ثم أقسم بنفسه ، فقال : { فوربك لنحشرنهم } لنجمعنهم في المعاد ، يعني : المشركين المنكرين للبعث ، { والشياطين } ، مع الشياطين ، وذلك أنه يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة ، { ثم لنحضرنهم حول جهنم } ، قيل في جهنم ، { جثيا } ، قال ابن عباس رضي الله عنه : جماعات ، جمع جثوة . وقال الحسن والضحاك : جمع جاث أي : جاثين على الركب . قال السدي : قائمين على الركب لضيق المكان .
{ 68 - 70 } { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا }
أقسم الله تعالى وهو أصدق القائلين - بربوبيته ، ليحشرن هؤلاء المنكرين للبعث ، هم وشياطينهم فيجمعهم لميقات يوم معلوم ، { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا } أي : جاثين على ركبهم من شدة الأهوال ، وكثرة الزلزال ، وفظاعة الأحوال ، منتظرين لحكم الكبير المتعال ، ولهذا ذكر حكمه فيهم فقال : { ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا }
ثم عقب - سبحانه - على هذا التوبيخ والتقريع لهذا الإنسان الجاحد ، بقسم منه - سبحانه - على وقوع البعث والنشور ، فقال : { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } .
والحشر : الجمع . يقال : حشر القائد جنده ، إذا جمعهم .
والمراد بالشياطين : أولئك الأشرار الذين كانوا فى الدنيا يوسوسون لهم بإنكار البعث .
أى : أقسم لك بذاتى - أيها الرسول الكريم - أن هؤلاء المنكرين للبعث لنجمعنهم جميعاً يوم القيامة للحساب والجزاء ، ولنجمعن معهم الشياطين الذين كانوا يظلونهم فى الدنيا .
قالوا : وفائدة القسم أمران : أحدهما : أن العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين ، والثانى : أن فى إقسام الله - تعالى - باسمه ، مضافا إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - رفعا منه لشأنه ، كما رفع من شأن السموات والأرض فى قوله - تعالى - : { فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } وقوله : { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } تصوير حسى بليغ لسوء مصيرهم ، ونكد حالهم .
و { جِثِيّاً } جمع جاث وهو الجالس على ركبتيه . يقال : جثا فلان يجثو ويجثى جثوا وجثيا فهو جاث إذا جلس على ركبتيه ، أو قام على أطراف أصابعه . والعادة عند العرب أنهم إذا كانوا فى موقف شديد ، وأمر ضنك جثوا على ركبهم .
أى : فوربك لنحضرنهم يوم القيامة للحساب ومعهم شياطينهم ، ثم لنحضرنهم جميعاً حول جهنم ، حالة كونهم باركين على الركب ، عجزاً منهم عن القيام ، بسبب ما يصيبهم من هول يوم القيام وشدته .
قال - تعالى - : { وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }
ثم يعقب على هذا الإنكار والاستنكار بقسم تهديدي . يقسم الله تعالى بنفسه وهو أعظم قسم وأجله ؛ أنهم سيحشرون - بعد البعث فهذا أمر مفروغ منه :
( فوربك لنحشرنهم ) . . ولن يكونوا وحدهم . فلنحشرنهم( والشياطين )فهم والشياطين سواء . والشياطين هم الذين يوسوسون بالإنكار ، وبينهما صلة التابع والمتبوع ، والقائد والمقود . .
وهنا يرسم لهم صورة حسية وهم جاثون حول جهنم جثو الخزي والمهانة : ( ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا ) . . وهي صورة رهيبة وهذه الجموع التي لا يحصيها العد محشورة محضرة إلى جهنم جاثية حولها ، تشهد هولها ويلفحها حرها ، وتنتظر في كل لحظة أن تؤخذ فتلقى فيها . وهم جاثون على ركبهم في ذلة وفزع . .
وقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ } أقسم الرب ، تبارك وتعالى ، بنفسه الكريمة ، أنه لا بد أن يحشرهم جميعًا وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله ، { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا } .
قال العَوْفي ، عن ابن عباس : يعني : قعودا كقوله : { وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } [ الجاثية : 28 ] .
وقال السدي في قوله : { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا } : يعني : قيامًا ، وروي عن مرة ، عن ابن مسعود [ مثله ]{[19016]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَوَرَبّكَ لَنَحْشُرَنّهُمْ وَالشّيَاطِينَ ثُمّ لَنُحْضِرَنّهُمْ حَوْلَ جَهَنّمَ جِثِيّاً } .
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : فوربك يا محمد لنحشرنّ هؤلاء القائلين : أئذا متنا لسوف نخرج أحياء يوم القيامة من قبورهم ، مقرنين بأوليائهم من الشياطين ثُمّ لَنُحْضِرَنّهُمْ حَوْلَ جَهَنّمَ جِثِيّا والجثي : جمع الجاثي . كما :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ثُمّ لَنُحْضِرَنّهُمْ حَوْلَ جَهَنّمَ جِثيّا يعني : القعود ، وهو مثل قوله : وَتَرَى كُلّ أُمةٍ جاثِيَةً .
وقوله { فوربك } الآية وعيد يكون ما نفوه على أصعب وجوهه ، والضمير في قوله { لنحشرهم } عائد للكفار القائلين ما تقدم ، ثم أخبر أنه يقرن بهم { الشياطين } المغوين لهم . وقوله { جثياً } جمع جاث كقاعد وقعود وجالس وجلوس وأصله جثووا وليس في كلام العرب واو متطرفة قبلها ضمة فوجب لذلك أن تعل ، ولم يعتد هاهنا بالساكن الذي بينهما لخفته . وقلة حوله فقلبت ياء فجاء جثوياً فاجتمع الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت ياء ثم أدغمت ثم كسرت التاء للتناسب بين الكسرة والياء . وقرأ الجمهور «جُثياً » و «صُلياً »{[8005]} [ مريم : 70 ] بضم الجيم والصاد ، وقرأ ابن وثاب وطلحة والأعمش «جِثياً » و «صِلياً » [ ذاته ] بكسر الجيم والصاد وأخبر الله تعالى أنه يحضر هؤلاء المنكرين للبعث مع الشياطين فيجثون حول جهنم وهي قعدة الخائف الذليل على ركبتيه كالأسير . ونحوه قال قتادة { جثياً } معناه على ركبهم وقال ابن زيد : الجثي شر الجلوس ، و «الشيعة » الفرقة المرتبطة بمذهب واحد المتعاونة فيه كأن بعضهم يشيع بعضاً أي ينبه ، ومنه تشييع النار بالحطب وهو وقدها به شيئاً بعد شيء ، ومنه قيل للشجاع مشيع القلب فأخبر الله أنه ينزع { من كل شيعة } أعتاها وأولاها بالعذاب فتكون تلك مقدمتها إلى النار .
قال أبو الأحوص : المعنى نبدأ بالأكابر فالأكابر جرماً ، ثم أخبر تعالى في الآية بعد ، أنه أعلم بمستحقي ذلك وأبصر لأنه لم تخف عليه حالهم من أولها إلى آخرها . وقرأ بعض الكوفيين ومعاذ بن مسلم وهارون القاري «أيَّهم » بالنصب ، وقرأ الجمهور «أيُّهم » بالرفع ، إلا أن طلحة والأعمش سكنا ميم «أيهمْ » واختلف الناس في وجه رفع «أي » ، فقال الخليل رفعه على الحكاية بتقدير الذي يقال فيه من أجل عتوه «أيُّهم » أشد وقرنه بقول الشاعر : [ الكامل ]
ولقد أبيت من الفتاة بمنزل . . . فأبيت لا حرج ولا محروم{[8006]}
أي فأبيت يقال فيَّ لا حرج ولا محروم . ورحج الزجاج قول الخليل وذكر عنه النحاس أنه غلط سيبوبه في قوله في هذه المسألة{[8007]} ، قال سيبويه : ويلزم على هذا أن يجوز أضرب السارق الخبيث أي الذي يقال له ع : وليس بلازم من حيث هذه أسماء مفردة والآية جملة وتسلط الفعل على المفرد أعظم منه على الجملة ، ومذهب سيبوبه أن «أيُّهم » مبني على الضم إذ هي اخت «الذي ولما » وخالفتهما في جواز الإضافة فيها فأعربت لذلك ، فلما حذف من صلتها ما يعود عليها ضعفت فرجعت الى البناء ، وكأن التقدير «أيُّهم » هو أشد . قال أبو علي : حذف ما الكلام مفتقر إليه فوجب البناء ، وقال يونس : علق عنها الفعل وارتفعت بالابتداء ، قال أبو علي : معنى ذلك أنه معمل في موضع من كل شيعة إلا أنه ملغى لأنه لا تعلق جملة إلا أفعال الشك كظننت ونحوها مما لم يتحقق وقوعه ،
الفاء تفريع على جملة { أو لا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل } [ مريم : 67 ] ، باعتبار ما تضمنته من التهديد . وواو القسم لتحقيق الوعيد . والقسم بالرب مضافاً إلى ضمير المخاطب وهو النبي صلى الله عليه وسلم إدماج لتشريف قدره .
وضمير { لنحشرنهم } عائد إلى { الإنسان } [ مريم : 66 ] المراد به الجنس المفيد للاستغراق العرفي كما تقدم ، أي لنحشرن المشركين .
وعطف ( الشياطين ) على ضمير المشركين لقصد تحقيرهم بأنهم يحشرون مع أحقر جنس وأفسده ، وللإشارة إلى أن الشياطين هم سبب ضلالهم الموجب لهم هذه الحالة ، فحشرهم مع الشياطين إنذار لهم بأن مصيرهم هو مصير الشياطين وهو محقق عندالناس كلهم . فلذلك عطف عليه جملة { ثم لنُحضِرنّهم حول جهنّم جثيّاً } ، والضميرُ للجميع . وهذا إعداد آخر للتقريب من العذاب فهو إنذار على إنذار وتدرج في إلقاء الرّعب في قلوبهم . فحرف { ثم للترتيب الرتبي لا للمهلة إذ ليست المهلة مقصودة وإنما المقصود أنهم ينقلون من حالة عذاب إلى أشد .
و { جثيّاً } حال من ضمير { لنحضرنهم } ، والجُثيّ : جمع جَاثثٍ . ووزنه فُعول مثل : قاعد وقُعود وجالس وجُلوس ، وهو وزن سماعيّ في جمع فاعل . وتقدّم نظيره { خروا سجداً وبكياً } [ مريم : 58 ] ، فأصل جُثي جُثُور بواوَين لأن فعله واوي ، يقال : جثا يَجثو إذا بَرك على ركبتيه وهي هيئة الخاضع الذليل ، فلمّا اجتمع في جثووٌ واوان استثقلا بعد ضمّة الثاء فصير إلى تخفيفه بإزالة سبب الثقل السابق وهو الضمة فعوضت بكسر الثاء ، فلمّا كسرت الثاء تعين قلب الواو الموالية لها ياءً للمناسبة فاجتمع الواو والياء وسبق أحدهما بالسكون فقلبت الواو الأخرى ياء وأدغمتا فصار جثي .
وقرى حمزة ، والكسائي ، وحفص ، وخلف بكسر الجيم وهو كسر إتباع لحركة الثاء .
وهذا الجثو هو غير جثوّ الناس في الحشر المحكيّ بقوله تعالى : { وترى كل أمة جاثية كل أمة تدعى إلى كتابها } [ الجاثية : 28 ] فإن ذلك جثوّ خضوع لله ، وهذا الجثوّ حول جهنّم جثوّ مذلّة .