قوله تعالى : { قال } له فتاه وتذكر { أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة } ، وهي صخرة كانت بالموضع الموعود ، قال هقل بن زياد : هي الصخرة التي دون نهر الزيت ، { فإني نسيت الحوت } أي : تركته وفقدته ، وذلك أن يوشع حين رأى ذلك من الحوت قام ليدرك موسى فيخبره ، فنسي أن يخبره ، فمكثا يومهما حتى صليا الظهر من الغد . قيل في الآية إضمار ، معناه : نسيت أن أذكر لك أمر الحوت ، ثم قال : { وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } أي : وما أنساني أن أذكر لك أمر الحوت إلا الشيطان ، وقرأ حفص : { أنسانيه } وفي الفتح : عليه الله بضم الهاء . وقيل : معناه أنسانيه لئلا أذكره . { واتخذ سبيله في البحر عجبا } قيل : هذا من قول يوشع ويقول : طفر الحوت إلى البحر فاتخذ فيه مسلكا فعجبت من ذلك عجبا . وروينا في الخبر : كان للحوت سرباً ولموسى وفتاه عجباً . وقيل : هذا من قول موسى لما قال له يوشع واتخذ سبيله في البحر ، قال له موسى : عجباً ، كأنه قال : أعجب عجباً . قال ابن زيد : أي شيء أعجب من حوت يؤكل منه جهراً ، ثم صار حياً بعدما أكل بعضه ؟
فلما قال موسى لفتاه هذه المقالة ، قال له فتاه : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ ْ } أي : ألم تعلم حين آوانا الليل إلى تلك الصخرة المعروفة بينهما { فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان ْ } لأنه السبب في ذلك { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ْ } أي : لما انسرب في البحر ودخل فيه ، كان ذلك من العجائب .
قال المفسرون : كان ذلك المسلك للحوت سربا ، ولموسى وفتاه عجبا ، فلما قال له الفتى هذا القول ، وكان عند موسى وعد من الله أنه إذا فقد الحوت ، وجد الخضر ، فقال موسى : { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ ْ }
وقوله - سبحانه - : { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت } حكاية لما رد به يوشع على موسى - عليه السلام - عندما طلب منه الغداء .
والاستفهام فى قوله { أرأيت } للتعجب مما حدث أمامه من شأن الحوت حيث عادت إليه الحياة ، وقفز فى البحر ، ومع ذلك نسى يوشع أن يخبر موسى عن هذا الأمر العجيب .
أى : قال يوشع لموسى - عليه السلام - : تذكر وانتبه واستمع إلى ما سألقيه عليك من خبر هذا الحوت ، أرأيت ما دهانى فى وقت أن أوينا ولجأنا إلى الصخرة التى عند مجمع البحرين ، فإنى هناك نسيت أن أذكر لك ما شاهدته منه من أمور عجيبة ، فقد عادت إليه الحياة ، ثم قفز فى البحر .
وقال { إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة } دون أن يذكر مجمع البحرين ، زيادة فى تحديد المكان وتعيينه . وأوقع النسيان على الحوت دون الغداء الذى طلبه منه موسى ، للإِشعار بأن الغداء الذى طلبه موسى منه ، هو ذلك الحوت الذى فقداه .
وقوله { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ } جملة معترضة جئ بها لبيان ما يجرى مجرى السبب فى وقوع النسيان منه .
وقوله { أن أذكره } بدل اشتمال من الهاء فى { أنسانيه } .
أى : وما أنسانى تذكيرك بما حدث من الحوت إلا الشيطان الذى يوسوس للإِنسان ، بوساوس متعددة ، تجعله يذهل وينسى بعض الأمور الهامة .
وقوله { واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً } معطوف على قوله { فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت } .
أى : نسيت أن أخبرك بأن الحوت عندما أوينا إلى الصخرة عادت إليه الحياة ، واتخذ طريقه فى البحر اتخاذا عجيبا ، حيث صار يسير فيه وله أثر ظاهر فى الماء ، والماء من حوله كالقنطرة التى تنفذ منها الأشياء .
وعلى هذا تكون جملة ، { واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً } ، من بقية كلام يوشع للتعجب مما حدث من الحوت ، حيث عادت إليه الحياة بقدرة الله - تعالى - ، واتخذ طريقه فى البحر بتلك الصورة العجيبة .
وقيل : إن هذه الجملة من كلام الله - تعالى - لبيان طرف آخر من أمر هذا الحوت العجيب ، بعد بيان أمره قبل ذلك بأنه اتخذ سبيله فى البحر سربا .
ويبدو لنا أن الرأى الأول أرجح ، لأن سياق الآية يدل عليه ، لذا اكتفى به بعض المفسرين دون أن يشير إلى غيره .
قال الامام الرازى : قوله { واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً } فيه وجوه :
الأول : أن قوله { عجبا } صفة لمصدر محذوف ، كأنه قيل : واتخذ سبيله فى البحر اتخاذا عجبا ، ووجه كونه عجبا ، انقلابه من المكتل وصيرورته حيا وإلقاء نفسه فى البحر .
الثانى : أن يكون المراد منه ما ذكرنا من أنه - تعالى - جعل الماء عليه كالطاق وكالسراب .
الثالث : قيل إنه تم الكلام عند قوله { واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر } ثم قال بعده : { عجبا } والمقصود منه تعجب يوشع من تلك الحالة العجيبة التى رآها ، ثم من نسيانه لها . . .
( فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا . فلما جاوزا قال لفتاه : آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . قال : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا . . ) . .
والأرجح كذلك أن هذا الحوت كان مشويا ، وأن إحياءه واتخاذه سبيله في البحر سربا كان آية من آيات الله لموسى ، يعرف بهما موعده ، بدليل عجب فتاه من اتخاذه سبيله في البحر ، ولو كان يعني أنه سقط منه فغاص في البحر ما كان في هذا عجب . ويرجح هذا الوجه أن الرحلة كلها مفاجآت غيبية . فهذه إحداها .
قال : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } قال قتادة : وقرأ ابن مسعود : [ " وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان ]{[18318]} ، ولهذا قال : { وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ } أي : طريقه { فِي الْبَحْرِ عَجَبًا }
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصّخْرَةِ فَإِنّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاّ الشّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً } .
يقول تعالى ذكره : قال فتى موسى لموسى حين قال له : آتنا غداءنا لنطعم : أرأيت إذا أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت هنالك وَما أنْسانيهُ إلاّ الشّيْطانُ يقول : وما أنساني الحوت إلا الشيطان أنْ أذْكُرَهُ فأن في موضع نصب ردّا على الحوت ، لأن معنى الكلام : وما أنساني أن أذكر الحوت إلا الشيطان سبق الحوت إلى الفعل ، وردّ عليه قوله أنْ أذْكُرَهُ وقد ذكر أن ذلك في مصحف عبد الله : «وما أنسانيه أن أذكره إلا الشيطان » .
حدثني بذلك بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة حدثني العباس بن الوليد قال : سمعت محمد بن معقل ، يحدّث عن أبيه ، أن الصخرة التي أوى إليها موسى هي الصخرة التي دون نهر الذئب على الطريق .
واتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَبا يُعْجَبُ منه . كما :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فِي البَحْرِ عَجَبا قال : موسى يعجب من أثر الحوت في البحر ودوراته التي غاب فيها ، فوجد عندها خضرا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : واتّخَذَ سَبيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَبا فكان موسى لما اتخذ سبيله في البحر عجبا ، يعجب من سرب الحوت .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : واتّخَذَ سَبِيلَهُ في البَحْرِ عَجَبا قال : عجب والله حوت كان يؤكل منه أدهرا ، أيّ شيء أعجب من حوت كان دهرا من الدهور يؤكل منه ، ثم صار حيا حتى حشر في البحر .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : جعل الحوت لا يمسّ شيئا من البحر إلا يبس حتى يكون صخرة ، فجعل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يعجب من ذلك .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا الحسن بن عطية ، قال : حدثنا عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس واتّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ عَجَبا قال : يعني كان سرب الحوت في البحر لموسى عجبا .
قوله : { نسيت الحوت } أي نسيت حفظه وافتقاده ، أي فانفلت في البحر .
وقوله : { وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } . هذا نسيان آخر غير النسيان الأول ، فهذا نسيان ذكر الإخبار عنه .
وقرأ حفص عن عاصم { وما أنسانيه } بضم هاء الضمير على أصل الضمير وهي لغة . والكسر أشهر لأن حركة الكسرة بعد الياء أخف .
و { أن أذكره } بدل اشتمال من ضمير { أنسانيه } لا من الحوت ، والمعنى : ما أنساني أن أذكره لك إلا الشيطان . فالذكر هنا ذكر اللسان .
ووجه حصره إسناد هذا الإنساء إلى الشيطان أن ما حصل له من نسيان أن يخبر موسى بتلك الحادثة نسيان ليس من شأنه أن يقع في زمن قريب مع شدة الاهتمام بالأمر المنسي وشدة عنايته بإخبار نبيئه به . ومع كون المنسي أعجوبة شأنها أن لا تنسى يتعين أن الشيطان ألهاه بأشياء عن أن يتذكر ذلك الحادث العجيب وعلم يوشع أن الشيطان يَسوءه التقاء هذين العبدين الصالحين ، وما له من الأثر في بث العلوم الصالحة فهو يصرف عنها ولو بتأخير وقوعها طمعاً في حدوث العوائق .
وجملة { واتخذ سبيله في البحر } عطف على جملة { فإني نسيت الحوت } وهي بقية كلام فتى موسى ، أي وأنه اتخذ سبيله في البحر ، أي سبح في البحر بعد أن كان ميتاً زمناً طويلاً .
وقوله : { عجباً } جملة مستأنفة ، وهي من حكاية قول الفتى ، أي أعجبُ له عجباً ، فانتصب على المفعول المطلق الآتي بدلاً من فعله .