَخاتَمَ النّبِيّينَ" فقرأ ذلك قرّاء الأمصار سوى الحسن وعاصم بكسر التاء من خاتم النبيين، بمعنى أنه ختم النبيين. ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله: وَلَكِن نَبِيّا خَتمَ النّبِيّينَ فذلك دليل على صحة قراءة من قرأه بكسر التاء، بمعنى أنه الذي ختم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وعليهم. وقرأ ذلك فيما يذكر الحسن وعاصم: خاتَمَ النّبِيّينَ بفتح التاء، بمعنى أنه آخر النبيين، كما قرأ: «مَخْتُومٌ خَاتمَهُ مِسْكٌ» بمعنى: آخره مسك من قرأ ذلك كذلك.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ما كان محمد أبا أحد من رجالكم} أبوة تحرم بها حلائل الأبناء، ولكن أبوة التعظيم له والتبجيل، وأبوة الشفقة والرحمة، وهو ما قال: {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض} الآية [الحجرات: 2].
{ولكن رسول الله} لئلا يعاملوا رسوله معاملة آبائهم، ولا يصاحبوه صحبة غيره، ولكن ليعاملوه معاملة الرسل في التعظيم له والتبجيل والإكرام.
{وخاتم النبيين} جائز أن يكون ذكره، وأخبره أنه خاتم النبيين لما علم جل وعلا، أنه يسمى غيره بعده نبيا...
وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا نبي بعدي) [مسلم 1842] أخبر أن به ختم النبوة.
{وكان الله بكل شيء عليما} أي لم ينزل الله بما كان ويكون وبما به صلاحهم عليما.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف كان آخر الأنبياء وعيسى ينزل في آخر الزمان؟ قلت: معنى كونه آخر الأنبياء أنه لا ينبأ أحد بعده، وعيسى ممن نبئ قبله، وحين ينزل ينزل عاملاً على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، مصلياً إلى قبلته، كأنه بعض أمته.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أفاد هذا كله أن الدعي ليس ابناً، وكانوا قد قالوا لما تزوج زينب كما رواه الترمذي عن عائشة رضي الله عنها: تزوج حليلة ابنه، أخبر به سبحانه على وجه هو من أعلام النبوة وأعظم دلائل الرسالة فقال: {ما كان} أي بوجه من الوجوه مطلق كون {محمد} أي على كثرة نسائه وأولاده {أبا أحد من رجالكم} لا مجازاً بالتبني ولا حقيقة بالولادة، ليثبت بذلك أن تحرم عليه زوجة الابن، ولم يقل: من بينكم، وإن لم يكن له في ذلك الوقت وهو سنة خمس وما داناها -ابن، ذكر لعلمه سبحانه أنه سيولد له ابنه إبراهيم عليه السلام، مع ما كان له قبله من البنين الذين لم يبلغ أحد منهم الحلم- على جميعهم الصلاة والسلام.
ولما كان بين كونه صلى الله عليه وسلم أباً لأحد من الرجال حقيقة وبين كونه خاتماً منافاة قال: {ولكن} كان في علم الله غيباً وشهادة أنه {رسول الله} الملك الأعظم الذي كل من سواه عبده، فبينكم وبين رسوله من جهة مطلق الرسالة أبوة وبنوة مجازية، إما من جهته فبالرأفة والرحمة والتربية والنصيحة من غير أن تحرم عليه تلك البنوة شيئاً من نسائكم وإلا لم يكن لمنصب النبوة مزية، وأما من جهتكم فبوجوب التعظيم والتوقير والطاعة وحرمة الأزواج، وأما كون الرسالة عن الله الذي لا أعظم منه فهو مقتض لأن يبلغ الناس عنه جميع ما أمره به، وقد بلغكم قوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} ووظيفته الشريفة مقتضية لأن يكون أول مؤتمر بهذا الأمر، فهو لا يدعو أحداً من رجالكم بعد هذا ابنه.
ولما لم يكن مطلق النبوة ولا مطلق الرسالة منافياً لأبوة الرجال قال: {وخاتم النبيين} أي لأن رسالته عامة ونبوته معها إعجاز القرآن، فلا حاجة مع ذلك إلى استنباء ولا إرسال، فلا يولد بعده من يكون نبياً...
والحاصل أنه لا يأتي بعده نبي بشرع جديد مطلقاً ولا يتجدد بعده أيضاً استنباء نبي مطلقاً، فقد آل الأمر إلى أن التقدير: ما كان محمد بحيث يتجدد بعده نبوة برسالة ولا غيرها ولكنه كان -مع أنه رسول الله- ختاماً للنبوة غير أنه سيق على الوجه المعجز لما تقدم من النكت وغيرها، وهذه الآية مثبتة لكونه خاتماً على أبلغ وجه وأعظمه، وذلك أنها في سياق الإنكار لأن يكون بنيه أحد من رجالهم بنوة حقيقية أو مجازية بغير جهة الإدلاء بأنثى أو كونه رسولاً وخاتماً، صوناً لمقام النبوة أن يتجدد بعده لأحد لأنه لو كان ذلك بشر لم يكن إلا ولداً له، وإنما أوثرت إماتة أولاده عليه الصلاة والسلام وتأثير قلبه الشريف بها إعلاء لمقامه أن يتسنمه أحد كائناً من كان، وذلك لأن فائدة إتيان النبي تتميم شيء لم يأت به من قبله، وقد حصل به صلى الله عليه وسلم التمام فلم يبق بعد ذلك مرام "بعثت لأتمم مكارم الأخلاق "وأما تجديد ما وهى بما أحدثه بعض الفسقة فالعلماء كافون فيه لوجود ما خص به صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن المعجز الذي من سمعه فكأنما سمعه من الله، لوقوع التحقق والقطع بأنه لا يقدر غيره أن يقول شيئاً منه، فمهما حصل ذهول عن ذلك قروه من يريد الله من العلماء، فيعود الاستبصار كما روي في بعض الآثار "علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل "
{وكان الله} أي الذي له كل صفة كمال أزلاً وأبداً {بكل شيء} من ذلك وغيره {عليماً} فيعلم من يليق بالختم ومن يليق بالبدء، قال الأستاذ ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس في سؤال القبر: واختصاصه صلى الله عليه وسلم بالأحمدية والمحمدية علماً وصفة برهان جلي على ختمه إذ الحمد مقرون بانقضاء الأمور مشروع عنده وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين، وقد بين السهيلي هذا في سورة الحواريين من كتاب الإعلام -انتهى. وقد بينت في سورة النحل أن مدار مادة الحمد على بلوغ الغاية وامتطاء النهاية.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) فزينب ليست حليلة ابنه، وزيد ليس ابن محمد. إنما هو ابن حارثة. ولا حرج إذن في الأمر حين ينظر إليه بعين الحقيقة الواقعة.
والعلاقة بين محمد [صلى الله عليه وسلم] وبين جميع المسلمين -ومنهم زيد بن حارثة- هي علاقة النبي بقومه، وليس هو أبا لأحد منهم:
(ولكن رسول الله وخاتم النبيين)..
ومن ثم فهو يشرع الشرائع الباقية، لتسير عليها البشرية؛ وفق آخر رسالة السماء إلى الأرض، التي لا تبديل فيها بعد ذلك ولا تغيير.
فهو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية، وما يصلحها؛ وهو الذي فرض على النبي ما فرض، واختار له ما اختار. ليحل للناس أزواج أدعيائهم، إذا ما قضوا منهن وطرا، وانتهت حاجتهم منهن، وأطلقوا سراحهن.. قضى الله هذا وفق علمه بكل شيء. ومعرفته بالأصلح والأوفق من النظم والشرائع والقوانين؛ ووفق رحمته وتخيره للمؤمنين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف للتصريح بإبطال أقوال المنافقين والذين في قلوبهم مرض وما يلقيه اليهود في نفوسهم من الشك.
وهو ناظر إلى قوله تعالى: {وما جعل أدعياءكم أبناءكم} [الأحزاب: 4]. والغرض من هذا العموم قطعُ توهّم أن يكون للنبيء صلى الله عليه وسلم ولد من الرجال تجري عليه أحكام البنوّة حتى لا يتطرق الإِرجاف والاختلاق إلى من يتزوجهن من أيامى المسلمين أصحابِه مثل أمِّ سلمة وحفصة.
و {من رجالكم} وصف ل {أحد}، وهو احتراس لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبو بنات. والمقصود: نفي أن يكون أبا لأحد من الرجال في حين نزول الآية لأنه كان وُلد له أولادٌ أو وَلَدَان بمكة من خديجة وهم الطيّب والطاهر (أو هما اسمان لواحد) والقاسم، ووُلد له إبراهيم بالمدينة من مارية القبطية، وكلهم ماتوا صبياناً ولم يكن منهم موجود حين نزول الآية.
والمنفي هو وصف الأبوّة المباشرة لأنها الغرض الذي سيق الكلام لأجله والذي وَهِم فيه من وَهِم فلا التفات إلى كونه جَدًّا للحسن والحسين ومحسن أبناء ابنته فاطمة رضي الله عنها إذ ليس ذلك بمقصود، ولا يخطر ببال أحد نفي أبوته لهم بمعنى الأبوة العليا، أو المراد أبوّة الصلب دون أبوة الرّحم.
وإضافة (رجال) إلى ضمير المخاطبين والعدول عن تعريفه باللام لقصد توجيه الخطاب إلى الخائضين في قضية تزوج زينب إخراجاً للكلام في صيغة التغليط والتغليظ.
وأما توجيهه بأنه كالاحتراز عن أحفاده وأنه قال: {من رجالكم} وأما الأحفاد فهم من رجاله ففيه سماجة وهو أن يكون في الكلام توجيه بأن محمداً صلى الله عليه وسلم بريء من المخاطبين أعني المنافقين وليس بينه وبينهم الصلة الشبيهة بصلة الأبوة الثابتة بطريقة لحن الخطاب من قوله تعالى {وأزواجه أمهاتهم} [الأحزاب: 6] كما تقدم.
واستدراك قوله: {ولكن رسول الله} لرفع ما قد يُتوهم مِن نفي أبوته، من انفصال صلة التراحم والبّرِ بينه وبين الأمة فذُكِّروا بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كالأب لجميع أمته في شفقته ورحمته بهم، وفي برّهم وتوقيرهم إياه، شأن كل نبيء مع أمته.
والواو الداخلة على {لكن} زائدة و {لكنْ} عاطفة ولم ترد {لكن} في كلام العرب عاطفة إلاّ مقترنة بالواو كما صرح به المرادي في « شرح التسهيل». وحرف {لكن} مفيد الاستدراك.
وعَطَف صفة {وخاتم النبيئين} على صفة {رسول الله} تكميل وزيادة في التنويه بمقامه صلى الله عليه وسلم وإيماء إلى أن في انتفاء أبوته لأحد من الرجال حكمةً قدَّرها الله تعالى وهي إرادة أن لا يكون إلا مثل الرُّسل أو أفضل في جميع خصائصه.
وإذ قد كان الرسل لم يخل عمود أبنائهم من نبيء كان كونه خاتم النبيئين مقتضياً أن لا يكون له أبناء بعد وفاته لأنهم لو كانوا أحياء بعد وفاته ولم تخلع عليهم خلعة النبوءة لأجل ختم النبوءة به كان ذلك غضاً فيه دون سائر الرسل وذلك ما لا يريده الله به.
ألا ترى أن الله لما أراد قطع النبوءة من بني إسرائيل بعد عيسى عليه السّلام صرف عيسى عن التزوج.
فلا تجعل قوله: {وخاتم النبيئين} داخلاً في حيّز الاستدراك لما علمت من أنه تكميل واستطراد بمناسبة إجراء وصف الرسالة عليه. وببيان هذه الحكمة يظهر حسن موقع التذييل بجملة {وكان الله بكل شيء عليما} إذْ أظهر مقتضى حكمته فيما قدره من الأقدار كما في قوله تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس} إلى قوله: {ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم} [المائدة: 97].
والآية نصّ في أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيئين وأنه لا نبيء بعده في البشر لأن النبيئين عام فخاتم النبيئين هو خاتمهم في صفة النبوءة. ولا يعكر على نصيِّة الآية أن العموم دلالتُه على الأفراد ظنية لأن ذلك لاحتمال وجود مخصّص. وقد تحققنا عدم المخصص بالاستقراء.
وقد أجمع الصحابة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء وعُرف ذلك وتواتر بينهم وفي الأجيال من بعدهم ولذلك لم يترددوا في تكفير مسيلمة والأسود العَنْسِي فصار معلوماً من الدين بالضرورة فمن أنكره فهو كافر خارج عن الإِسلام ولو كان معترفاً بأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله للناس كلّهم.