فكأنه قيل : فما {[46847]}كان عن أمره{[46848]} ؟ فقيل : { قال } لموسى عليه السلام {[46849]}معجباً له{[46850]} : { أرءيت } ما دهاني ؟ { إذ أوينا إلى الصخرة } التي بمجمع البحرين { فإني } أي{[46851]} بسبب أني{[46852]} { نسيت الحوت } أي نسيت أن أذكر لك أمره الذي كان هناك ؛ {[46853]}ثم زاد التعجيب من هذا النسيان بالاعتراض بين الإخبار به مجملاً وبين تفصيل أمره وبإيقاع النسيان عليه ثم على ذكره فقال تعالى{[46854]} : { وما أنسانيه } مع كونه عجيباً { إلا الشيطان } بوساوسه .
ولما كان المقام للتدريب في عظيم تصرف الله تعالى في القلوب بإثبات العلم ونفيه وإن كان ضرورياً ، ذكر نسيانه ، ثم أبدل من ضميره قوله تعالى{[46855]} : { أن أذكره } لك فإنه عاش فانساب من المكتل في البحر { واتخذ سبيله } {[46856]}أي طريقه الذي ذهب فيه{[46857]} { في البحر عجباً * } وذكره له{[46858]} الآن مانع من أن يكون للشيطان عليه سلطان على أن هذا الإنساء ليس مفوتاً لطاعة ، بل فيه ترقية لهما في معارج المقامات العالية لوجدان التعب بعد المكان الذي فيه البغية ، وحفظ الماء منجاباً على طول الزمان وغير ذلك من آيات الإيقان{[46859]} ، وقوله تعالى{ إنما سلطانه على الذين يتولونه{[46860]} }[ النحل :100 ] مبين أن السلطان الحمل على المعاصي ، وقد كان في هذه القصة{[46861]} خوارق حياة الحوت وإيجاد ما كان أكل منه ، وإمساك الماء عن مدخله ، وقد اتفق لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم نفسه أو أتباعه ببركته مثل ذلك .
أما إعادة ما أكل من الحوت المشوي - وهو جنبه - فقد روى البيهقي{[46862]} في أواخر دلائل النبوة عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما ، قال : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الحجة التي حجها حتى إذا كنا ببطن الروحاء - فذكر قصة المرأة التي أبرأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولدها من الجنون إلى أن قال : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حجته{[46863]} انصرف حتى إذا نزل ببطن{[46864]} الروحاء أتته تلك المرأة بشاة قد شوتها{[46865]} ، فأمر بأخذ تلك{[46866]} الشاة منها ثم قال : يا أسيم - وكان إذا دعاه رخمه ! ناولني ذراعاً{[46867]} ، وكان أحب الشاة{[46868]} إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقدمها ، ثم قال : يا أسيم ! ناولني ذراعاً{[46869]} ! فناولته ، {[46870]}ثم قال{[46871]} : {[46872]}يا أسيم{[46873]} ! ناولني ذراعاً ! فقلت : يا رسول الله ! إنما هما ذراعان وقد ناولتك ، فقال{[46874]} : والذي نفسي بيده لو سكتَّ ما زلت تناولني ذراعاً ما قلت لك : ناولني ذراعاً{[46875]} " فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لو سكت{[46876]} أوجد الله لها ذراعاً ثم ذراعاً وهكذا ، وقوله الحق الذي لا فرق بينه{[46877]} وهو في عالم الغيب وبين ما وجد في عالم الشهادة .
وأما حياة الحوت{[46878]} المشوي فقد مضى عند{[46879]}{ والله يعصمك من الناس{[46880]} }[ المائدة : 67 ] ما هو أكبر من ذلك في قصة الشاة المشوية{[46881]} المسمومة ، وهو أن ذراعها أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه مسموم{[46882]} فهو أعظم من عود الحياة من غير نطق ، وكذا حنين الجذع{[46883]} ، وسلام الحجر ، وتسبيح الحصا{[46884]} ، وتأمين أسكفة الباب{[46885]} وحوائط البيت{[46886]} ونحو ذلك أعظم من عود الحياة إلى ما كان حياً ، فقد روى البيهقي{[46887]} في الدلائل عن عمرو بن سواد قال : قال لي الشافعي : ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فقلت : أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى ؟ فقال : أعطى محمداً{[46888]} صلى الله عليه وعلى آله وسلم {[46889]}الجذع - {[46890]}الذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيىء له المنبر ، فلما هيىء له المنبر{[46891]} حن الجذع حتى سمع صوته - فهذا أكبر من ذاك{[46892]} - انتهى . على أنه قد تقدم في آل عمران وفي آخر البقرة{[46893]} في قصة إبراهيم عليه السلام أشياء من إحياء الموتى له صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولبعض أمته .
وأما آية الماء فمرجعها إلى صلابته ، ولا فرق بين جموده بعدم{[46894]} الالتئام بعد الانخراق وبين جموده وصلابته بالامتناع من الانخراق ، وقد روى البيهقي{[46895]} في ذلك ما فيه آية من{[46896]} الإحياء بسند منقطع عن أنس رضي الله عنه قال : كنا في الصفة عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأتته امرأة مهاجرة{[46897]} ومعها ابن لها قد بلغ{[46898]} فأضاف المرأة إلى النساء وأضاف ابنها إلينا ، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياماً ثم قبض فغمضه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمر بجهازه ، فلما{[46899]} أردنا أن نغسله قال : ائت أمه فأعلمها ، فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ، ثم قالت : اللهم إني أسلمت لك طوعاً ، وخلعت{[46900]} الأوثان زهداً ، وهاجرت إليك رغبة ، اللهم{[46901]} لا تشمت بي عبدة الأوثان ، ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها ، قال : فوالله ما تقضي كلامها حتى حرك قدميه ، وألقى الثوب عن وجهه ، وعاش{[46902]} حتى قبض الله رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحتى هلكت أمه ؛ ثم جهز عمر بن الخطاب رضي الله عنه - يعني جيشاً ، واستعمل عليه العلاء بن الحضرمي ، قال : وكنت في غزاته ، فأتينا مغازينا{[46903]} فوجدنا القوم قد تدروا بنا ، فعفوا آثار الماء ، قال : وكان{[46904]} حر شديد ، فجهدنا العطش ودوابنا ، وذلك يوم الجمعة فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين ، ثم مد يده وما نرى في السماء شيئاً ، فوالله ما حط يده{[46905]} حتى بعث الله ريحاً وأنشأ سحاباً فأفرغت{[46906]} حتى ملأت الغدر والشعاب ، فشربنا وسقينا {[46907]}واستقينا{[46908]} ثم أتينا عدونا وقد جاوزوا خليجاً في البحر إلى جزيرة ، فوقف على الخليج وقال : يا علي يا عظيم يا حليم يا كريم ! ثم قال : أجيزوا باسم الله ! فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا ، {[46909]}فأصبنا العدو غيلة فقتلنا وأسرنا وسبينا ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته فأجزنا{[46910]} ما يبل الماء حوافر دوابنا .
وأخبرنا أبو الحسين بن بشران أنا إسماعيل الصفار نا الحسن بن علي بن عفان أنبأنا{[46911]} ابن نمير عن الأعمش عن بعض أصحابه ، قال : انتهينا إلى دجلة وهي مادة ، والأعاجم خلفها ، فقال رجل من المسلمين : بسم الله ، ثم أقحم فرسه فاندفع على الماء ، فقال الناس : بسم الله بسم الله ، ثم اقتحموا فارتفعوا على الماء ، فلما نظر إليهم الأعاجم{[46912]} قالوا : ديوان{[46913]} ديوان ، ثم ذهبوا على وجوههم ، فما فقدوا إلا قدحاً كان معلقاً بعذبة سرج ، فلما خرجوا أصابوا الغنائم فاقتسموها . أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي أن أبا محمد عبد الله بن محمد السمذي{[46914]} ثنا أبو العباس السراج ثنا الفضل بن سهل وهارون بن عبد الله قالا : ثنا سليمان بن المغيرة{[46915]} أن أبا مسلم الخولاني جاء إلى دجلة وهي ترمي بالخشب{[46916]} من مدها ، فمشى على الماء والتفت إلى{[46917]} أصحابه وقال : هل تفقدون من متاعكم شيئاً فندعو الله{[46918]} - قال البيهقي : هذا{[46919]} إسناد صحيح .