الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا} (63)

قوله : { أَرَأَيْتَ } : قد تقدَّم الكلامُ فيها مُشْبعاً في الأنعام . وقال أبو الحسن الأخفش هنا فيها كلاماً حسناً رأيت نَقْلَه وهو " أنَّ العربَ اَخْرَجَتْها عن معناها بالكلية ، فقالوا : أَرَأَيْتَك وأَرَيْتَكَ بحذفِ الهمزة إذا كانت بمعنى اَخْبِرْني ، وإذا كانت بمعنى اَبْصَرْتَ لم تُحْذَفْ همزتُها . وشَذَّت أيضاً فألزَمْتَها الخطابَ على هذا المعنى ، ولا تقولُ فيها أبداً : " أراني زيداً عمراً ما صَنَعَ " وتقولُ هذا على معنى " اعلَمْ " . وشذَّتْ أيضاً فَأَخْرَجْتَها عن موضعِها بالكلية بدليلِ دخولِ الفاءِ ألا ترى قولَه : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي } فما دخلتِ الفاءُ إلا وقد اُخْرِجَتْ إلى معنى : أمَّا أو تنبَّهْ . والمعنى : أمَّا إذا أَوَيْنا إلى الصخرة فإنِّي نَسِيْتُ الحوتَ . وقد أَخْرَجْتَها أيضاً إلى معنى أخبرني كما قدَّمْنا . وإذا كانت/ بمعنى أخبِرْني فلا بُدَّ بعدها من الاسمِ المستخبَرِ عنه ، وتلزَمُ الجملةُ التي بعدها الاستفهامَ ، وقد تَخْرُجُ لمعنى " أمَّا " ، ويكون أبداً بعدها الشرطُ وظروفُ الزمان ، فقوله : " فإنِّي نَسِيْتُ " معناه : أمَّا إذ أَوَيْنا فإنِّي ، أو تَنَبَّه إذ أوينا ، وليستِ الفاءُ إلا جواباً لأَرَأَيْتَ لأنَّ " إذْ " لا يَصِحُّ أَنْ يُجازي بها إلا مقرونةً ب " ما " بلا خلافٍ " .

وقال الزمخشري : " أرأيتَ بمعنى أخبِرْني . فإن قلتَ : ما وجهُ التئامِ هذا الكلامِ ، فإنَّ كلَّ واحدٍ مِنْ " أرأيت " ومِنْ " إذ أَوَيْنا " ، ومِنْ " فإنِّي نَسِيْتُ الحوتَ " [ لا متعلِّقَ له ] ؟ قلت : لَمَّا طَلَب موسى الحوتَ ذكر يوشع ما رأى منه وما اعتراه مِنْ نِسيانه إلى تلك الغايةِ ، ودُهِش فَطَفِقَ يسأل موسى عن سبب ذلك كأنَّه قال : أرأيتَ ما دهاني إذ أَوَيْنا إلى الصخرة فإنِّي نسيتُ الحوت . فحذف ذلك " .

قال الشيخ : " وهذان مَفْقودانِ في تقديرِ الزمخشري " أرأيتَ بمعنى أخبرني " . يعني بهذين ما تقدَّم في كلام الأخفش مِنْ أنَّه لا بُدَّ بعدها من الاسم المستخبَرِ عنه ولزومِ الاستفهامِ الجملةَ التي بعدها .

قوله : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ } قرأ حفص بضمِّ الهاء . وكذا في قوله : { عَلَيْهُ اللَّهَ }

[ الآية : 10 ] في سورة الفتح . قيل : لأنَّ الياءَ هنا أصلُها الفتح ، والهاءُ بعد الفتحةِ مضمومةٌ فنظر هنا إلى الأصل . وأمَّا في سورة الفتح فلأنَّ الياءَ عارضةٌ إذ اصلُها الألفُ ، والهاءُ بعد الألف مضمومةٌ فنظر إلى الأصلِ أيضاً ؟

والباقون بالكسر نظراً إلى اللفظِ ، فإنها بعد ياءٍ ساكنة . وقد جمع حفص في قراءتِه بين اللغات في هاء الكناية : فإنه ضمَّ الهاء في " أنسانِيْه " في غيرِ صلةٍ ، ووصَلَها بياءٍ في قوله : { فِيهِ مُهَاناً } [ الفرقان : 69 ] على ما سيأتي إنْ شاء الله تعالى . وقرأ كأكثرِ القراء فيما سوى ذلك .

قوله : { أَنْ أَذْكُرَهُ } في محلِّ نصبٍ على البدلِ مِنْ هاء " أنسانِيْه " بدلِ اشتمال ، أي : أَنْساني ذكرَه .

قوله : " عَجَباً " فيه أوجهٌ ، أحدُها : أنه مفعولٌ ثانٍ ل " اتَّخذ " . و " في البحرِ " يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بالاتخاذِ ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعولِ الأولِ أو الثاني .

وفي فاعل " اتَّخذ " وجهان ، أحدُهما : هو الحوت ، كما تقدَّم في " اتَّخذ " الأولى . والثاني : هو موسى .

الوجهُ الثاني مِنْ وجهَيْ " عَجَباً " أنه مفعولٌ به ، والعاملُ فيه محذوفٌ ، فقال الزمخشري : " أو قال : عَجَباً في آخرِ كلامِه تَعَجُّباً مِنْ حاله . وقوله : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ } اعتراضٌ بين المعطوفِ والمعطوفِ عليه " . فظاهرُ هذا أنَّه مفعولٌ ب " قال " ، أي : قال هذا اللفظَ .

الثالث : أنه مصدر ، فالعاملُ فيه مقدَّرٌ تقديرُه : فتعجَّب مِنْ ذلك عَجَباً .

الرابع : أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ ، ناصبُه " اتَّخذ " ، أي : اتخذ سبيلَه في البحر اتِّخاذاً عَجَباً . وعلى هذه الأقوالِ الثلاثةِ يكون " في البحر " مفعولاً ثانياً ل " اتَّخَذَ " إن عَدَّيْناها لمفعولين .