نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا} (63)

فكأنه قيل : فما {[46847]}كان عن أمره{[46848]} ؟ فقيل : { قال } لموسى عليه السلام {[46849]}معجباً له{[46850]} : { أرءيت } ما دهاني ؟ { إذ أوينا إلى الصخرة } التي بمجمع البحرين { فإني } أي{[46851]} بسبب أني{[46852]} { نسيت الحوت } أي نسيت أن أذكر لك أمره الذي كان هناك ؛ {[46853]}ثم زاد التعجيب من هذا النسيان بالاعتراض بين الإخبار به مجملاً وبين تفصيل أمره وبإيقاع النسيان عليه ثم على ذكره فقال تعالى{[46854]} : { وما أنسانيه } مع كونه عجيباً { إلا الشيطان } بوساوسه .

ولما كان المقام للتدريب في عظيم تصرف الله تعالى في القلوب بإثبات العلم ونفيه وإن كان ضرورياً ، ذكر نسيانه ، ثم أبدل من ضميره قوله تعالى{[46855]} : { أن أذكره } لك فإنه عاش فانساب من المكتل في البحر { واتخذ سبيله } {[46856]}أي طريقه الذي ذهب فيه{[46857]} { في البحر عجباً * } وذكره له{[46858]} الآن مانع من أن يكون للشيطان عليه سلطان على أن هذا الإنساء ليس مفوتاً لطاعة ، بل فيه ترقية لهما في معارج المقامات العالية لوجدان التعب بعد المكان الذي فيه البغية ، وحفظ الماء منجاباً على طول الزمان وغير ذلك من آيات الإيقان{[46859]} ، وقوله تعالى{ إنما سلطانه على الذين يتولونه{[46860]} }[ النحل :100 ] مبين أن السلطان الحمل على المعاصي ، وقد كان في هذه القصة{[46861]} خوارق حياة الحوت وإيجاد ما كان أكل منه ، وإمساك الماء عن مدخله ، وقد اتفق لنبينا صلى الله عليه وعلى آله وسلم نفسه أو أتباعه ببركته مثل ذلك .

أما إعادة ما أكل من الحوت المشوي - وهو جنبه - فقد روى البيهقي{[46862]} في أواخر دلائل النبوة عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما ، قال : " خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم إلى الحجة التي حجها حتى إذا كنا ببطن الروحاء - فذكر قصة المرأة التي أبرأ النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولدها من الجنون إلى أن قال : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حجته{[46863]} انصرف حتى إذا نزل ببطن{[46864]} الروحاء أتته تلك المرأة بشاة قد شوتها{[46865]} ، فأمر بأخذ تلك{[46866]} الشاة منها ثم قال : يا أسيم - وكان إذا دعاه رخمه ! ناولني ذراعاً{[46867]} ، وكان أحب الشاة{[46868]} إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم مقدمها ، ثم قال : يا أسيم ! ناولني ذراعاً{[46869]} ! فناولته ، {[46870]}ثم قال{[46871]} : {[46872]}يا أسيم{[46873]} ! ناولني ذراعاً ! فقلت : يا رسول الله ! إنما هما ذراعان وقد ناولتك ، فقال{[46874]} : والذي نفسي بيده لو سكتَّ ما زلت تناولني ذراعاً ما قلت لك : ناولني ذراعاً{[46875]} " فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لو سكت{[46876]} أوجد الله لها ذراعاً ثم ذراعاً وهكذا ، وقوله الحق الذي لا فرق بينه{[46877]} وهو في عالم الغيب وبين ما وجد في عالم الشهادة .

وأما حياة الحوت{[46878]} المشوي فقد مضى عند{[46879]}{ والله يعصمك من الناس{[46880]} }[ المائدة : 67 ] ما هو أكبر من ذلك في قصة الشاة المشوية{[46881]} المسمومة ، وهو أن ذراعها أخبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه مسموم{[46882]} فهو أعظم من عود الحياة من غير نطق ، وكذا حنين الجذع{[46883]} ، وسلام الحجر ، وتسبيح الحصا{[46884]} ، وتأمين أسكفة الباب{[46885]} وحوائط البيت{[46886]} ونحو ذلك أعظم من عود الحياة إلى ما كان حياً ، فقد روى البيهقي{[46887]} في الدلائل عن عمرو بن سواد قال : قال لي الشافعي : ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فقلت : أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى ؟ فقال : أعطى محمداً{[46888]} صلى الله عليه وعلى آله وسلم {[46889]}الجذع - {[46890]}الذي كان يخطب إلى جنبه حتى هيىء له المنبر ، فلما هيىء له المنبر{[46891]} حن الجذع حتى سمع صوته - فهذا أكبر من ذاك{[46892]} - انتهى . على أنه قد تقدم في آل عمران وفي آخر البقرة{[46893]} في قصة إبراهيم عليه السلام أشياء من إحياء الموتى له صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولبعض أمته .

وأما آية الماء فمرجعها إلى صلابته ، ولا فرق بين جموده بعدم{[46894]} الالتئام بعد الانخراق وبين جموده وصلابته بالامتناع من الانخراق ، وقد روى البيهقي{[46895]} في ذلك ما فيه آية من{[46896]} الإحياء بسند منقطع عن أنس رضي الله عنه قال : كنا في الصفة عند رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فأتته امرأة مهاجرة{[46897]} ومعها ابن لها قد بلغ{[46898]} فأضاف المرأة إلى النساء وأضاف ابنها إلينا ، فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياماً ثم قبض فغمضه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وأمر بجهازه ، فلما{[46899]} أردنا أن نغسله قال : ائت أمه فأعلمها ، فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ، ثم قالت : اللهم إني أسلمت لك طوعاً ، وخلعت{[46900]} الأوثان زهداً ، وهاجرت إليك رغبة ، اللهم{[46901]} لا تشمت بي عبدة الأوثان ، ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها ، قال : فوالله ما تقضي كلامها حتى حرك قدميه ، وألقى الثوب عن وجهه ، وعاش{[46902]} حتى قبض الله رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحتى هلكت أمه ؛ ثم جهز عمر بن الخطاب رضي الله عنه - يعني جيشاً ، واستعمل عليه العلاء بن الحضرمي ، قال : وكنت في غزاته ، فأتينا مغازينا{[46903]} فوجدنا القوم قد تدروا بنا ، فعفوا آثار الماء ، قال : وكان{[46904]} حر شديد ، فجهدنا العطش ودوابنا ، وذلك يوم الجمعة فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين ، ثم مد يده وما نرى في السماء شيئاً ، فوالله ما حط يده{[46905]} حتى بعث الله ريحاً وأنشأ سحاباً فأفرغت{[46906]} حتى ملأت الغدر والشعاب ، فشربنا وسقينا {[46907]}واستقينا{[46908]} ثم أتينا عدونا وقد جاوزوا خليجاً في البحر إلى جزيرة ، فوقف على الخليج وقال : يا علي يا عظيم يا حليم يا كريم ! ثم قال : أجيزوا باسم الله ! فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا ، {[46909]}فأصبنا العدو غيلة فقتلنا وأسرنا وسبينا ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته فأجزنا{[46910]} ما يبل الماء حوافر دوابنا .

وأخبرنا أبو الحسين بن بشران أنا إسماعيل الصفار نا الحسن بن علي بن عفان أنبأنا{[46911]} ابن نمير عن الأعمش عن بعض أصحابه ، قال : انتهينا إلى دجلة وهي مادة ، والأعاجم خلفها ، فقال رجل من المسلمين : بسم الله ، ثم أقحم فرسه فاندفع على الماء ، فقال الناس : بسم الله بسم الله ، ثم اقتحموا فارتفعوا على الماء ، فلما نظر إليهم الأعاجم{[46912]} قالوا : ديوان{[46913]} ديوان ، ثم ذهبوا على وجوههم ، فما فقدوا إلا قدحاً كان معلقاً بعذبة سرج ، فلما خرجوا أصابوا الغنائم فاقتسموها . أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي أن أبا محمد عبد الله بن محمد السمذي{[46914]} ثنا أبو العباس السراج ثنا الفضل بن سهل وهارون بن عبد الله قالا : ثنا سليمان بن المغيرة{[46915]} أن أبا مسلم الخولاني جاء إلى دجلة وهي ترمي بالخشب{[46916]} من مدها ، فمشى على الماء والتفت إلى{[46917]} أصحابه وقال : هل تفقدون من متاعكم شيئاً فندعو الله{[46918]} - قال البيهقي : هذا{[46919]} إسناد صحيح .


[46847]:في ظ: قال
[46848]:في ظ: قال.
[46849]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[46850]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[46851]:سقط من ظ.
[46852]:زيد من مد.
[46853]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[46854]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[46855]:العبارة من "ولما كان المقام" إلى هنا ساقطة من ظ.
[46856]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[46857]:سقط ما بين الرقمين من ظ.
[46858]:زيد من ظ ومد.
[46859]:في ظ: الإيمان.
[46860]:سورة 16 آية 100.
[46861]:زيد من ظ ومد.
[46862]:بسند حسنه ابن حجر في المطالب العالية – راجع الخصائص الكبرى. 2 / 36.
[46863]:زيدت الواو في النسخ كلها ولم تكن في الخصائص فحذفناها.
[46864]:في ظ ومد: بطن.
[46865]:ومن هنا يطرأ بعض الاختلاف على سياق ما هنا وسياق الخصائص.
[46866]:سقط من مد.
[46867]:من الخصائص وفي الأصول: ذراعها.
[46868]:في ظ: الشياه.
[46869]:من مد والخصائص، وفي الأصل: ذراعها.
[46870]:في مد: فقال.
[46871]:في مد: فقال.
[46872]:سقط م بين الرقمين من الخصائص.
[46873]:سقط ما بين الرقمين من الخصائص.
[46874]:زيد ما بين الخاجزين من ظ ومد والخصائص.
[46875]:زيد ما بين الحاجزين من ظ ومد والخصائص.
[46876]:زيد من ظ ومد.
[46877]:زيد من ظ ومد.
[46878]:زيد من ظ ومد.
[46879]:من ظ ومد وفي الأصل: عنه.
[46880]:سورة 5 آية 67.
[46881]:سقط من مد.
[46882]:زيد من ظ ومد.
[46883]:راجع الخصائص الكبرى 2 / 75.
[46884]:راجع الخصائص الكبرى 2 / 74.
[46885]:زيد من ظ ومد.
[46886]:راجع الخصائص الكبرى 2 / 77.
[46887]:وقد أخرجه السيوطي في خصائصه عن البيهقي – راجع 2 / 76 و 77.
[46888]:من الخصائص وفي النسخ كلها: محمد.
[46889]:زيد في الخصائص: حنين.
[46890]:العبارة من هنا إلى "سمع صوته" ليست في الخصائص.
[46891]:زيدت الواو بعده في الأصل ولم تكن في ظ ومد فحذفناها.
[46892]:من ظ والخصائص وفي الأصل ومد: ذلك.
[46893]:زيدت الواو بعده في الأصل ولم تكن في ظ ومد فحذفناها.
[46894]:من ظ ومد، وفي الأصل: بعد.
[46895]:والحديث أخرجه عنه السيوطي في باب آياته صلى الله عليه وسلم في إحياء الموتى وكلامهم – الخصائص الكبرى.
[46896]:من مد، وفي الأصل وظ: في.
[46897]:زيد من الخصائص.
[46898]:زيد من ظ والخصائص.
[46899]:زيد من ظ ومد والخصائص.
[46900]:في مد: جعلت.
[46901]:زيد من ظ ومد والخصائص.
[46902]:زيد من ظ ومد والخصائص.
[46903]:من الخصائص وفي الأصل: مغازنا، وفي ظ ومد: مغارنا.
[46904]:زيد من الخصائص.
[46905]:زيد من ظ ومد والخصائص.
[46906]:في مد: فرغت.
[46907]:سقط ما بين الرقمين من مد.
[46908]:سقط ما بين الرقمين من مد.
[46909]:ومن هنا يتغير السياق عما في الخصائص.
[46910]:في ظ: واجزنا.
[46911]:زيد من ظ ومد إلا أن في الأول: ثنا وابن نمير هو عبد الله بن نمير يروى عنه الحسن ابن علي بن عفان العامري.
[46912]:زيد من مد.
[46913]:كلمة فارسية معناها الشياطين – راجع الأخبار الطوال 126.
[46914]:من ظ ومد والأنساب 7 / 216، وفي الأصل: السميدي.
[46915]:زيد في الخصائص 2 / 283: عن حميد.
[46916]:من الخصائص وفي النسخ كلها: الحسب.
[46917]:في مد: في.
[46918]:زيد في الخصائص: فيرده.
[46919]:زيد من ظ.