ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج زينب قال الناس : إن محمداً تزوج امرأة ابنه فأنزل الله عز وجل{ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } يعني : زيد بن حارثة ، أي : ليس أبا أحد من رجالكم الذين لم يلدهم فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها . فإن قيل : أليس إنه كان له أبناء : القاسم ، والطيب ، والطاهر ، وإبراهيم ، كذلك : الحسن والحسين ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحسن : " إن ابني هذا سيد " قيل : هؤلاء كانوا صغاراً لم يكونوا رجالاً . والصحيح ما قلنا : إنه أراد أبا أحد من رجالكم الذين لم يلدهم { ولكن رسول الله وخاتم النبيين } ختم الله به النبوة ، وقرأ ابن عامر وعاصم : خاتم بفتح التاء على الاسم ، أي : آخرهم ، وقرأ الآخرون بكسر التاء على الفاعل ، لأنه ختم به النبيين فهو خاتمهم . قال ابن عباس : يريد لو لم أختم به النبيين لجعلت له ابناً يكون بعده نبياً . وروي عن عطاء عن ابن عباس : أن الله تعالى لما حكم أن لا نبي بعده لم يعطه ولداً ذكراً يصير رجلاً ، { وكان الله بكل شيء عليماً } .
أخبرنا أبو الحسن علي بن يوسف الجويني ، أنبأنا أبو محمد محمد بن علي بن محمد الخذاشاهي ، أنبأنا عبد الله بن محمد بن مسلم أبو بكر الجوربدي ، أنبأنا يونس بن عبد الأعلى ، أنبأنا ابن وهب ، أخبرني يونس بن زيد ، عن ابن شهاب ، عن أبي سلمة قال : كان أبو هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثلي ومثل الأنبياء كمثل قصر أحسن بنيانه ، ترك منه موضع لبنة فطاف به النطار يتعجبون من حسن بنيانه إلا موضع تلك اللبنة لا يعيبون سواها فكنت أنا سددت موضع تلك اللبنة ، ختم بي البنيان وختم بي الرسل " .
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا علي بن أحمد الخزاعي ، أنبأنا الهيثم بن كليب الشاشي ، أنبأنا أبو عيسى الترمذي ، أنبأنا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي ، وغير واحد قالوا ، أنبأنا سفيان عن الزهري ، عن محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن لي أسماء أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب " . العاقب الذي ليس بعده نبي .
{ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ْ }
أي : لم يكن الرسول { مُحَمَّدٌ ْ } صلى اللّه عليه وسلم { أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ ْ } أيها الأمة فقطع انتساب زيد بن حارثة منه ، من هذا الباب .
ولما كان هذا النفي عامًّا في جميع الأحوال ، إن حمل ظاهر اللفظ على ظاهره ، أي : لا أبوة نسب ، ولا أبوة ادعاء ، وقد كان تقرر فيما تقدم أن الرسول صلى اللّه عليه وسلم ، أب للمؤمنين كلهم ، وأزواجه أمهاتهم ، فاحترز أن يدخل في هذا النوع ، بعموم النهي المذكور ، فقال : { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ ْ } أي : هذه مرتبته مرتبة المطاع المتبوع ، المهتدى به ، المؤمن له الذي يجب تقديم محبته ، على محبة كل أحد ، الناصح الذي لهم ، أي : للمؤمنين ، من بره [ ونصحه ]{[1]} كأنه أب لهم .
{ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ْ } أي : قد أحاط علمه بجميع الأشياء ، ويعلم حيث يجعل رسالاته ، ومن يصلح لفضله ، ومن لا يصلح .
ثم حدد - سبحانه - وظيفة رسوله صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه بما هو أهله ، فقال - تعالى - : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } أى : لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم أبا لأحد من رجالكم أبوة حقيقة ، تترتب عليها آثارها وأحكامها من الإِرث ، والنفقة والزواج . . . . وزيد كذلك ليس ابنا له صلى الله عليه وسلم فزواجه صلى الله عليه وسلم بزينب التى طلقها زيد لا حرج فيه ، ولا شبهة فى صحته ، وقوله : { ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين } استدراك لبيان وظيفته وفضله .
أى : لم يكن صلى الله عليه وسلم أبا لأحدكم على سبيل الحقيقة ، ولكنه كان رسولا من عند الله - تعالى - ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإِيمان وكان - أيضا - خاتم النبيين ، بمعنى أنهم ختموا به ، فلا نبى بعده ، فهو كالخاتَم والطابَع لهم . ختم الله - تعالى - به الرسول والأنبياء ، فلا رسول ولا نبى بعده إلى قيام الساعة .
قال القرطبى : قرأ الجمهور { وَخَاتَمَ } - بكسر التاء - بمعنى أنه ختمهم ، أى : جاء آخرهم .
وقرأ عاصم { وخاتم } - بفتح التاء - بمعنى أنهم ختموا به ، فهو كالخاتم والطابع لهم .
وقيل : الخاتم والخاتم - بالفتح والكسر - لغتان ، مثل طابع وطابع . .
وقد روى الإِمام مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مثلى ومثل الأنبياء من قبلى كمثل رجل بنى دارا فأتمها وأكملها ، إلا موضع لبنة ، فجعل الناس يدخولنها ويتعدبون منها ويقولون : ما أجمل هذه الدار ، هلا وضعت هذه اللبنة ؟ قال صلى الله عليه وسلم فأنا موضع اللبنة جئت فختمت الأنبياء " .
وقد ذكر الإِمام ابن كثير عددا من الأحاديث فى هذا المعنى منها ما رواه الإِمام مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فضلت على الأنبياء بست : أعطيت جوامع الكلم ونصرت بالرعب ، وأحلت لى الغنائم ، وجعلت لى الأرض طهورا ومسجدا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بى النبيون " .
ثم قال - رحمه الله - بعد أن ذكر هذا الحديث وغيره : والأحاديث فى هذا كثيرة ، فمن رحمة الله - تعالى - بالعباد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، ثم من تشريفه له ختم الأنبياء والمرسلين به ، وإكمال الحنيف له ، وقد أخبر - تعالى - فى كتابه ، وأخبر رسوله فى السنة المتواترة عنه ، أنه لا نبى بعده ، ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ضال مضل ، ولو تخرق وشعبذ ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم . .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } .
أى : وكان - عز وجل - وما زال ، هو العليم علما تاما بأحوال خلقه ، وبما ينفعهم ويصلحهم ، ولذا فقد شرع لكم ما أنتم فى حاجة إليه من تشريعات ، واختار رسالة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم لتكون خاتمة الرسالات ، فعليكم أن تقابلوا ذلك بالشكر والطاعة ، ليزيدكم - سبحانه - من فضله وإحسانه .
( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم )فزينب ليست حليلة ابنه ، وزيد ليس ابن محمد . إنما هو ابن حارثة . ولا حرج إذن في الأمر حين ينظر إليه بعين الحقيقة الواقعة .
والعلاقة بين محمد [ صلى الله عليه وسلم ] وبين جميع المسلمين - ومنهم زيد بن حارثة - هي علاقة النبي بقومه ، وليس هو أبا لأحد منهم :
( ولكن رسول الله وخاتم النبيين ) . .
ومن ثم فهو يشرع الشرائع الباقية ، لتسير عليها البشرية ؛ وفق آخر رسالة السماء إلى الأرض ، التي لا تبديل فيها بعد ذلك ولا تغيير .
( وكان الله بكل شيء عليما ) . .
فهو الذي يعلم ما يصلح لهذه البشرية ، وما يصلحها ؛ وهو الذي فرض على النبي ما فرض ، واختار له ما اختار . ليحل للناس أزواج أدعيائهم ، إذا ما قضوا منهن وطرا ، وانتهت حاجتهم منهن ، وأطلقوا سراحهن . . قضى الله هذا وفق علمه بكل شيء . ومعرفته بالأصلح والأوفق من النظم والشرائع والقوانين ؛ ووفق رحمته وتخيره للمؤمنين .
وقوله : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } ، نهى{[23545]} [ تعالى ] {[23546]} أن يقال بعد هذا : " زيد بن محمد " أي : لم يكن أباه وإن كان قد تبناه ، فإنه ، صلوات الله عليه وسلامه ، لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم ؛ فإنه ولد له القاسم ، والطيب ، والطاهر ، من خديجة فماتوا صغارا ، وولد له إبراهيم من مارية القبطية ، فمات أيضا رضيعا {[23547]} ، وكان له من خديجة أربع بنات : زينب ، ورقية ، وأم كلثوم ، وفاطمة ، رضي الله عنهم{[23548]} أجمعين ، فمات في حياته ثلاث وتأخرت فاطمة حتى أصيبت به ، صلوات الله وسلامه عليه ، ثم ماتت بعده لستة أشهر .
وقوله : { وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } كقوله : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] فهذه الآية نص في{[23549]} أنه لا نبي بعده ، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول [ بعده ] {[23550]} بطريق الأولى والأحرى ؛ لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة ، فإن كل رسول نبي ، ولا ينعكس . وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث جماعة من الصحابة .
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو عامر الأزدي ، حدثنا زُهَيْر بن محمد ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن الطفيل بن أبيّ بن كعب{[23551]} ، عن أبيه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " مثلي في النبيين كمثل رجل بنى دارًا فأحسنها وأكملها ، وترك فيها موضع لَبنة لم يَضَعها ، فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ، ويقولون : لو تمَّ موضع هذه اللبنة ؟ فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة " .
ورواه الترمذي ، عن بُنْدَار ، عن أبي عامر العقدي ، به{[23552]} ، وقال : حسن صحيح .
حديث آخر : قال{[23553]} الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا عبد الواحد بن زياد ، حدثنا المختار بن فُلفُل ، حدثنا أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الرسالة والنبوة قد انقطعت ، فلا رسول بعدي ولا نبي . " قال : فشَقّ ذلك على الناس قال : قال{[23554]} : ولكن المبشرات " . قالوا : يا رسول الله ، وما المبشرات ؟ قال : " رؤيا الرجل المسلم ، وهي جزء من أجزاء النبوة " .
وهكذا روى الترمذي عن الحسن بن محمد الزعفراني ، عن عفان بن مسلم ، به{[23555]} وقال : صحيح غريب من حديث المختار بن فُلفُل .
حديث آخر : قال أبو داود الطيالسي : حدثنا سَليم بن حَيَّان ، عن سعيد بن ميناء ، عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى دارًا فأكملها وأحسنها إلا موضع لَبنة ، فكان مَنْ دخلها فنظر إليها قال : ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة ! فأنا موضع اللبنة ، ختم بي الأنبياء ، عليهم السلام " .
ورواه البخاري ، ومسلم ، والترمذي من طرق ، عن سليم{[23556]} بن حيان ، به . {[23557]} وقال الترمذي : صحيح غريب من هذا الوجه .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : مثلي ومثل النبيين [ من قبلي ]{[23558]} كمثل رجل بنى دارا فأتمها إلا لَبنَة واحدة ، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة " . انفرد بإخراجه مسلم من رواية الأعمش ، به{[23559]} .
حديث آخر : قال [ الإمام ]{[23560]} أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا حماد بن زيد ، حدثنا عثمان بن عُبَيد الراسبي قال : سمعت أبا الطفيل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا نبوة بعدي إلا المبشرات " . قال : قيل : وما المبشرات يا رسول الله ؟ قال : " الرؤيا الحسنة - أو قال - الرؤيا الصالحة . " {[23561]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عبد الرزاق ، أخبرنا مَعْمَر ، عن هَمَّام بن مُنَبِّه قال : هذا ما حدثنا أبو هريرة{[23562]} قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتا فأحسنها وأكملها وأجملها ، إلا موضع لَبنة من زاوية من زواياها ، فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون : ألا وَضَعْتَ هاهنا لبنة فيتم بنيانك ؟ ! " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فكنت أنا اللبنة " .
أخرجاه من حديث عبد الرزاق . {[23563]}
حديث آخر : عن أبي هريرة أيضا : قال{[23564]} الإمام مسلم : حدثنا يحيى بن أيوب{[23565]} وقتيبة وعلي بن حجر قالوا : حدثنا إسماعيل بن جعفر ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " فُضلت على الأنبياء بست : أعْطِيتُ جوامع الكلم ، ونُصِرْتُ بالرعب ، وأحِلَّت لي الغنائم ، وجعلت لي الأرض طهورا ومسجدا ، وأرسلت إلى الخلق كافة ، وختم بي النبيون " .
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث إسماعيل بن جعفر ، وقال الترمذي : حسن صحيح . {[23566]}
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " مثلي ومثل الأنبياء من قبلي ، كمثل رجل بنى دارًا فأتمها إلا موضع لبنة واحدة ، فجئت أنا فأتممت تلك اللبنة " .
ورواه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة ، وأبي كُرَيْب ، كلاهما عن أبي معاوية ، به . {[23567]}
حديث آخر : قال{[23568]} الإمام أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، حدثنا معاوية بن صالح عن سعيد بن سُويد الكلبي ، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي ، عن العِرْباض بن سارية قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنْجَدِل في طينته . " {[23569]}
حديث آخر : قال{[23570]} الزهري : أخبرني محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه ، رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن لي أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعده{[23571]} نبي . " أخرجاه في الصحيحين{[23572]} .
وقال{[23573]} الإمام أحمد : حدثنا يحيى بن إسحاق ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن عبد الله بن هُبَيْرة ، عن عبد الرحمن بن جبير قال : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما كالمودّع ، فقال : " أنا محمد النبي الأمي - ثلاثا - ولا نبي بعدي ، أوتيت فواتح الكلم وجوامعه وخواتمه ، وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش ، وتجوز بي ، وعُوفيتُ وعُوفيتْ{[23574]} أمتي ؛ فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم ، فإذا ذُهب بي فعليكم بكتاب الله ، أحلّوا حلاله ، وحرّموا حرامه " . تفرد به الإمام أحمد . {[23575]}
ورواه{[23576]} [ الإمام ]{[23577]} أحمد أيضا عن يحيى بن إسحاق ، عن ابن لَهِيعة ، عن عبد الله بن هبيرة ، عن عبد الله بن مريج{[23578]} الخولاني ، عن أبي قيس - مولى عمرو بن العاص - عن عبد الله بن عمرو فذكر مثله سواء{[23579]} {[23580]} .
والأحاديث في هذا كثيرة ، فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد ، صلوات الله وسلامه عليه ، إليهم ، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به ، وإكمال الدين الحنيف له . وقد أخبر تعالى في كتابه ، ورسوله في السنة المتواترة عنه : أنه لا نبي بعده ؛ ليعلموا أن كل مَنِ ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك ، دجال ضال مضل ، ولو تخرق{[23581]} وشعبذ ، وأتى بأنواع السحر والطلاسم والنَيرجيَّات{[23582]} ، فكلها محال وضلال عند أولي الألباب ، كما أجرى الله ، سبحانه وتعالى ، على يد الأسود العَنْسي باليمن ، ومسيلمة الكذاب باليمامة ، من الأحوال الفاسدة والأقوال الباردة ، ما علم كل ذي لب وفهم وحِجى أنهما كاذبان ضالان ، لعنهما الله . وكذلك كل مدع لذلك إلى يوم القيامة حتى يختموا بالمسيح الدجال ، [ فكل واحد من هؤلاء الكذابين ]{[23583]} يخلق الله معه من الأمور ما يشهد العلماء والمؤمنون بكذب مَنْ{[23584]} جاء بها . وهذا من تمام لطف الله تعالى بخلقه ، فإنهم بضرورة الواقع لا يأمرون بمعروف ولا ينهون عن منكر إلا على سبيل الاتفاق ، أو لما لهم فيه من المقاصد إلى غيره ، ويكون في غاية الإفك والفجور في أقوالهم وأفعالهم ، كما قال تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنزلُ الشَّيَاطِينُ تَنزلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } الآية [ الشعراء : 221 ، 222 ] . وهذا بخلاف الأنبياء ، عليهم السلام ، فإنهم في غاية البر والصدق{[23585]} والرشد والاستقامة [ والعدل ]{[23586]} فيما يقولونه ويفعلونه ويأمرون به وينهون عنه ، مع ما يؤيدون به من الخوارق للعادات ، والأدلة الواضحات ، والبراهين الباهرات ، فصلوات الله وسلامه عليهم دائما مستمرا ما دامت الأرض والسموات .
القول في تأويل قوله تعالى : { مّا كَانَ مُحَمّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ وَلََكِن رّسُولَ اللّهِ وَخَاتَمَ النّبِيّينَ وَكَانَ اللّهُ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً } .
يقول تعالى ذكره : ما كان أيها الناس محمد أبا زيد بن حارثة ، ولا أبا أحد من رجالكم ، الذين لم يلده محمد ، فيحرم عليه نكاح زوجته بعد فراقه إياها ، ولكنه رسول الله وخاتم النبيين ، الذي ختم النبوّة فطبع عليها ، فلا تفتح لأحد بعده إلى قيام الساعة ، وكان الله بكل شيء من أعمالكم ومقالكم وغير ذلك ذا علم لا يخفى عليه شيء . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثتا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ما كانَ محَمّدٌ أبا أحَدٍ مِنْ رجالِكُمْ قال : نزلت في زيد ، إنه لم يكن بابنه ولعمري ولقد وُلد له ذكور ، إنه لأبو القاسم وإبراهيم والطيب والمطهر وَلَكِنْ رَسُولَ الله وَخاتَمَ النّبِيّينَ : أي آخرهم وكانَ اللّهُ بكُلّ شَيْءٍ عَلِيما .
حدثني محمد بن عمارة ، قال : حدثنا عليّ بن قادم ، قال : حدثنا سفيان ، عن نسير بن ذعلوق ، عن عليّ بن الحسين في قوله : ما كانَ مُحَمّدٌ أبا أحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْقال : نزلت في زيد بن حارثة .
والنصب في رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعنى تكرير كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والرفع بمعنى الاستئناف ، ولكن هو رسول الله ، والقراءة النصب عندنا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : وَخاتَمَ النّبِيّينَ فقرأ ذلك قرّاء الأمصار سوى الحسن وعاصم بكسر التاء من خاتم النبيين ، بمعنى أنه ختم النبيين . ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله : وَلَكِن نَبِيّا خَتمَ النّبِيّينَ فذلك دليل على صحة قراءة من قرأه بكسر التاء ، بمعنى أنه الذي ختم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وعليهم وقرأ ذلك فيما يذكر الحسن وعاصم : خاتَمَ النّبِيّينَ بفتح التاء ، بمعنى أنه آخر النبيين ، كما قرأ : «مَخْتُومٌ خَاتمَهُ مِسْكٌ » بمعنى : آخره مسك من قرأ ذلك كذلك .
{ ما كان محمد أبا أحد من رجالكم } على الحقيقة فيثبت بينه وبينه ما بين الوالد وولده من حرمة المصاهرة وغيرها ، ولا ينتقض عمومه بكونه أبا للطاهر والقاسم وإبراهيم لأنهم لم يبلغوا مبلغ الرجال ولو بلغوا كانوا رجاله لا رجالهم . { ولكن رسول الله } وكل رسول أبو أمته لا مطلقا بل من حيث أنه شفيق ناصح لهم ، واجب التوقير والطاعة عليهم وزيد منهم ليس بينه وبينه ولادة . وقرئ { رسول الله } بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف ولكن التشديد على حذف الخبر أي { ولكن رسول الله } من عرفتم أنه يعش له ولد ذكر . { وخاتم النبيين } وآخرهم الذي ختمهم أو ختموا به على قراءة عاصم بالفتح ، ولو كان له ابن بالغ لاق بمنصبه أن يكون نبيا كما قال عليه الصلاة والسلام في إبراهيم حين توفى : لو عاش لكان نبيا ، ولا يقدح في نزول عيسى بعده لأنه إذا نزل كان على دنيه ، مع أن المراد منه أنه آخر من نبئ . { وكان الله بكل شيء عليما } فيعلم من يليق بأن يختم به النبوة وكيف ينبغي شأنه .