73- وأرسلنا إلى ثمود{[69]} أخاهم صالحا الذي يشاركهم في النسب والوطن ، وكانت دعوته كدعوة الرسل قبله وبعده . قال لهم : أخلصوا العبادة لله - وحده - ما لكم أي إله غيره ، وقد جاءتكم حُجة على رسالتي من ربكم ، هي ناقة ذات خَلق اختصت به ، فيها الحُجة ، وهي ناقة الله ، فاتركوها تأكل في أرض الله من عشبها ، ولا تنالوها بسوء فينالكم عذاب شديد الإيلام .
قوله تعالى : { وإلى ثمود أخاهم صالحاً } ، وهو ثمود بن عابر ، بن أرم بن سام ، بن نوح ، وأراد هاهنا القبيلة . قال أبو عمرو بن العلاء : سميت ثمود لقلة مائها . والثمد الماء القليل ، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى { أخاهم صالحاً } ، أي : أرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب ، لا في الدين صالحاً ، وهو صالح بن عبيد ، بن آسف ، بن ماسح ، ابن عبيد ، بن ثمود .
قوله تعالى : { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم } ، حجة .
قوله تعالى : { من ربكم } على صدقي .
قوله تعالى : { هذه ناقة الله } ، أضافها إليه على التفضيل والتخصيص . كما يقال بيت الله .
قوله تعالى : { لكم آية } ، نصب على الحال .
قوله تعالى : { فذروها تأكل } ، العشب .
قوله تعالى : { في أرض الله ولا تمسوها بسوء } ، لا تصيبوها بعقر .
أي { و } أرسلنا { إِلَى ثَمُودَ } القبيلة المعروفة الذين كانوا يسكنون الحجر وما حوله ، من أرض الحجاز وجزيرة العرب ، أرسل اللّه إليهم { أَخَاهُمْ صَالِحًا } نبيا يدعوهم إلى الإيمان والتوحيد ، وينهاهم عن الشرك والتنديد ، ف { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } دعوته عليه الصلاة والسلام من جنس دعوة إخوانه من المرسلين ، الأمر بعبادة اللّه ، وبيان أنه ليس للعباد إله غير اللّه ، { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } أي : خارق من خوارق العادات ، التي لا تكون إلا آية سماوية لا يقدر الناس عليها ، ثم فسرها بقوله : { هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً } أي : هذه ناقة شريفة فاضلة لإضافتها إلى اللّه تعالى إضافة تشريف ، لكم فيها آية عظيمة . وقد ذكر وجه الآية في قوله : { لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ }
وكان عندهم بئر كبيرة ، وهي المعروفة ببئر الناقة ، يتناوبونها هم والناقة ، للناقة يوم تشربها ويشربون اللبن من ضرعها ، ولهم يوم يردونها ، وتصدر الناقة عنهم .
وقال لهم نبيهم صالح عليه السلام { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ } فلا عليكم من مئونتها شيء ، { وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ } أي : بعقر أو غيره ، { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }
ثم قصت علينا السورة بعد ذلك قصة صالح - عليه السلام - مع قومه فقالت : { وإلى ثَمُودَ . . . . } .
صالح - كما قال الحافظ البغوى - هو ابن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد ابن حاذر بن ثمود : وينتهى نسبه إلى نوح - عليه السلام - .
وثمود اسم للقبيلة التي منها صالح سميت باسم جدها ثمود ، وقيل سميت بذلك لقلة مائها لأن الثمد هو الماء القليل .
وكانت مسكنهم بالحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم - ، وقيل سميت بذلك لقلة مائها لأن الثمد هو الماء القليل .
وكانت مساكنهم بالحجر - بكسر الحاء وسكون الجيم - ، والحجر مكان يقع بين الحجاز والشام إلى وادى القرى ، وموقعه الآن ، تقريباً - المنطقة التي بين الحجاز وشرق الأردن ، وما زال المكان الذي كانوا يسكنونه يسمى بمدائن صالح إلى اليوم ، وقد مر النبى صلى الله عليه وسلم على ديارهم وهو ذاهب إلى غزوة تبوك سنة تسع من الهجرة .
وقبيلة صالح من قبائل العرب ، وكانوا خلفاء لقوم هود - عليه السلام - بعد أن هلكوا فورثوا أرضهم ، وآتاهم الله نعما وفيرة ، وكانوا يعبدون الأصنام فأرسل إليهم نبيهم صالحا مبشرا ونذيراً .
قال - تعالى - : { وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } .
أى : وأرسلنا إلى ثمود أخاهم في النسب والموطن صالحا - عليه السلام - فقال لهم الكلمة التي دعا بها كل نبى قومه : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله سواه ، قد جاءتكم معجزة ظاهرة الدلائل ، شاهدة بنبوتى وصدقى فيما أبلغه عن ربى .
وقوله : { مِّن رَّبِّكُمْ } متعلق بمحذوف صفة لبينة ، أى هذه البينة كائنة من ربكم وليست من صنعى فعليكم أن تصدقونى لأنى مبلغ عن الله - تعالى - .
ثم كشف لهم عن معجزته وحجته فقال : { هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً } أى : هذه التي ترونها وأشير إليها ناقة الله ، والتى جعلها - سبحانه - علامة لكم على صدقى .
واضاف الناقة إلى الله للتفضيل والتخصيص والتعظيم لشأنها . وقيل : لأنه - سبحانه - خلقها على خلاف سنته في خلق الإبل وصفاتها ، وقيل : لأنها لم يكن لها مالك .
وقد ذكر المفسرون عنها قصصاً لا تخلو من ضعف ، لذا اكتفينا بما ورد في شأنها في القرآن الكريم .
ثم أرشدهم إلى ما يجب عليهم نحوها فقال : { فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
أى ارتكوا الناقة حرة طليقة تأكل في أرض الله لاتى لا يملكها أحد سواه ولا تعتدوا عليها بأى لون من ألوان الاعتداء ، لأنكم لو فعلتم ذلك أصابكم عذاب أليم .
والفاء في قوله : { فَذَرُوهَا } للتفريع على كونها آية من آيات الله ، فيجب إكرامها وعدم التعرض لها بسوء .
و { تَأْكُلْ } مجزوم في جواب الأمر .
وأضيفت الأرض إلى الله - أيضاً - قطعا لعذرهم في التعرض لها ، فكأنه يقول لهم ، الأرض أرض الله والناقة ناقته ، فذروها تأكل في أرضه لأنها ليست لكم ، وليس ما فيها من عشب ونبات من صنعكم ، فأى عذر لكم في التعرض لها ؟
وفى نهيهم عن أن يمسوها بسوء تنبيه بالأدنى على الأعلى ، لأنه إذا كان قد نهاهم عن مسها بسوء إكراما لها فنهيهم عن نحرها أو عقرها أو منعها من الكلأ والماء من باب أولى . فالجملة الكريمة وعيد شديد لمن يمسها بسوء .
وقوله : { فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } الفعل المضارع منصوب في جواب النهى .
( وإلى ثمود أخاهم صالحاً ، قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره . قد جاءتكم بينة من ربكم ، هذه ناقة الله لكم آية ، فذروها تأكل في أرض الله ، ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم . واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد ، وبوأكم في الأرض ، تتخذون من سهولها قصوراً ، وتنحتون الجبال بيوتاً ، فاذكروا آلاء الله ، ولا تعثوا في الأرض مفسدين . قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا - لمن آمن منهم - : أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه ؟ قالوا : إنا بما أرسل به مؤمنون ، قال الذين استكبروا : إنا بالذي آمنتم به كافرون . فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم ، وقالوا : يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين . فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين . فتولى عنهم وقال : يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ، ونصحت لكم ، ولكن لا تحبون الناصحين ) . .
وهذه صفحة أخرى من صحائف قصة البشرية ؛ وهي تمضي في خضم التاريخ . وها هي ذي نكسة أخرى إلى الجاهلية ؛ ومشهد من مشاهد اللقاء بين الحق والباطل ، ومصرع جديد من مصارع المكذبين .
( وإلى ثمود أخاهم صالحاً . قال : يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ) . .
ذات الكلمة الواحدة التي بها بدأ هذا الخلق وإليها يعود . وذات المنهج الواحد في الاعتقاد والاتجاه والمواجهة والتبليغ . .
ويزيد هنا تلك المعجزة التي صاحبت دعوة صالح ، حين طلبها قومه للتصديق :
( قد جاءتكم بينة من ربكم ، هذه ناقة الله لكم آية ) . .
والسياق هنا ، لأنه يستهدف الاستعراض السريع للدعوة الواحدة ، ولعاقبة الإيمان بها وعاقبة التكذيب ، لا يذكر تفصيل طلبهم للخارقة ، بل يعلن وجودها عقب الدعوة . وكذلك لا يذكر تفصيلاً عن الناقة أكثر من أنها بينة من ربهم ، وأنها ناقة الله وفيها آية منه ، ومن هذا الإسناد نستلهم أنها كانت ناقة غير عادية ، أو أنها أخرجت لهم إخراجاً غير عادي . مما يجعلها بينة من ربهم ، ومما يجعل نسبتها إلى الله ذات معنى ، ويجعلها آية على صدق نبوته . . ولا نزيد على هذا شيئاً مما لم يرد ذكره من أمرها في هذا المصدر المستيقن - وفيما جاء في هذه الإشارة كفاية عن كل تفصيل آخر - فنمضي نحن مع النصوص ونعيش في ظلالها :
( فذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب أليم ) . .
إنها ناقة الله ، فذروها تأكل في أرض الله ، وإلا فهو النذير بسوء المصير . .
قال علماء التفسير والنسب : ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح ، وهو أخو جَديس بن عاثر ، وكذلك قبيلة طَسْم ، كل هؤلاء كانوا أحياء من العرب العاربة قبل إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، وكانت ثمود بعد عاد ، ومساكنهم مشهورة فيما بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله ، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قراهم ومساكنهم ، وهو ذاهب إلى تبوك سنة تسع .
قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الصمد ، حدثنا صَخْر بن جُوَيرية ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك ، نزل بهم{[11899]} الحجر عند بيوت ثمود ، فاستسقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود ، فعجنوا منها ونصبوا منها القدور . فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهرقوا القدور ، وعلفوا العجينَ الإبلَ ، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا وقال : " إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، فلا تدخلوا عليهم " {[11900]}
وقال [ الإمام ]{[11901]} أحمد أيضا : حدثنا عفان ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم ، حدثنا عبد الله بن دينار ، عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر : " لا تدخلوا على هؤلاء المعذَّبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين ، فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثلُ ما أصابهم " {[11902]}
وأصل هذا الحديث مُخَرَّج في الصحيحين من غير وجه{[11903]}
وقال الإمام أحمد أيضًا : حدثنا يزيد بن هارون ، أخبرنا المسعودي ، عن إسماعيل بن أوسط ، عن محمد بن أبي كَبْشَة الأنماري ، عن أبيه قال : لما كان في غزوة تبوك ، تسارع الناس إلى أهل الحجر ، يدخلون عليهم ، فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فنادى في الناس : " الصلاة جامعة " . قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ممسك بعيره{[11904]} وهو يقول : " ما تدخلون على قوم غضب الله عليهم " . فناداه رجل منهم : نعجبُ منهم يا رسول الله . قال : " أفلا أنبئكم بأعجب من ذلك : رجل من أنفسكم ينبئكم بما كان قبلكم ، وبما هو كائن بعدكم ، فاستقيموا وسَدِّدوا ، فإن الله لا يعبأ بعذابكم شيئا ، وسيأتي قوم لا يدفعون عن أنفسهم شيئا " {[11905]}
لم يخرجه أحد من أصحاب السنن{[11906]} وأبو كبشة اسمه : عمر{[11907]} بن سعد ، ويقال : عامر بن سعد ، والله أعلم .
وقال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق : حدثنا مَعْمَر ، عن عبد الله بن عثمان بن خُثَيْم ، عن أبي الزبير ، عن جابر قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر قال : " لا تسألوا الآيات ، فقد سألها قوم صالح فكانت - يعني الناقة - ترد من هذا الفَجّ ، وتَصْدُر من هذا الفج ، فعتوا عن أمر ربهم فعقروها ، وكانت تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما ، فعقروها ، فأخذتهم صيحة ، أهمد{[11908]} الله مَنْ تحت أديم السماء منهم ، إلا رجلا واحدًا كان في حرم الله " . فقالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : " أبو رِغال . فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه " {[11909]}
وهذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة ، وهو على شرط مسلم .
فقوله تعالى : { وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا } أي : ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا ، { قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ } جميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ } [ الأنبياء : 25 ] وقال [ تعالى ]{[11910]} { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } [ النحل : 36 ] .
وقوله : { قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً } أي : قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به . وكانوا هم الذين سألوا صالحا أن يأتيهم بآية ، واقترحوا عليه أن تخرج لهم من صخرة صمَاء عَيّنوها بأنفسهم ، وهي صخرة منفردة في ناحية الحِجْر ، يقال لها : الكَاتبة ، فطلبوا منه{[11911]} أن يخرج لهم منها ناقة عُشَراء تَمْخَضُ ، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه ؟ فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم ، قام صالح ، عليه السلام ، إلى صلاته ودعا الله ، عز وجل ، فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جَوْفاء وَبْرَاء يتحرك جنينها بين جنبيها ، كما سألوا ، فعند ذلك آمن رئيس القوم وهو : " جُندَع بن عمرو " ومن كان معه على أمره{[11912]} وأراد بقية أشراف ثمود أن يؤمنوا فصدهم " ذُؤاب بن عمرو بن لبيد " " والحباب " صاحب أوثانهم ، ورباب بن صمعر بن جلهس ، وكان ل " جندع بن عمرو " ابن عم يقال له : " شهاب بن خليفة بن محلاة بن لبيد بن حراس " ، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها ، فأراد أن يسلم أيضا فنهاه أولئك الرهط ، فأطاعهم ، فقال في ذلك رجل من مؤمني ثمود ، يقال له مهوس{[11913]} بن عنمة بن الدميل ، رحمه الله :
وكانت عُصْبةٌ من آل عَمْرو*** إلى دين النبيّ دَعَوا شِهَابا
عَزيزَ ثَمُودَ كُلَّهمُ جميعا *** فَهَمّ بأن يُجِيبَ فلو{[11914]} أجابا
لأصبحَ صالحٌ فينا عَزيزًا *** وما عَدَلوا بصاحبهم ذُؤابا
ولكنّ الغُوَاة من آل حُجْرٍ *** تَوَلَّوْا بعد رُشْدهم ذئابا
فأقامت الناقة وفصيلها بعد ما وضعته بين أظهرهم مدة ، تشرب ماء بئرها يوما ، وتدعه لهم يوما ، وكانوا يشربون لبنها يوم{[11915]} شربها ، يحتلبونها فيملئون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم ، كما قال في الآية الأخرى : { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ } [ القمر : 28 ] وقال تعالى : { هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } [ الشعراء : 155 ] وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترد من فَجّ وتصدر من غيره ليسعها ؛ لأنها كانت تتضلَّع عن الماء ، وكانت - على ما ذكر - خَلْقًا هائلا ومنظرًا رائعًا ، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها . فلما طال عليهم واشتد تكذيبهم لصالح النبي ، عليه السلام ، عزموا على قتلها ، ليستأثروا بالماء كل يوم ، فيقال : إنهم اتفقوا كلهم على قتلها{[11916]}
قال قتادة : بلغني أن الذي قتل الناقة طاف عليهم كلهم ، أنهم راضون بقتلها حتى على النساء في خدورهن ، وعلى الصبيان [ أيضا ]{[11917]}
قلت : وهذا هو الظاهر ؛ لأن الله تعالى يقول : { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا } [ الشمس : 14 ] وقال : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا } [ الإسراء : 59 ] وقال : { فَعَقَرُوا النَّاقَةَ } فأسند ذلك على مجموع القبيلة ، فدل على رضا جميعهم بذلك ، والله أعلم .
وذكر الإمام أبو جعفر بن جرير ، رحمه الله ، وغيره من علماء التفسير في سبب قتل الناقة : أن امرأة منهم يقال لها : " عنيزة ابنة غنم بن مِجْلِز " وتكنى أم غَنَمْ{[11918]} كانت عجوزا كافرة ، وكانت من أشد الناس عداوة لصالح ، عليه السلام ، وكانت لها بنات حسان ومال جزيل ، وكان زوجها ذُؤاب بن عمرو أحد رؤساء ثمود ، وامرأة أخرى يقال لها : " صدوف بنت المحيا بن دهر{[11919]} بن المحيا " ذات حسب ومال وجمال ، وكانت تحت رجل مسلم من ثمود ، ففارقته ، فكانتا تجعلان لمن التزم لهما بقتل الناقة ، فدعت " صدوف " رجلا يقال له : " الحباب " وعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة ، فأبى عليها . فدعت ابن عم لها يقال له : " مصدع بن مهرج بن المحيا " ، فأجابها إلى ذلك - ودعت " عنيزة بنت غنم " قدار بن سالف بن جُنْدَع{[11920]} وكان رجلا أحمر أزرق قصيرًا ، يزعمون أنه كان ولد زنية ، وأنه لم يكن من أبيه الذي ينسب إليه ، وهو سالف ، وإنما هو{[11921]} من رجل يقال له : " صهياد " {[11922]} ولكن ولد على فراش " سالف " ، وقالت له : أعطيك أي بناتي شئتَ على أن تعقر{[11923]} الناقة ! فعند ذلك ، انطلق " قدار بن سالف " " ومصدع بن مهرج " ، فاستفزا غُواة من ثمود ، فاتبعهما سبعة نفر ، فصاروا تسعة رهط ، وهم الذين قال الله تعالى : { وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ } [ النمل : 48 ] وكانوا رؤساء في قومهم ، فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها ، فطاوعتهم على ذلك ، فانطلقوا فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء ، وقد كمن لها " قدار " في أصل صخرة على طريقها ، وكمن لها " مصدع " في أصل أخرى ، فمرت على " مصدع " فرماها بسهم ، فانتظم به عضَلَة ساقها وخرجت " أم غَنَم عنيزة " ، وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس وجها ، فسفرت عن وجهها لقدار وذمّرته فشدّ على الناقة بالسيف ، فكسفَ{[11924]} عرقوبها ، فخرت ساقطة إلى الأرض ، ورغت رَغاة واحدة تحذر سَقْبَها ، ثم طعن في لَبَّتها فنحرها ، وانطلق سَقْبَها - وهو فصيلها - حتى أتى جبلا منيعًا ، فصعد أعلى صخرة فيه ورغا - فروى عبد الرزاق ، عن مَعْمَر ، عمن سمع الحسن البصري أنه قال :
يا رب أين أمي ؟ ويقال : إنه رغا ثلاث مرات . وإنه دخل في صخرة فغاب فيها ، ويقال : بل اتبعوه فعقروه مع أمه ، فالله أعلم{[11925]}
فلما فعلوا ذلك وفرغوا من عقر الناقة ، بلغ الخبر صالحا ، عليه السلام ، فجاءهم وهم مجتمعون ، فلما رأى الناقة بكى وقال : { تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ [ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ{[11926]} ] } [ هود : 65 ] وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء ، فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح [ عليه السلام ]{[11927]} وقالوا : إن كان صادقًا عَجَّلناه قبلنا ، وإن كان كاذبًا ألحقناه بناقته ! { قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ . وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا }{[11928]} الآية . [ النمل : 49 - 52 ]
فلما عزموا على ذلك ، وتواطؤوا عليه ، وجاءوا من الليل ليفتكوا بنبي الله صالح ، أرسل الله ، سبحانه وتعالى ، وله العزة ولرسوله ، عليهم حجارة فرضَختهم سلفا وتعجيلا قبل قومهم ، وأصبح ثمود يوم الخميس ، وهو اليوم الأول من أيام النَّظرة ، ووجوههم مصفرة كما وعدهم صالح ، عليه السلام ، وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل ، وهو يوم الجمعة ، ووجوههم محمرة ، وأصبحوا{[11929]} في اليوم الثالث من أيام المتاع{[11930]} وهو يوم السبت ، ووجوههم مسودة ، فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحَنَّطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه ، عياذا بالله من ذلك ، لا يدرون ماذا يفعل بهم ، ولا كيف يأتيهم العذاب ؟ و[ قد ]{[11931]} أشرقت الشمس ، جاءتهم صيحة من السماء ورَجْفة شديدة من أسفل منهم ، ففاضت الأرواح وزهقت النفوس في ساعة واحدة { فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أي : صرعى لا أرواح فيهم ، ولم يفلت منهم أحد ، لا صغير ولا كبير ، لا ذكر ولا أنثى - قالوا : إلا جارية كانت مقعدة - واسمها " كلبة بنة السّلْق " ، ويقال لها : " الزريقة " {[11932]} - وكانت كافرة شديدة العداوة لصالح ، عليه السلام ، فلما رأت ما رأت من العذاب ، أُطلِقَت رجلاها ، فقامت تسعى كأسرع شيء ، فأتت حيا من الأحياء فأخبرتهم بما رأت وما حل بقومها ، ثم استسقتهم من الماء ، فلما شربت ، ماتت .
قال علماء التفسير : ولم يبق من ذرية ثمود أحد ، سوى صالح ، عليه السلام ، ومن اتبعه ، رضي الله عنهم ، إلا أن رجلا يقال له : " أبو رِغال " ، كان لما وقعت النقمة بقومه مقيما في الحرم ، فلم يصبه شيء ، فلما خرج في بعض الأيام إلى الحلّ ، جاءه حجر من السماء فقتله .
وقد تقدم في أول القصة حديث " جابر بن عبد الله " في ذلك ، وذكروا أن أبا رغال هذا هو والد ثقيف " الذين كانوا يسكنون الطائف{[11933]}
قال عبد الرزاق : قال مَعْمَر : أخبرني إسماعيل بن أمية ؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال : " أتدرون من هذا ؟ " فقالوا : الله ورسوله أعلم . قال : " هذا قبر أبي رغال ، رجل من ثمود ، كان في حرم الله ، فمنعه حرمُ الله عذاب الله . فلما خرج أصابه ما أصاب قومه ، فدفن هاهنا ، ودفن معه غصن من ذهب ، فنزل القوم فابتدروه بأسيافهم ، فبحثوا عنه ، فاستخرجوا الغصن " .
وقال عبد الرزاق : قال معمر : قال الزهري : أبو رغال : أبو ثقيف{[11934]}
هذا مرسل من هذا الوجه ، وقد روي متصلا من وجه آخر ، كما قال محمد بن إسحاق ، عن إسماعيل بن أمية ، عن بُجَير بن أبي بجير قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ، حين خرجنا معه إلى الطائف ، فمررنا بقبر فقال : " هذا قبر أبي رغال ، وهو أبو ثقيف ، وكان من ثمود ، وكان بهذا الحرم فدفع{[11935]} عنه ، فلما خرج [ منه ]{[11936]} أصابته النقمة التي أصابت قومه بهذا المكان ، فدفن فيه . وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب ، إن أنتم نبشم عنه أصبتموه [ معه ]{[11937]} فابتدره الناس{[11938]} فاستخرجوا منه الغصن " .
وهكذا رواه أبو داود ، عن يحيى بن معين ، عن وهب بن جرير بن حازم ، عن أبيه ، عن ابن إسحاق ، به{[11939]}
قال شيخنا أبو الحجاج المزي : وهو حديث حسن عزيز{[11940]} {[11941]}
قلت : تفرد بوصله " بُجَيْر بن أبي بجير " هذا ، وهو شيخ لا يعرف إلا بهذا الحديث . قال يحيى ابن معين : ولم أسمع أحدًا روى عنه غير إسماعيل بن أمية .
قلت : وعلى هذا ، فيخشى أن يكون وهم في رفع هذا الحديث ، وإنما يكون من كلام عبد الله بن عمرو ، مما أخذه من الزاملتين .
قال شيخنا أبو الحجاج ، بعد أن عرضت عليه ذلك : وهذا محتمل ، والله أعلم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِلَىَ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُمْ مّنْ إِلََهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيّنَةٌ مّن رّبّكُمْ هََذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيَ أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : ولقد أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا . وثمود : هو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح ، وهو أخو جديس بن عابر ، وكانت مساكنهما الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله . ومعنى الكلام : وإلى بني ثمود أخاهم صالحا . وإنما منع ثمود ، لأن ثمود قبيلة كما بكر قبيلة ، وكذلك تميم . قال : يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللّهَ ما لَكُمْ مِنْ إلَه غيرُهُ يقول : قال صالح لثمود : يا قوم اعبدوا الله وحده لا شريك له ، فما لكم إله يجوز أن تعبدوه غيره ، وقد جاءتكم حجة وبرهان على صدق ما أقول وحقيقة ما إليه أدعو من إخلاص التوحيد لله وإفراده بالعبادة دون ما سواه وتصديقي على أني له رسول وبينتى على ما أقول وحقيقة ما جئتكم به من عند ربي ، وحجتي عليه هذه الناقة التي أخرجها الله من هذه الهضبة دليلاً على نبوتي وصدق مقالتي ، فقد علمتم أن ذلك من المعجزات التي لا يقدر على مثلها أحد إلاّ الله . وإنما استشهد صالح فيما بلغني على صحة نبوّته عند قومه ثمود بالناقة لأنهم سألوه إياها آية ودلالة على حقيقة قوله .
ذكر من قال ذلك ، وذكر سبب قتل قوم صالح الناقة :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن عبد العزيز بن رفيع ، عن أبي الطفيل ، قال : قالت ثمود لصالح : ائْتِنا بآيَةٍ إنْ كُنْتَ مِنَ الصّادِقِينَ قال : فقال لهم صالح : اخرجوا إلى هضبة من الأرض فخرجوا ، فإذا هي تتمخض كما تتمخض الحامل . ثم إنها انفرجت ، فخرجت من وسطها الناقة ، فقال صالح : هَذِهِ ناقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُل فِي أرْضِ اللّهِ وَلا تَمَسّوها بِسُوءٍ فَيأْخُذَكُمْ عَذابٌ ألِيمٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ فلما ملوها عقروها ، فَقَالَ لَهُمْ : تَمَتّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ ذَلِكَ وَعْد غَيْرُ مَكْذوبٍ . قال عبد العزيز ، وحدثني رجل آخر أن صالحا قال لهم : إن آية العذاب أن تصبحوا غدا حمرا ، واليوم الثاني صفرا ، واليوم الثالث سودا . قال : فصبحهم العذاب ، فلما رأوا ذلك تحنطوا واستعدّوا .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وإلى ثَمُودَ أخاهُمْ صَالِحا قال : إن الله بعث صالحا إلى ثمود ، فدعاهم فكذّبوه ، فقال لهم ما ذكر الله في القرآن ، فسألوه أن يأتيهم بآية ، فجاءهم بالناقة ، لها شرب ولهم شرب يوم معلوم ، وقال : ذَرُوها تَأْكُلْ فِي أرْضِ اللّهِ وَلا تَمَسّوها بسُوءٍ فأقّروا بها جميعا ، فذلك قوله : فَهَدَيْناهُمْ فاسْتَحَبوا العَمَى على الهُدَى وكانوا قد أقرّوا به على وجه النفاق والتّقية ، وكانت الناقة لها شرب ، فيوم تشرب فيه الماء تمر بين جبلين فيرجمونها ، ففيهما أثرها حتى الساعة ، ثم تأتي فتقف لهم حتى يحلبوا اللبن فيرويهم ، فكانت تصبّ اللبن صبّا ، ويوم يشربون الماء لا تأتيهم . وكان معها فصيل لها ، فقال لهم صالح : إنه يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يديه فولد لتسعة منهم في ذلك الشهر ، فذبحوا أبناءهم ، ثم وُلد للعاشر فأبى أن يذبح ابنه ، وكان لم يولد له قبل ذلك شيء ، فكان ابن العاشر أزرق أحمر ، فنبت نباتا سريعا ، فإذا مرّ بالتسعة فرأوه ، قالوا : لو كان أبناؤنا أحياء كانوا مثل هذا ، فغضب التسعة على صالح لأنه أمرهم بذبح أبنائهم ، فَتَقاسَمُوا بالله لَنُبَيّتَنّهُ وأهْلَهُ ثُمّ لَنَقُولَنّ لِوَلِيّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أهْلِهِ وَإنّا لَصَادِقونَ . قالوا : نخرج ، فيرى الناس أنا قد خرجنا إلى سفر ، فنأتي الغار فنكون فيه ، حتى إذا كان الليل وخرج صالح إلى المسجد أتيناه فقتلناه ثم رجعنا إلى الغار فكنا فيه ، ثم رجعنا فقلنا ما شهدنا مهلك أهله وإنا لصادقون ، يصدّقوننا يعلمون أنا قد خرجنا إلى سفر . فانطلقوا فلما دخلوا الغار أرادوا أن يخرجوا من الليل ، فسقط عليهم الغار فقتلهم ، فذلك قوله : وكانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحَونَ . . . حتى بلغ ههنا : فانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أنّا دَمّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أجمَعِينَ . وكبر الغلام ابن العاشر ، ونبت نباتا عجبا من السرعة ، فجلس مع قوم يصيبون من الشراب ، فأرادوا ماء يمزجون به شرابهم ، وكان ذلك اليوم يوم شرب الناقة ، فوجدوا الماء قد شربته الناقة ، فاشتدّ ذلك عليهم وقالوا في شأن الناقة : ما نصنع نحن باللبن ؟ لو كنا نأخذ هذا الماء الذي تشربه هذه الناقة ، فنسقيه أنعامنا وحروثنا ، كان خيرا لنا فقال : الغلام ابن العاشر : هل لكم في أن أعقرها لكم ؟ قالوا : نعم . فأظهروا دينهم ، فأتاها الغلام ، فلما بصرت به شدّت عليه ، فهرب منها فلما رأى ذلك ، دخل خلف صخرة على طريقها فاستتر بها ، فقال : أحيشوها عليّ فأحاشوها عليه ، فلما جازت به نادوه : عليكَ فتناولها فعقرها ، فسقطت فذلك قوله تعالى : فَنادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعاطَى فَعَقَرَ وأظهروا حينئذ أمرهم ، وعقروا الناقة ، وعتوا عن أمر ربهم ، وقالوا : يا صالح ائتنا بما تعدنا وفزع ناس منهم إلى صالح وأخبروه أن الناقة قد عقرت ، فقال : عليّ بالفصيل فطلبوا الفصيل فوجدوه على رابية من الأرض ، فطلبوه ، فارتفعت به حتى حلّقت به في السماء ، فلم يقدرا عليه . ثم دعا الفصيل إلى الله ، فأوحى الله إلى صالح أن مرهم فليتمتعوا في دارهم ثلاثة أيام ، فقال لهم صالح : تَمَتّعُوا فِي دَاركُمْ ثَلاثَةَ أيّامٍ وآية ذلك أن تصبح وجوهكم أوّل يوم مصفرّة ، والثاني محمرّة ، واليوم الثالث مسودة ، واليوم الرابع فيه العذاب . فلما رأوا العلامات تكفتوا وتحنطوا ولطّخوا أنفسم بالمرّ ، ولبسوا الأنطاع ، وحفروا الأسراب ، فدخلوا فيها ينتظرون الصيحة ، حتى جاءهم العذاب فهلكوا فذلك قوله : فَدَمّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أجمَعِينَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : لما أهلك الله عادا وتقضى أمرها ، عمرت ثمود بعدها واستُخلفوا في الأرض ، فنزلوا فيها وانتشروا . ثم عتوا على الله ، فلما ظهر فسادهم وعبدوا غير الله ، بعث إليهم صالحا وكانوا قوما عربا ، وهو من أوسطهم نسبا وأفضلهم موضعا رسولاً . وكانت منازلهم الحِجر إلى قُرْح ، وهو وادي القُرى ، وبين ذلك ثمانية عشر ميلاً فيما بين الحجاز والشام . فبعث الله إليهم غلاما شابا ، فدعاهم إلى الله ، حتى شمط وكبر ، لا يتبعه منهم إلا قليل مستضعفون فلما ألحّ عليهم صالح بالدعاء ، وأكثر لهم التحذير ، وخوّفهم من الله العذاب والنقمة ، سألوه أن يريهم آية تكون مصداقا لما يقول فيما يدعوهم إليه ، فقال لهم : أيّ آية تريدون ؟ قالوا : تخرج معنا إلى عيدنا هذا وكان لهم عيد يخرجون إليه بأصنامهم وما يعبدون من دون الله في يوم معلوم من السنة فتدعو إلهك وندعو آلهتنا ، فإن استجيب لك اتبعناك ، وإن استجيب لنا اتبعتنا . فقال لهم صالح : نعم . فخرجوا بأوثانهم إلى عيدهم ذلك ، وخرج صالح معهم إلى الله ، فدعوا أوثانهم وسألوها أن لا يستجاب لصالح في شيء مما يدعو به ، ثم قال له جندع بن عمرو بن حراش بن عمرو بن الدميل ، وكان يومئذ سيد ثمود وعظيمهم : يا صالح أخرج لنا من هذه الصخرة لصخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاثبة ناقةً مخترجة جوفاء وبراء والمخترجة : ما شاكلت البخت من الإبل . وقالت ثمود لصالح مثل ما قال جندع بن عمرو فإن فعلت آمنا بك وصدّقناك وشهدنا أن ما جئت به هو حقّ وأخذ عليهم صالح مواثيقهم : لئن فعلت وفعل الله لتُصدقنّي ولتؤمننّ بي ؟ قالوا : نعم ، فأعطوه على ذلك عهودهم ، فدعا صالح ربه بأن يخرجها لهم من تلك الهضبة كما وصفت .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس ، أنه حدث : أنهم نظروا إلى الهضبة حين دعا الله صالح بما دعا به تتمخض بالناقة تمخض النّتُوج بولدها ، فتحركت الهضبة ثم أسقطت الناقة ، فانصدعت عن ناقة كما وصفوا جوفاء وَبْراء نتوج ، ما بين جنبيها لا يعلمه إلا الله عظما . فآمن به جندع بن عمرو ومن كان معه على أمره من رهطه ، وأراد أشراف ثمود أن يؤمنوا به ويصدّقوا ، فنهاهم ذؤاب بن عمرو بن لبيد والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صمعر بن جلهس ، وكانوا من أشراف ثمود ، وردّوا أشرافها عن الإسلام ، والدخول فيما دعاهم إليه صالح من الرحمة والنجاة . وكان لجندع ابن عم يقال له شهاب بن خليفة بن مخلاة بن لبيد بن جواس ، فأراد أن يسلم فنهاه أولئك الرهط عن ذلك ، فأطاعهم ، وكان من أشراف ثمود وأفاضلها ، فقال رجل من ثمود يقال له مهوس بن عنمة بن الدميل ، وكان مسلما :
وكانَتْ عُصْبَةٌ مِنْ آلِ عَمْروٍ ***إلى دينِ النّبِيّ دَعَوْا شِهابا
عَزِيزَ ثَمودَ كُلّهمُ جَمِيعا ***فَهَمّ بِأنْ يُجِيبَ وَلَوْ أجابا
لأَصْبَحَ صَالِحٌ فِينا عَزِيزا ***وَما عَدَلُوا بصَاحِبِهِمْ ذُؤَابا
وَلكنّ الغُوَاةَ مِنْ آلِ حِجْرٍ ***تَوّلّوْا بَعْدَ رُشْدِهِمُ ذِئابا
فمكثت الناقة التي أخرجها الله لهم معها سقبها في أرض ثمود ترعى الشجر وتشرب الماء ، فقال لهم صالح عليه السلام : هَذِهِ ناقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكلْ فِي أرْضِ اللّهِ وَلا تَمَسّوها بِسُوءٍ فَيأْخُذَكُمْ عَذابٌ ألِيمٌ وقال الله لصالح : إن الماء قسمة بينهم ، كلّ شرب محتضر أي إن الماء نصفان : لهم يوم ولها يوم وهي محتضرة ، فيومها لا تدع شربها وقال لها شِرْبٌ ولَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ . فكانت فيما بلغني والله أعلم إذا وردت وكانت ترد غِبّا وضعت رأسها في بئر في الحجر يقال لها بئر الناقة ، فيزعمون أنها منها كانت تشرب ، إذا وردت تضع رأسها فيها ، فما ترفعه حتى تشرب كلّ قطرة ماء في الوادي ، ثم ترفع رأسها فتفسح يعني تفحّج لهم ، فيحتلبون ما شاءوا من لبن ، فيشربون ويدّخرون حتى يملئوا كلّ آنيتهم ، ثم تصدر من غير الفجّ الذي منه وردت ، لا تقدر على أن تصدر من حيث ترد لضيقه عنها ، فلا ترجع منه حتى إذا كان الغد كان يومهم ، فيشربون ما شاءوا من الماء ، ويدّخرون ما شاءوا ليوم الناقة ، فهم من ذلك في سعة . وكانت الناقة فيما يذكرون تصِيف إذا كان الحرّ بظهر الوادي ، فتهرب منها المواشي أغنامهم وأبقارهم وإبلهم ، فتهبط إلى بطن الوادي في حرّه وجدبه وذلك أن المواشي تنفر منها إذا رأتها ، وتشتو في بطن الوادي إذا كان الشتاء ، فتهرب مواشيهم إلى ظهر الوادي في البرد والجدب ، فأضرّ ذلك بمواشيهم للبلاء والاختبار . وكانت مراتعها فيما يزعمون الجِناب وحِسمى ، كل ذلك ترعى مع وادي الحجر . فكبر ذلك عليهم ، فعتوا عن أمر ربهم ، وأجمعوا في عقر الناقة رأيهم . وكانت امرأة من ثمود يقال لها عنيزة بنت غنم بن مجلز ، تكنى بأم غنم ، وهي من بني عبيد بن المهل أخي دميل بن المهل ، وكانت امرأة ذؤاب بن عمرو ، وكانت عجوزا مسنة ، وكانت ذات بنات حسان ، وكانت ذات مال من إبل وبقر وغنم ، وامرأةٌ أخرى يقال لها صدوف بنت المحيا بن زهير بن المحيا سيد بني عبيد وصاحب أوثانهم في الزمن الأوّل . وكان الوادي يقال له وادي المحيا ، وهو المحيا الأكبر جد المحيا الأصغر أبي صدوف . وكانت صدوف من أحسن الناس ، وكانت غنية ذات مال من إبل وغنم وبقر ، وكانتا من أشدّ امرأتين في ثمود عداوة لصالح وأعظمهم به كفرا ، وكانتا تحبان أن تعقر الناقة مع كفرهما به لما أضرّت به من مواشيهما . وكانت صدوف عند ابن خال لها يقال له صنتم بن هراوة بن سعد بن الغطريف من بني هليل ، فأسلم فحسن إسلامه ، وكانت صدوف قد فوّضت إليه مالها ، فأنفقه على من أسلم معه من أصحاب صالح حتى رقّ المال . فاطلعت على ذلك من إسلامه صدوف ، فعاتبته على ذلك ، فأظهر لها دينه ودعاها إلى الله وإلى الإسلام ، فأبت عليه ، وسبَتْ ولده ، فأخذت بنيه وبناته منه فغيبتهم في بني عبيد بطنها الذي هي منه . وكان صنتم زوجها من بني هليل ، وكان ابن خالها ، فقال لها : ردّي عليّ ولدي فقالت : حتى أنافرك إلى بني صنعان بن عبيد أو إلى بني جندع بن عبيد . فقال لها صنتم : بل أنا أقول إلى بني مرداس بن عبيد وذلك أن بني مرداس بن عبيد كانوا قد سارعوا في الإسلام وأبطأ عنه الاَخرون ، فقالت : لا أنافرك إلاّ إلى من دعوتك إليه فقال بنو مرداس : والله لتعطينه ولده طائعة أو كارهة فلما رأت ذلك أعطته إياهم . ثم إن صدوف وعنيزة تحيلا في عقر الناقة للشقاء الذي نزل ، فدعت صدوف رجلاً من ثمود يقال له الحباب لعقره الناقة ، وعرضت عليه نفسها بذلك إن هو فعل ، فأبى عليها . فدعت ابن عم لها يقال مصدع بن مهرج بن المحيا ، وجعلت له نفسها على أن يعقر الناقة ، وكانت من أحسن الناس ، وكانت غنية كثيرة المال ، فأجابها إلى ذلك . ودعت عنيزة بنت غنم قدار بن سالف بن جندع رجلاً من أهل قرح ، وكان قدار رجلاً أحمر أزرق قصيرا يزعمون أنه كان لزنية من رجل يقال له صهياد ، ولم يكن لأبيه سالف الذي يُدعى إليه ولكنه قد ولد على فراش سالف ، وكان يدعى له ويُنسب إليه ، فقالت : أعطيك أيّ بناتي شئت على أن تعقر الناقة وكانت عنيزة شريفة من نساء ثمود ، وكان زوجها ذؤاب بن عمرو من أشراف رجال ثمود ، وكان قدار عزيزا منيعا في قومه . فانطلق قدار بن سالف ومصدع بن مهرج ، فاستنفرا غواة من ثمود ، فاتبعهما سبعة نفر ، فكانوا تسعة نفر ، أحد النفر الذين اتبعوهما رجل يقال له هويل بن ميلغ خال قدار بن سالف أخو أمه لأبيها وأمها ، وكان عزيزا من أهل حجر ، ودعير بن غنم بن داعر ، وهو من بني حلاوة بن المهل ، ودأَب بن مهرج أخو مصدع بن مهرج ، وخمسة لم تحفظ لنا أسماؤهم . فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء ، وقد كمن لها قدار في أصل صخرة على طريقها ، وكمن لها مصدع في أصل أخرى ، فمرّت على مصدع فرماها بسهم ، فانتظم به عضلة ساقها . وخرجت أم غنم عنيزة وأمرت ابنتها وكانت من أحسن الناس وجها ، فأسفرت عنه لقدار وأرته إياه ، ثم ذمرته ، فشدّ على الناقة بالسيف ، فكشف عرقوبها ، فخرّت ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها ، ثم طعن في لبّتها فنحرها . وانطلق سقبها حتى أتى جبلاً منيعا ، ثم أتى صخرة في رأس الجبل فرغا ولاذ بها واسم الجبل فيما يزعمون صور فأتاهم صالح ، فلما رأى الناقة قد عقرت ، قال : انتهكتم حرمة الله ، فأبشروا بعذاب الله تبارك وتعالى ونقمته فاتبع السقب أربعة نفر من التسعة الذين عقروا الناقة ، وفيهم مصدع بن مهرج ، فرماه مصدع بسهم ، فانتظم قلبه ، ثم جرّ برجله فأنزله ، ثم ألقوا لحمه مع لحم أمه . فلما قال لهم صالح : أبشروا بعذاب الله ونقمته قالوا له وهم يهزءون به : ومتى ذلك يا صالح ؟ وما آية ذلك ؟ وكانوا يسمون الأيام فيهم : الأحد : أوّل ، والاثنين : أهون ، والثلاثاء : دبار ، والأربعاء : جبار ، والخميس : مؤنس ، والجمعة : العروبة ، والسبت : شيار ، وكانوا عقروا الناقة يوم الأربعاء فقال لهم صالح حين قالوا ذلك : تصبحون غداة يوم مؤنس يعني يوم الخميس ووجوهكم مصفرّة . ثم تصبحون يوم العروبة يعني يوم الجمعة ووجوهكم محمرّة . ثم تصبحون يوم شيار يعني يوم السبت ووجوهكم مسودّة . ثم يصبحكم العذاب يوم الأوّل يعني يوم الأحد . فلما قال لهم صالح ذلك ، قال التسعة الذين عقروا الناقة : هلموا فلنقتل صالحا إن كان صادقا عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذبا يكون قد ألحقناه بناقته فأتوه ليلاً ليبيتوه في أهله ، فدمغتهم الملائكة بالحجارة . فلما أبطئوا على أصحابهم أتوا منزل صالح ، فوجدوهم مشدّخين قد رُضخوا بالحجارة ، فقالوا لصالح : أنت قتلتهم ثم هموا به ، فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح ، وقالوا لهم : والله لا تقتلونه أبدا ، فقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث ، فإن كان صادقا لم تزيدوا ربكم عليكم إلا غضبا ، وإن كان كاذبا فأنتم من وراء ما تريدون . فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك ، والنفر الذين رضختم الملائكة بالحجارة التسعة الذين ذكرهم الله تعالى في القرآن بقوله تعالى : وكانَ فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ . . . إلى قوله : لاََيَةً لِقَوْمِ يَعْلَمُونَ فأصبحوا من تلك الليلة التي انصرفوا فيها عن صالح وجوههم مصفرّة ، فأيقنوا بالعذاب ، وعرفوا أن صالحا قد صدقهم ، فطلبوه ليقتلوه ، وخرج صالح هاربا منها حتى لجأ إلى بطن من ثمود يقال لهم بنو غنم ، فنزل على سيدهم رجل منهم يقال له نفيل يكنى بأبي هدب ، وهو مشرك ، فغيبه فلم يقدروا عليه . فغدوا على أصحاب صالح ، فعذّبوهم ليدلّوهم عليه ، فقال رجل من أصحاب صالح يقال له ميدع بن هرم : يا نبيّ الله إنهم ليعذّبوننا لندلهم عليك ، أفندلهم عليك ؟ قال : نعم فدلهم عليه ميدع بن هرم ، فلما علموا بمكان صالح أتوا أبا هدب فكلموه ، فقال لهم : عندي صالح ، وليس لكم إليه سبيل . فأعرضوا عنه وتركوه ، وشغلهم عنه ما أنزل الله بهم من عذابه ، فجعل بعضهم يخبر بعضا بما يرون في وجوههم حين أصبحوا من يوم الخميس ، وذلك أن وجوههم أصبحت مصفرّة ، ثم أصبحوا يوم الجمعة ووجوههم محمرّة ، ثم أصبحوا يوم السبت ووجوههم مسودة ، حتى إذا كان ليلة الأحد خرج صالح من بين أظهرهم ومن أسلم معه إلى الشام ، فنزل رملة فلسطين ، وتخلّف رجل من أصحابه يقال له ميدع بن هرم ، فنزل قرح وهي وادي القرى ، وبين القرح وبين الحجر ثمانية عشر ميلاً ، فنزل على سيدهم رجل يقال له عمرو بن غنم ، وقد كان أكل من لحم الناقة ولم يشترك في قتلها ، فقال له ميدع بن هرم : يا عمرو بن غنم ، اخرج من هذا البلد ، فإن صالحا قال من أقام فيه هلك ومن خرج منه نجا فقال عمرو : ما شركت في عقرها ، وما رضيت ما صُنع بها . فلما كانت صبيحة الأحد أخذتهم الصيحة ، فلم يبق منهم صغير ولا كبير إلا هلك ، إلا جارية مقعدة يقال لها الدريعة ، وهي كليبة ابنة السلق ، كانت كافرة شديدة العداوة لصالح ، فأطلق الله لها رجليها بعدما عاينت العذاب أجمع ، فخرجت كأسرع ما يرى شيء قطّ ، حتى أتت حيّا من الأحياء ، فأخبرتهم بما عاينت من العذاب وما أصاب ثمود منه ، ثم استسقت من الماء فسُقيت ، فلما شربت ماتت .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : قال معمر : أخبرني من سمع الحسن يقول : لما عقرت ثمود الناقة ذهب فصيلها حتى صعد تلاّ ، فقال : يا ربّ أين أمي ؟ ثم رغا رغوة ، فنزلت الصيحة ، فأخمدتهم .
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الحسن بنحوه ، إلا أنه قال : أصعد تلاّ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أن صالحا قال لهم حين عقروا الناقة : تمتعوا ثلاثة أيام وقال لهم : آية هلاككم أن تصبح وجوهكم مصفرّة ، ثم تصبح اليوم الثاني محمرّة ، ثم تصبح اليوم الثالث مسودّة فأصبحت كذلك . فلما كان اليوم الثالث وأيقنوا بالهلاك تكفنوا وتحنطوا ، ثم أخذتهم الصيحة فأهملتهم . قال قتادة : قال عاقر الناقة لهم : لا أقتلها حتى ترضوا أجمعين . فجعلوا يدخلون على المرأة في خدرها ، فيقولون : أترضين ؟ فتقول : نعم والصبيّ ، حتى رضوا أجمعين ، فعقرها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن عبد الله بن عثمان بن خُيْثَم ، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله ، قال : لما مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجر ، قال : «لا تَسْأَلُوا الاَياتِ ، فَقَدْ سَأَلَها قَوْمُ صَالِحٍ ، فَكَانَتْ تَرِدُ مِنْ هَذَا الفَجّ وتَصْدُرُ مِنْ الفَجّ ، فَعَتَوْا عَنْ أمْرِ رَبّهِمْ فعَقَرُوهَا . وكَانَتْ تَشْرَبُ مَاءَهُمْ يَوْما ويَشْرَبُونَ لَبَنَها يَوْما ، فعَقَرُوهَا فأخَذَتْهُمُ الصّيْحَةُ أَهْمَدَ الله مَنْ تَحْتَ أدِيمِ السّمَاءِ مِنْهُمْ إلاّ رَجُلاً وَاحِدا كَانَ في حَرَمِ الله » . قِيل : من هو ؟ قال : «أبُو رِغَالٍ ، فلمّا خَرَجَ مِنَ الحَرَمِ أصَابَهُ ما أصَابَ قَوْمَهُ » .
قال : عبد الرزاق ، قال معمر : وأخبرني إسماعيل بن أمية : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ بقبر أبي رغال ، فقال : «أتَدْرُونَ ما هَذَا ؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : «هَذَا قَبْرُ أبي رِغالٍ » . قالوا فمن أبو رغال ؟ قال : «رَجُلٌ مِنْ ثَمُودَ كانَ فِي حَرَمِ اللّهِ ، فَمَنَعَهُ حَرَمُ اللّهِ عَذَابَ الله ، فَلَمّا خَرَجَ أصَابَهُ ما أصَابَ قَوْمَهُ ، فَدُفِنَ هَهُنا ، وَدُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ » . فَنَزَلَ القَوْمُ فابْتَدَرُوهُ بأسْيافِهِمْ ، فَبَحَثُوا عَلَيْهِ فاسْتَخْرَجُوا الغُصْنَ .
قال عبد الرزاق : قال : معمر : قال الزهري : أبو رغال : أبو ثقيف .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر عن عبد الله بن عثمان بن خيثم ، عن جابر ، قال : مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجر ، ثم ذكر نحوه إلا أنه قال في حديثه : قالوا : من هو يا رسول الله ؟ قال : «أبُو رِغالٍ » .
حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : حدثنا أبي ، عن قتادة ، قال : كان يقال إن أحمر ثمود الذي عقر الناقة ، كان ولد زِنْية .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، قال : حدثنا عنبسة ، عن أبي إسحاق ، قال : قال أبو موسى : أتيت أرض ثمود ، فذرعتُ مصدر الناقة فوجدته ستين ذراعا .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، وأخبرني إسماعيل بن أمية بنحو هذا ، يعني بنحو حديث عبد الله بن عثمان بن خيثم ، عن جابر ، قال : ومرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بقبر أبي رغال ، قالوا : ومن أبو رغال ؟ قال : «أبُو ثَقِيفٍ ، كَانَ في الحَرَمِ لما أهْلَكَ اللّهِ قَوْمَهُ ، مَنَعَهُ حَرَمُ الله مِنْ عَذَابِ الله فلما خَرَجَ أصَابَهُ ما أصَابَ قَوْمَهُ فدُفِنَ هَهُنا ودُفِنَ مَعَهُ غُصْنٌ مِنْ ذَهَبٍ » . قال : فابتدره القوم يبحثون عنه حتى استخرجوا ذلك الغصن .
وقال الحسن : كان للناقة يوم ولهم يوم ، فأضرّ بهم .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن الزهري ، قال : لما مرّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجر قال : «لا تَدْخُلُوا مَساكِنَ الّذِينَ ظَلَمُوا أنْفُسَهُمْ ، إلاّ أنْ تَكُونُوا باكِينَ أنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ الّذِي أصَابَهُمْ » . ثم قال : «هَذَا وَادِي النّفْرِ » . ثُمّ رَفَعَ رأسَهُ وأسْرَعَ السّيْرَ حتى أجازَ الوَادِيَ .
وأما قوله : وَلا تَمَسّوها بِسُوءٍ فإنه يقول : ولا تمسوا ناقة الله بعقر ولا نحر ، فيأخذَكُمْ عذابٌ أليمٌ يعني موجع .
{ وإلى ثمود } قبيلة أخرى من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح . وقيل سموا به لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل . وقرئ مصروفا بتأويل الحي أو باعتبار الأصل ، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى . { أخاهم صالحا } صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود . { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من اله غيره قد جاءتكم بينة من ربكم } معجزة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي وقوله : { هذه ناقة الله لكم آية } استئناف لبيانها ، وآية نصب على الحال والعامل فيها معنى الإشارة ، ولكم بيان لمن هي له آية ، ويجوز أن تكون { ناقة الله } بدلا أو عطف بيان ولكم خبرا عاملا في { آية } ، وإضافة الناقة إلى الله لتعظيمها ولأنها جاءت من عنده بلا وسائط وأسباب معهودة ولذلك كانت آية . { فذروها تأكل في أرض الله } العشب . { ولا تمسّوها بسوء } نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى مبالغة في الأمر وإزاحة للعذر . { فيأخذهم عذاب أليم } جواب للنهي .
الواو في قوله : { وإلى ثمود } مثلها في قوله : { وإلى عاد أخاهم هوداً } [ الأعراف : 65 ] ، وكذلك القول في تفسيرها إلى قوله تعالى : { من إله غيره } .
وثمود أمّة عظيمة من العرب البائدة وهم أبناء ثمود بن جَاثَر بجيم ومثلّثة كما في « القاموس » ابن إرَم بن سام بن نوح فيلتقون مع عاد في ( إرَم ) وكانت مساكنهم بالحِجْر بكسر الحاء وسكون الجيم بَين الحجاز والشّام ، وهو المكان المسمّى الآن مَدائِن صالح وسُمّي في حديث غزوة تبوك : حِجْرَ ثَمُودَ .
وصالحٌ هو ابن عَبِيل بلام في آخره وبفتح العينْ ابن آسف بن ماشج أو شالخ بن عَبيل بن جاثر ويقال كاثرَ ابن ثمود . وفي بعض هذه الأسماء اختلاف في حروفها في كتب التاريخ وغيرها أحسبه من التّحريف وهي غير مضبوطة سوى عبيل فإنّه مضبوط في سَميه الذي هو جَد قبيلةٍ ، كما في « القاموس » .
وثمودَ هنا ممنوع من الصّرف لأنّ المراد به القبيلة لا جدّها . وأسماء القبائل ممنوعة من الصّرف على اعتبار التّأنيث مع العلميّة وهو الغالب في القرآن ، وقد ورد في بعض آيات القرآن مصروفاً كما في قوله تعالى : { ألاَ إنّ ثموداً كفروا ربّهم } [ هود : 68 ] على اعتبار الحيّ فينتفي موجب منع الصّرف لأنّ الاسم عربي .
وقوله : { ما لكم من إله غيره } يدلّ على أنّ ثمود كانوا مشركين ، وقد صُرح بذلك في آيات سورة هود وغيرها . والظّاهر أنّهم عبدوا الأصنام التي عبدتها عاد لأنّ ثمود وعادا أبناء نسب واحد ، فيشبه أن تكون عقائدهم متماثلة . وقد قال المفسّرون : أنّ ثمود قامت بعد عاد فنمَتْ وعظمت واتسعت حضارتها ، وكانوا مُوحدين ، ولعلّهم اتّعظوا بما حلّ بعاد ، ثمّ طالت مدّتهم ونعم عيشهم فَعَتوا ونسُوا نعمة الله وعَبَدوا الأصنام فأرسل الله إليهم صالحاً رسولاً يدعوهم إلى التّوحيد فلم يتَّبعه إلاّ قليل منهم مُستضعفون ، وعصاه سادتهم وكبراؤهم ، وذكر في آية سورة هود أنّ قومه لم يغلظوا له القول كما أغلظت قوم نوح وقوم هود لرسولهم ، فقد : { قالوا يا صالح قد كنتَ فينا مرجُوّا قبل هذا أتَنْهَانا أن نعبد ما يَعْبُد آباؤُنا وإننا لفي شكّ ممَّا تدعُونا إليه مُريب } [ هود : 62 ] . وتدلّ آيات القرآن وما فُسّرت به من القصص على أنّ صالحاً أجَّلهم مدّة للتّأمّل وجعل النّاقة لهم آية ، وأنّهم تَارَكُوها ولم يُهيجوها زمناً طويلاً .
فقد أشعرت مجادلتهم صالحاً في أمر الدّين على أنّ التّعقّل في المجادلة أخذ يدبّ في نفوس البشر ، وأنّ غُلواءهم في المكابرة أخذت تقصر ، وأنّ قناة بأسهم ابتدأت تلين ، للفرق الواضح بين جواب قوم نوح وقوممِ هود ، وبين جواب قوم صالح .
ومن أجل ذلك أمهلهم الله ومادّهم لينظروا ويفكّروا فيما يدعوهم إليه نبئهم ولِيَزِنوا أمرهم ، وجعل لهم الانكفاف عن مسّ النّاقة بسوء علامة على امتداد الإمهال ؛ لأنّ انكفافهم ذلك علامة على أنّ نفوسهم لم تحْنق على رسولهم ، فرجاؤه إيمانهم مستمرّ ، والإمهال لهم أقطعُ لعذرهم ، وأنهض بالحجّه عليهم ، فلذلك أخّر الله العذاب عنهم إكراماً لنبيّهم الحريص على إيمانهم بقدر الطّاقة ، كما قال تعالى لنوح : { أنّه لم يؤمن من قومك إلاّ من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون } [ هود : 36 ] .
وجملة : { قد جاءتكم بينة من ربكم } إلخ ، هي من مقوللِ صالححٍ في وقت غير الوقت الذي ابتدأ فيه بالدّعوة ، لأنّه قد طوي هنا جواب قومه وسُؤَالُهم إياه آية كما دلّت عليه آيات سورة هود وسورة الشّعراء ، ففي سورة هود ( 61 ، 62 ) : { قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثمّ تُوبوا إليه إنّ ربّي قريب مجيب قالوا يا صالح قد كنتَ فِينا مرجُوّا قبل هذا } الآية . وفي سورة الشّعراء ( 153 155 ) : { قالوا إنّما أنت من المسحرين ما أنت إلاّ بشر مثلنا فأتِ بآية إن كنت من الصّادقين قال هذه ناقة لها شرب } الآية .
فجملة : { قد جاءتكم بينة من ربكم } تعليل لجملة : { اعبدوا الله } ، أي اعبدوهُ وحده لأنّه جعل لكم آية على تصديقي فيما بلغتُ لكم ، وعلى انفراده بالتّصرف في المخلوقات .
وقوله : { هذه ناقة الله } يقتضي أن النّاقة كانت حاضرة عند قوله : { قد جاءتكم بينة من ربكم } لأنّها نفس الآية .
والبيّنة : الحجّة على صدق الدّعوى ، فهي ترادف الآية ، وقد عُبّر بها عن الآية في قوله تعالى : { لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين مُنفكِّينَ حتى تأتيهم البيّنة } [ البينة : 1 ] .
و { هذه } إشارة إلى النّاقة التي جعلها الله آية لصدق صالح ولما كانت النّاقة هي البيّنة كانت جملة : { هذه ناقة الله لكم آية } منزّلة من التي قبلها منزلة عطف البيان .
وقوله : { آية } حال من اسم الإشارة في قوله : { هذه ناقة الله } لأنّ اسم الإشارة فيه معنى الفعل ، واقترانَه بحرف التّنبيه يقوي شبهه بالفعل ، فلذلك يكون عاملاً في الحال بالاتّفاق ، وتقدّم عند قوله : { ذلك نتلوه عليك من الآيات } في سورة آل عمران ( 58 ) ، وسنذكر قصّة في هذا عند تفسير قوله تعالى : { وهذا بعلي شيخاً } في سورة هود ( 72 ) .
وأكّدت جملة : { قد جاءتكم بينة } ، وزادت على التّأكيد إفادةُ ما اقتضاه قوله { لكم } من التّخصيص وتثبيت أنّها آية ، وذلك معنى اللاّم ، أي هي آية مقنِعة لكم ومجعولة لأجلكم .
فقوله : { لكم } ظرف مستقرّ في موضع الحال من { آية } ، وأصله صفة فلمّا قُدم على موصوفه صار حالاً ، وتقديمه للاهتمام بأنّها كافية لهم على ما فيهم من عناد .
وإضافة ناقة إلى اسم الله تعالى تشريف لها لأنّ الله أمر بالإحسان إليها وعدم التّعرّض لها بسوء ، وعظَّم حرمتها ، كما يقال : الكعبة بيت الله ، أو لأنّها وُجدت بكيفية خارقة للعادة ، فلانتفاء ما الشانُ أن تضاف إليه من أسباب وجود أمثالها أضيفت إلى اسم الجلالة كما قيل : عيسى عليه السّلام كلمةُ الله .
وأمّا إضافة { أرض } إلى اسم الجلالة فالمقصود منه أنّ للنّاقة حقّاً في الأكل من نبات الأرض لأنّ الأرض لله وتلك النّاقة من مخلوقاته فلها الحقّ في الانتفاع بما يصلح لانتفاعها .
وقوله : { هذَا } مقدمةٌ لقوله : { ولا تمسوها بسوء } أي بسوء يعوّقها عن الرّعي إمّا بموت أو بجرح ، وإمّا لأنّهم لما كذّبوه وكذّبوا معجزته راموا منع النّاقة من الرّعي لتموت جوعا على معنى الإلجاء النّاشىء عن الجهالة .
والأرض هنا مراد بها جنس الأرض كما تقتضيه الإضافة .
وقد جعل الله سلامة تلك النّاقة علامة على سلامتهم من عذاب الاستيصال للحكمة التي قدّمتُها آنفاً ، وأن ما أوصى الله به في شأنها شبيه بالحَرَم ، وشبيه بحمى الملوك لما فيه من الدّلالة على تعظيم نفوس القوم لمن تُنسب إليه تلك الحُرمة ، ولذلك قال لهم صالح : { فَذروها تأكلْ في أرض الله ولا تمسّوها بسوء } لأنّهم إذا مسّها أحد بسوء ، عن رضى من البَقيّة ، فقد دلُّوا على أنّهم خلعوا حرمة الله تعالى وحنقوا على رسوله عليه السّلام .
وجُزم { تأكل } على أنّ أصله جواب الأمر بتقدير : إنْ تذروها تأكُل ، فالمعنى على الرّفع والاستعمالُ على الجزم ، كما في قوله تعالى : { قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصّلاة } [ إبراهيم : 31 ] أي يقيمون وهو كثير في الكلام ، ويُشبه أن أصل جزم أمثاله في الكلام العربي على التّوهم لوجود فِعل الطّلب قبل فعلٍ صالح للجزم ، ولعلّ منه قوله تعالى : { وأذّنْ في النّاس بالحجّ يأتوك رجالا } [ الحج : 27 ] وانتصب قوله : { فيأخُذكم } في جواب النّهي لِيُعتبر الجواب للمنهي عنه لأنّ حرف النّهي لا أثر له : أي إن تمسُّوها بسوءٍ يأخذْكم عذاب .
وأنيط النّهي بالمس بالسّوء لأنّ المس يصدق على أقل اتّصال شيء بالجسم ، فكلّ ما ينالُها ممّا يراد منه السّوء فهو منهي عنه ، وذلك لأنّ الحيوان لا يسوؤه إلاّ ما فيه ألم لذاته ، لأنّه لا يفقه المعاني النّفسانيّه .
والباء في قوله : { بسوء } للملابسة ، وهي في موضع الحال من فاعل تَمسوها أي بقصد سوء .