السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قَالَ أَرَءَيۡتَ إِذۡ أَوَيۡنَآ إِلَى ٱلصَّخۡرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ ٱلۡحُوتَ وَمَآ أَنسَىٰنِيهُ إِلَّا ٱلشَّيۡطَٰنُ أَنۡ أَذۡكُرَهُۥۚ وَٱتَّخَذَ سَبِيلَهُۥ فِي ٱلۡبَحۡرِ عَجَبٗا} (63)

{ قال } له فتاه { أرأيت } أي : ما دهاني وقرأ نافع بتسهيل الهمزة التي هي عين الكلمة ولورش وجه آخر وهو إبدالها حرف مدّ وأسقطها الكسائي والباقون بالتحقيق { إذ أوينا إلى الصخرة } التي بمجمع البحرين { فإني نسيت الحوت } أي : نسيت أن أذكر لك أمره ثم علل عدم ذكره بقوله : { وما أنسانيه إلا الشيطان } بوسواسه ، وقرأ حفص بضم الهاء وأمال الألف الكسائي محضة وورش بين بين وبالفتح والباقون بالفتح وقوله : { أن أذكره } لك في محل نصب على البدل من هاء أنسانيه بدل اشتمال أي : أنساني ذكره { واتخذ سبيله } أي : طريقه الذي ذهب فيه { في البحر عجباً } وهو كونه كالسرب معجزة لموسى أو الخضر وذكره له الآن مانع من أن يكون للشيطان عليه سلطان على أن هذا النسيان ليس مفوتاً لطاعة بل فيه ترقية لهما في معراج المقامات العالية لوجدان التعب بعد المكان الذي فيه البغية وحفظ الماء منجاباً على طول الزمان وغير ذلك من الآيات الظاهرة وقوله تعالى : { إنما سلطانه على الذين يتولونه } [ النحل ، 100 ] مبين ، أن السلطان الحمل على المعاصي وقوله : { وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره } اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه ، وقد كان في هذه القصة خوارق منها حياة الحوت ومنها إيجاد ما كان أكل منه ومنها إمساك الماء عن مدخله وقد اتفق لنبينا صلى الله عليه وسلم نفسه وأتباعه ببركته مثل ذلك ، أمّا إعادة ما أكل من الحوت المشوي وهو جنبه ، فقد روى البيهقي في أواخر دلائل النبوّة عن أسامة بن زيد رضي اللّه تعالى عنه «أنه صلى الله عليه وسلم أتي بشاة مشوية فقال لبعض أصحابه : «ناولني ذراعها » وكان أحب الشاة إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقدّمها ثم قال : «ناولني ذراعها » فناوله ثم قال : «ناولني ذراعها » فقال : يا رسول اللّه إنما هما ذراعان وقد ناولتك فقال صلى الله عليه وسلم : «والذي نفسي بيده لو سكت ما زلت تناولني ذراعاً ما قلت لك ناولني ذراعاً » فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لو سكت أوجد اللّه تعالى ذراعاً ثم ذراعاً وهكذا ، وأمّا حياة الحوت المشوي ففي قصة الشاة المشوية المسمومة أنّ ذراعها أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسموم فهذا أعظم من عود الحياة من غير نطق وكذا حنين الجذع وتسليم الحجر وتسبيح الحصى ونحو ذلك أعظم من عود الحياة إلى ما كان حياً .

وروى البيهقي في «الدلائل » عن عمرو بن سواد قال : قال الشافعي : ما أعطى اللّه تعالى نبياً ما أعطى محمداً صلى الله عليه وسلم قلت : أعطى عيسى عليه السلام إحياء الموتى ، فقال : أعطى محمد صلى الله عليه وسلم إحياء الجذع الذي كان يخطب إلى جنبه حين هيئ له المنبر وحنّ الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك انتهى ، وقد ورد أشياء كثيرة من إحياء الموتى له صلى الله عليه وسلم ولبعض أمّته ، وروي عن أنس رضي اللّه تعالى عنه أنه قال : كنا في الصفة عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأتته امرأة ومعها ابن لها فأضاف المرأة إلى النساء وأضاف ابنها إلينا فلم يلبث أن أصابه وباء المدينة فمرض أياماً ثم قبض فغمضه النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بجهازه فلما أردنا أن نغسله قال : «ائت أمّه فأعلمها » فجاءت حتى جلست عند قدميه فأخذت بهما ثم قالت : اللهم إني أسلمت لك تطوّعاً وخلعت الأوثان زهداً وهاجرت إليك رغبة ، اللهم لا تشمت بي عبدة الأوثان ولا تحملني من هذه المصيبة ما لا طاقة لي بحملها ، قال : فواللّه ما انقضى كلام المرأة حتى حرّك قدميه وألقى الثوب عن وجهه وعاش حتى قبض اللّه رسول صلى الله عليه وسلم وحتى هلكت أمّه ، وأمّا آية الماء فمرجعها إلى صلابته ولا فرق بين جموده بعدم الالتئام بعد الانخراق وبين جموده وصلابته بالامتناع من الانخراق ، وقد جهز عمر بن الخطاب رضي اللّه تعالى عنه جيشاً واستعمل عليه العلاء بن الحضرمي فحصل لهم حرّ شديد وجهدهم العطش ، قال بعض الجيش : فلما مالت الشمس لغروبها صلى بنا ركعتين ثم مدّ يده وما نرى في السماء شيئاً فواللّه ما حط يده حتى بعث اللّه تعالى ريحاً وأنشأ سحاباً فأفرغت حتى ملأت القدور والشعاب فشربنا وسقينا واستقينا ثم أتينا عدوّنا وقد جاوزنا خليجاً في البحر إلى جزيرة فوقف على الخليج وقال : «يا عليّ يا عظيم يا حليم يا كريم » ثم قال : «أجيزوا بسم اللّه » فأجزنا ما يبل الماء حوافر دوابنا فأصبنا العدوّ عليه فقتلنا وأسرنا وسبينا ثم أتينا الخليج فقال مثل مقالته فأجزنا وما بل الماء حوافر دوابنا والأخبار في ذلك كثيرة .