ثم خاطب المؤمنين فقال : { وإن تدعوهم إلى الهدى } ، وإن تدعوا المشركين إلى الإسلام .
قوله تعالى : { لا يتبعوكم } ، قرأ نافع بالتخفيف ، { وكذلك يتبعهم الغاوون } [ الشعراء : 244 ] وقرأ الآخرون بالتشديد فيهما ، وهما لغتان ، يقال : تبعه تبعاً واتبعه اتباعاً . قوله تعالى : { سواء عليكم أدعوتموهم } ، إلى الدين .
قوله تعالى : { أم أنتم صامتون } ، عن دعائهم لا يؤمنون ، كما قال : { سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون } [ البقرة : 6 ] وقيل : { وإن تدعهم إلى الهدى } يعني : الأصنام ، { لا يتبعوكم } لأنها غير عاقلة .
وإن تدعوا ، أيها المشركون هذه الأصنام ، التي عبدتم من دون اللّه إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ .
فصار الإنسان أحسن حالة منها ، لأنها لا تسمع ، ولا تبصر ، ولا تهدِي ولا تُهدى ، وكل هذا إذا تصوره اللبيب العاقل تصورا مجردا ، جزم ببطلان إلهيتها ، وسفاهة من عبدها .
ثم بين - سبحانه - عجز الأصنام عما هو أدنى من النصر المنفى عنهم وأيسر وهو مجرد الدلالة على المطلوب من غير تحصيله للطالب فقال : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ } أى : وإن تدعو أيها المشركون هذه الأصنام إلى الهدى والرشاد لا يتبعوكم ، أى أنهم لا ينفعوكم بشىء ولا ينتفعون منكم بشىء .
وقوله { سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } استئناف مقرر لمضمون ما قبله .
أى : مستو عندكم دعاؤكم إياهم وبقاؤكم على صمتكم ، فإنه لا يتغير حالكم في الحالين ، كما لا يتغير حالهم بحكم أنهم جماد .
( وإن تدعوهم إلى الهدى لا يتبعوكم ، سواء عليكم ادعوتموهم أم أنتم صامتون . إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم . فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين . ألهم أرجل يمشون بها ؟ أم لهم أيد يبطشون بها ؟ أم لهم أعين يبصرون بها ؟ أم لهم آذان يسمعون بها ؟ )
لقد كانت وثنية مشركي العرب وثنية ساذجة - كما أسلفنا - سخيفة في ميزان العقل البشري في أية مرحلة من مراحله ! ومن ثم كان القرآن ينبه فيهم هذا العقل ؛ وهو يواجههم بسخافة ما يزاولونه من الشرك بمثل هذه الآلهة .
وقوله : { وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لا يَتَّبِعُوكُمْ [ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ] }{[12531]} يعني : أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها ، وسواء لديها من دعاها ومن دحاها ، كما قال إبراهيم : { يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا } [ مريم : 42 ] ؟
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَىَ لاَ يَتّبِعُوكُمْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ } . .
يقول تعالى ذكره في وصفه وعيبه ما يشرك هؤلاء المشركون في عبادتهم ربهم إياه : ومن صفته أنكم أيها الناس إن تدعوهم إلى الطريق المستقيم ، والأمر الصحيح السديد لا يَتّبِعُوكُمْ لأنها ليست تعقل شيئا ، فتترك من الطرق ما كان عن القصد منعدلاً جائرا ، وتركب ما كان مستقيما سديدا . وإنما أراد الله جلّ ثناؤه بوصف آلهتهم بذلك من صفتها تنبيههم على عظيم خطئهم ، وقُبح اختيارهم ، يقول جلّ ثناؤه : فكيف يهديكم إلى الرشاد من إن دعي إلى الرشاد وعرفه لم يعرفه ، ولم يفهم رشادا من ضلال ، وكان سواءً دعاء داعيه إلى الرشاد وسكوته ، لأنه لا يفهم دعاءه ، ولا يسمع صوته ، ولا يعقل ما يقال له ؟ يقول : فكيف يُعبد من كانت هذه صفته ، أم كيف يشكل عظيم جهل من اتخذ ما هذه صفته إلها ؟ وإنما الربّ المعبود هو النافع من يعبده ، الضارّ من يعصيه ، الناصر وليه ، الخاذل عدوّه ، الهادي إلى الرشاد من أطاعه ، السامع دعاء من دعاه . وقيل : سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أدَعَوْتُموهُمْ أمْ أنْتُمْ صَامِتُونَ فعطف بقوله : «صامتون » ، وهو اسم على قوله : «أدعوتموهم » ، وهو فعل ماض ، ولم يقل : أم صَمَتّم ، كما قال الشاعر :
سَوَاءٌ عَلَيْكَ القَفْرُ أمْ بِتّ لَيْلَةً ***بأهْلِ القِبابِ مِنْ نُمَيْرِ بْنِ عامِرِ
وقوله تعالى : { وإن تدعوهم إلى الهدى } الآية ، من قال إن الآيات في آدم عليه السلام قال إن هذه مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم وأمته مستأنفة في أمر الكفار المعاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم ، و { لهم } الهاء والميم من { تدعوهم } ، ومن قال بالقول الآخر قال إن هذه مخاطبة للمؤمنين والكفار على قراءة من قرأ «يشركون » بالياء من تحت ، وللكفار فقط على من قرأ بالتاء من فوق على جهة التوقيف ، أي إن هذه حال الأصنام معكم إن دعوتموهم لم يجيبوكم إذ ليس لهم حواس ولا إدراكات ، وقرأ نافع وحده «لا يتْبَعوكم » بسكون التاء وفتح الباء وقرأ الباقون «لا يتَّبِعوكم » بشد التاء المفتوحة وكسر الباء والمعنى واحد ، وفي قوله تعالى : { أدعوتموهم أم أنتم } عطف الاسم على الفعل ، إذ التقدير أم صمتم ومثل هذا قول الشاعر : [ الطويل ]