216- فإذا كان في الإنفاق على اليتامى والمساكين وغيرهم حماية للمجتمع في داخله فإن القتال حماية له من أعدائه في الخارج ، ولذلك فرض عليكم - أيها المسلمون - القتال لحماية دينكم والدفاع عن أنفسكم ، وأن نفوسكم بحكم جبلتها تكره القتال كرهاً شديداً ، ولكن ربما كرهتم ما فيه خيركم وأحببتم ما فيه شركم ، والله يعلم ما غاب من مصالحكم عنكم ، وأنتم لا تعلمون فاستجيبوا لما فرض عليكم .
قوله تعالى : { كتب عليكم القتال } . أي فرض عليكم الجهاد ، واختلف العلماء في حكم هذه الآية فقال عطاء : الجهاد تطوع ، والمراد من الآية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيرهم ، وإليه ذهب الثوري ، واحتج من ذهب إلى هذا بقوله تعالى : ( فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلاً وعد الله الحسنى ) ولو كان القاعد تاركاً فرضاً لم يكن بعده الحسنى ، وجرى بعضهم على ظاهر الآية ، وقال : الجهاد فرض على كافة المسلمين إلى قيام الساعة .
أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي الخوارزمي أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أبي القرائي ، أخبرنا أبو الهيثم بن كليب أخبرنا أحمد بن حازم بن أبي غرزة ، أخبرنا سعيد بن عثمان العبدي عن عمر بن محمد بن المنكدر عن سمي عن أبي صالح عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسه بالغزو ، مات على شعبة من النفاق " .
وقال قوم ، وعليه الجمهور : إن الجهاد فرض على الكفاية ، إذا قام به البعض سقط عن الباقين ، مثل صلاة الجنازة ، ورد السلام ، قال الزهري والأوزاعي : كتب الله الجهاد على الناس غزوا ، أو قعدوا ، فمن غزا فيها ونعمت ، ومن قعد فهو عدة ، إن استعين به أعان ، وإن استنفر نفر ، وإن استغني عنه قعد .
قوله تعالى : { وهو كره لكم } . أي شاق عليكم قال بعض أهل المعاني : هذا الكره من حيث نفور الطبع عنه لما فيه ، من مؤنة المال ومشقة النفس وخطر الروح ، لا أنهم كرهوا أمر الله تعالى ، وقال عكرمة : نسخها قوله تعالى : ( سمعنا وأطعنا ) يعني أنهم كرهوه ثم لبوه فقالوا ( سمعنا وأطعنا ) .
قوله تعالى : { وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم } . لأن في الغزو إحدى الحسنيين : إما الظفر والغنيمة ، وإما الشهادة والجنة
قوله تعالى : { وعسى أن تحبوا شيئاً } . يعني القعود عن الغزو .
قوله تعالى : { وهو شر لكم } . لما فيه من فوات الغنيمة والأجر .
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ }
هذه الآية ، فيها فرض القتال في سبيل الله ، بعد ما كان المؤمنون مأمورين بتركه ، لضعفهم ، وعدم احتمالهم لذلك ، فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، وكثر المسلمون ، وقووا أمرهم الله تعالى بالقتال ، وأخبر أنه مكروه للنفوس ، لما فيه من التعب والمشقة ، وحصول أنواع المخاوف والتعرض للمتالف ، ومع هذا ، فهو خير محض ، لما فيه من الثواب العظيم ، والتحرز من العقاب الأليم ، والنصر على الأعداء والظفر بالغنائم ، وغير ذلك ، مما هو مرب ، على ما فيه من الكراهة { وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } وذلك مثل القعود عن الجهاد لطلب الراحة ، فإنه شر ، لأنه يعقب الخذلان ، وتسلط الأعداء على الإسلام وأهله ، وحصول الذل والهوان ، وفوات الأجر العظيم وحصول العقاب .
وهذه الآيات عامة مطردة ، في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة أنها خير بلا شك ، وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شر بلا شك .
وأما أحوال الدنيا ، فليس الأمر مطردا ، ولكن الغالب على العبد المؤمن ، أنه إذا أحب أمرا من الأمور ، فقيض الله [ له ] من الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له ، فالأوفق له في ذلك ، أن يشكر الله ، ويجعل الخير في الواقع ، لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه ، وأقدر على مصلحة عبده منه ، وأعلم بمصلحته منه كما قال [ تعالى : ] { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره ، سواء سرتكم أو ساءتكم .
وقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } حض لهم على بذل النفس في سبيل إعلاء كلمة الله ، بعد أن حضهم في الآية السابقة على بذل المال .
والكُره - بضم الكاف - بمعنى الكراهية بدليل قوله - تعالى - : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً . . . } أي أن القتال لشدة ويلاته ، وما فيه من إزهاق الأرواح كأنه الكراهة نفسها فهو من وضع المصدر موضع اسم المفعول مبالغة ، وقرئ وهو كره لكم - بفتح الكاف - فيكون فيه معنى الإِكراه ، لأن الكره بالفتح ما أكرهت عليه . وقيل هما لغتان بمعنى واحد وهو الكراهية .
ويرى كثير من المفسرين أن القتال إنما كان مكروها للنفوس لما فيه من التعرض للجراح وقطع الأطراف ، وإزهاق الأرواح والإِنسان ميال بطبعه إلى الحياة ، وأيضاً لما فيه من إخراج المال ومفارقة الوطن والأهل ، والحيلولة بين المقاتل وبين طمأنينته ونومه وطعامه ، فهو مهما يكن أمره فيه ويلات وشدائد ، ومشتقات تتلوها مشقات ، ولكن كون القتال مكروها للنفوس لا ينافي الإِيمان ولا يعني أن المسلمين كرهوا فرضيته ، لأن امتثال الأمر قد يتضمن مشقة ، ولكن إذا عرف الثواب في جنبه اقتحام المشقات . ولا شك أن القتال في سبيل الله - مع ما فيه من صعاب وشدائد - ستكون عاقبته العزة في الدنيا ، والسعادة في الأخرى .
ويرى بعضهم أن كره المسلمين للقتال ليس سببه ما فيه من شدائد ومخاطر وتضحيات بدليل أنهم كانوا يتنافسون خوض غمراته ، وإنما السبب في كراهيتهم له هو أن الإِسلام قد غرس في نفوسهم رقة ورحمة وسلاما وحبا ، وهذه المعاني جعلتهم يحبون مصابرة المشركين ويكرهون قتالهم أملا في هدايتهم ، ورجاء في إيمانهم ، ولكن الله - تعالى - كتب على المسلمين قتال أعدائهم لأنه يعلم أن المصلحة في ذلك ، فاستجاب المؤمنون بصدق وإخلاص لما فرضه عليهم ربهم .
ويبدو لنا أن الرأي الأول أقرب إلى ظاهر الآية ، لأن القتال فريضة شاقة على النفس البشرية ، بحسب الطبع والقرآن لا يريد أن ينكر مشقتها ، ولا أن يهون من أمرها ، ولا أن ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها ، ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر ، بأن يقرر أن من الفرائض ما هو شاق ولكن وراءه حكمة تهون مشقته ، وتسهل صعوبته ، وتحقق به خيراً مخبوءاً قد لا يراه النظر الإِنساني القصير . وقد بين القرآن هذه الحكمة في قوله { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } .
أي : وعسى أن تكرهوا شيئاً كالقتال في سبيل الله - تعالى - وهو خير لكم إذ فيه إحدى الحسنيين : إما الظفر والغنيمة - في الدنيا مع ادخار الجزاء الأخروى وإما الشهادة والجنة ، وعسى أن تحبوا شيئاً كالقعود عن الجهاد وهو شر لكم في الواقع لما فيه من الذل ووقوعكم تحت طائلة الأعداء .
قال الفخر الرازي : معنى الآية أنه ربما كان الشيء شاقا عليكم في الحال ، وهو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل ، ولأجله حسن شرب الدواء في المر في الحال لتوقع حصول الصحة في المستقبل ، وترك الجهاد ، وإن كان يفيد - أي بحسب ظنكم - في الحال صون النفس عن خطر القتل وصون المال عن الإِنفاق ولكن فيه أنوع من المضار منها : أن العدو إذا علم ميلكم إلى الدعة والسكون قصد بلادكم وحاول قتلكم . . . والحاصل أن القتال في سبيل الله سبب لحصول الأمن من الأعداء في الدنيا وسبب لحصول الثواب العظيم للمجاهد في الآخرة . . "
وقال القرطبي : والمعنى : عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون وتظفرون وتغنمون وتؤجرون ومن مات منكم مات شهيدا ، وعسى أن تحبوا الدعة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تغلبون ويذهب أمركم .
وهذا صحيح لا غبار عليه ، كما اتفق في بلاد الأندلس ، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار ، فاستولى العدو على البلاد ، وأي بلاد ؟ ! ! وأسر وقتل وسبى واسترق ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ! ! ذلك بما قدمت أيدينا وكسبته ! ! وقال الحسن في معنى الآية : لا تكرهوا الملمات الواقعة ؛ فلرب أمر تكرهه فيه نجاتك ، ولرب أمر تحبه فيه عطبك ، وأنشد أبو سعيد الضرير :
رب أمر تتقيه . . . جر أمراً ترتضيه
خفى المحبوب منه . . . وبدا المكروه فيه
وهذا الكلام الذي كتبه الإِمام القرطبي من مئات السنين يثير في النفس شجوناً وآلاماً ، فإن المسلمين ما هانوا وضعفوا إلا عند ما تركوا الجهاد في سبيل الله ، وتثافلوا إلى الأرض ، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، وآثروا متع الدنيا وشهواتها على الحياة العزيزة الكريمة .
وقال الإِمام ابن كثير عند تفسيره للآية : هذا إيجاب من الله - تعالى - للجهاد على المسلمين وأن يكفوا شر الأعداء من حوزة الإِسلام . قال الزهري : الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد . فالقاعد عليه إذا استعين به أن يعين ، وإذا استغيث به أن يغيث ، وإذا استنقرأن ينفر ، ولهذا ثبت في الصحيح " من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية " ، وقال : صلى الله عليه وسلم يوم الفتح : " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونبة وإذا استنفرتم فانفروا " .
وقد أجمع العلماء على أنه إذا نزل العدو بساحة البلاد وجب القتال على كل المسملين ، كل على حسب قدرته .
وقد ختم - سبحانه - هذه الآية الكريمة بقوله : { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أي : والله يعلم ما هو خير لكم وما هو شر لكم في الواقع وأنتم لا تعلمون ذلك ، فبادروا إلى ما يأمركم به لأنه لا يأمركم إلا بما علم فيه خيراً لكم ، وانتهوا عما نهاكم عنه لأنه لا ينهاكم إلا عما هو شر لكم ، ومفعولا يعلم وتعلمون محذوفان دل عليهما ما قبلهما . أي : يعلم الخير والشر وأنتم لا تعلمونها . والمقصود من هذه الجملة الكريمة الترغيب في الجهاد ، والامتثال لما شرعه الله - تعالى - سواء أعرفت حكمته أم لم تعرف ، لأن العليم بالحكم والمصالح هو الله رب العالمين .
وبذل كنرى أن القرآن الكريم لا ينكر على الناس مشاعرهم الطبيعية ، وأحاسيسهم الفطرية من كراهية للقتال ، ولكنه يرى نفوسهم على الاستجابة لأوامر الله العليم بالغايات المطلع على العواقب ، الخبير بما فيه خيرهم ومصلحتهم ، وبهذه التربية الحكيمة بذل المؤمنون نفوسهم وأموالهم في سبيل رضا خالقهم عن طواعية واختيار ، لا عن قسر وإجبار .
وعلى هذا المنهج ذاته ، يجري الأمر في فريضة الجهاد ، التي تأتي تالية في السياق للحديث عن الإنفاق :
( كتب عليكم القتال وهو كره لكم . وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ؛ وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم . والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) . .
إن القتال في سبيل الله فريضة شاقة . ولكنها فريضة واجبة الأداء . واجبة الأداء لأن فيها خيرا كثيرا للفرد المسلم ، وللجماعة المسلمة ، وللبشرية كلها . وللحق والخير والصلاح .
والإسلام يحسب حساب الفطرة ؛ فلا ينكر مشقة هذه الفريضة ، ولا يهون من أمرها . ولا ينكر على النفس البشرية إحساسها الفطري بكراهيتها وثقلها . فالإسلام لا يماري في الفطرة ، ولا يصادمها ، ولا يحرم عليها المشاعر الفطرية التي ليس إلى إنكارها من سبيل . . ولكنه يعالج الأمر من جانب آخر ، ويسلط عليه نورا جديدا إنه يقرر أن من الفرائض ما هو شاق مرير كريه المذاق ؛ ولكن وراءه حكمة تهون مشقته ، وتسيغ مرارته ، وتحقق به خيرا مخبوءا قد لا يراه النظر الإنساني القصير . . عندئذ يفتح للنفس البشرية نافذة جديدة تطل منها على الأمر ؛ ويكشف لها عن زاوية أخرى غير التي تراه منها . نافذة تهب منها ريح رخية عندما تحيط الكروب بالنفس وتشق عليها الأمور . . إنه من يدري فلعل وراء المكروه خيرا . ووراء المحبوب شرا . إن العليم بالغايات البعيدة ، المطلع على العواقب المستورة ، هو الذي يعلم وحده . حيث لا يعلم الناس شيئا من الحقيقة .
وعندما تنسم تلك النسمة الرخية على النفس البشرية تهون المشقة ، وتتفتح منافذ الرجاء ، ويستروح القلب في الهاجرة ، ويجنح إلى الطاعة والأداء في يقين وفي رضاء .
هكذا يواجه الإسلام الفطرة ، لا منكرا عليها ما يطوف من المشاعر الطبيعية ، ولا مريدا لها على الأمر الصعب بمجرد التكليف . ولكن مربيا لها على الطاعة ، ومفسحا لها في الرجاء . لتبذل الذي هو أدنى في سبيل الذي هو خير ؛ ولترتفع على ذاتها متطوعة لا مجبرة ، ولتحس بالعطف الإلهي الذي يعرف مواضع ضعفها ، ويعترف بمشقة ما كتب عليها ، ويعذرها ويقدرها ؛ ويحدو لها بالتسامي والتطلع والرجاء .
وهكذا يربي الإسلام الفطرة ، فلا تمل التكليف ، ولا تجزع عند الصدمة الأولى ، ولا تخور عند المشقة البادية ، ولا تخجل وتتهاوى عند انكشاف ضعفها أمام الشدة . ولكن تثبت وهي تعلم أن الله يعذرها ويمدها بعونه ويقويها . وتصمم على المضي في وجه المحنة ، فقد يكمن فيها الخير بعد الضر ، واليسر بعد العسر ، والراحة الكبرى بعد الضنى والعناء . ولا تتهالك على ما تحب وتلتذ . فقد تكون الحسرة كامنة وراء المتعة ! وقد يكون المكروه مختبئا خلف المحبوب . وقد يكون الهلاك متربصا وراء المطمع البراق .
إنه منهج في التربية عجيب . منهج عميق بسيط . منهج يعرف طريقه إلى مسارب النفس الإنسانية وحناياها ودروبها الكثيرة . بالحق وبالصدق . لا بالإيحاء الكاذب ، والتمويه الخادع . . فهو حق أن تكره النفس الإنسانية القاصرة الضعيفة أمرا ويكون فيه الخير كل الخير . وهو حق كذلك أن تحب النفس أمرا وتتهالك عليه . وفيه الشر كل الشر . وهو الحق كل الحق أن الله يعلم والناس لا يعلمون ! وماذا يعلم الناس من أمر العواقب ؟ وماذا يعلم الناس مما وراء الستر المسدل ؟ وماذا يعلم الناس من الحقائق التي لا تخضع للهوى والجهل والقصور ؟ !
إن هذه اللمسة الربانية للقلب البشري لتفتح أمامه عالما آخر غير العالم المحدود الذي تبصره عيناه . وتبرز أمامه عوامل أخرى تعمل في صميم الكون ، وتقلب الأمور ، وترتب العواقب على غير ما كان يظنه ويتمناه . وإنها لتتركه حين يستجيب لها طيعا في يد القدر ، يعمل ويرجو ويطمع ويخاف ، ولكن يرد الأمر كله لليد الحكيمة والعلم الشامل ، وهو راض قرير . . إنه الدخول في السلم من بابه الواسع . . فما تستشعر النفس حقيقة السلام إلا حين تستيقن أن الخيرة فيما اختاره الله . وأن الخير في طاعة الله دون محاولة منها أن تجرب ربها وأن تطلب منه البرهان ! إن الإذعان الواثق والرجاء الهاديء والسعي المطمئن . . هي أبواب السلم الذي يدعو الله عباده الذين آمنوا ليدخلوا فيه كافة . . وهو يقودهم إليه بهذا المنهج العجيب العميق البسيط . في يسر وفي هوادة وفي رخاء . يقودهم بهذا المنهج إلى السلم حتى وهو يكلفهم فريضة القتال . فالسلم الحقيقي هو سلم الروح والضمير حتى في ساحة القتال .
وإن هذا الإيحاء الذي يحمله ذلك النص القرآني ، لا يقف عند حد القتال ، فالقتال ليس إلا مثلا لما تكرهه النفس ، ويكون من ورائه الخير . . إن هذا الإيحاء ينطلق في حياة المؤمن كلها . ويلقي ظلاله على أحداث الحياة جميعها . . إن الإنسان لا يدري أين يكون الخير وأين يكون الشر . . لقد كان المؤمنون الذين خرجوا يوم بدر يطلبون عير قريش وتجارتها ، ويرجون أن تكون الفئة التي وعدهم الله إياها هي فئة العير والتجارة . لا فئة الحامية المقاتلة من قريش . ولكن الله جعل القافلة تفلت ، ولقاهم المقاتلة من قريش ! وكان النصر الذي دوى في الجزيرة العربية ورفع راية الإسلام . فأين تكون القافلة من هذا الخير الضخم الذي أراده الله للمسلمين ! وأين يكون اختيار المسلمين لأنفسهم من اختيار الله لهم ؟ والله يعلم والناس لا يعلمون !
ولقد نسي فتى موسى ما كانا قد أعداه لطعامهما - وهو الحوت - فتسرب في البحر عند الصخرة ( فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا . قال : أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره واتخذ سبيله في البحر عجبا . . قال : ذلك ما كنا نبغ فارتدا على آثارهما قصصا . فوجدا عبدا من عبادنا . . . ) . . وكان هذا هو الذي خرج له موسى . ولو لم يقع حادث الحوت ما ارتدا . ولفاتهما ما خرجا لأجله في الرحلة كلها !
وكل إنسان - في تجاربه الخاصة - يستطيع حين يتأمل أن يجد في حياته مكروهات كثيرة كان من ورائهاالخير العميم . ولذات كثيرة كان من ورائها الشر العظيم . وكم من مطلوب كاد الإنسان يذهب نفسه حسرات على فوته ؛ ثم تبين له بعد فترة أنه كان إنقاذا من الله أن فوت عليه هذا المطلوب في حينه . وكم من محنة تجرعها الإنسان لاهثا يكاد يتقطع لفظاعتها . ثم ينظر بعد فترة فإذا هي تنشيء له في حياته من الخير ما لم ينشئه الرخاء الطويل .
إن الإنسان لا يعلم . والله وحده يعلم . فماذا على الإنسان لو يستسلم
إن هذا هو المنهج التربوي الذي يأخذ القرآن به النفس البشرية . لتؤمن وتسلم وتستلم في أمر الغيب المخبوء ، بعد أن تعمل ما تستطيع في محيط السعي المكشوف . .
هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين : أن يكُفُّوا شرّ الأعداء عن حَوْزة الإسلام .
وقال الزهري : الجهادُ واجب على كلّ أحد ، غزا أو قعد ؛ فالقاعد عليه إذَا استعين أن يَعينَ ، وإذا استُغيثَ أن يُغيثَ ، وإذا استُنْفرَ أن ينفر ، وإن لم يُحتَجْ إليه قعد .
قلت : ولهذا ثَبَت في الصحيح{[3759]} " من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسه بغزو مات ميتة جاهلية " {[3760]} . وقال عليه السلام يوم الفتح : " لا هجرة ، ولكن جهاد ونيَّة ، إذا استنفرتم فانفروا " {[3761]} .
وقوله : { وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ } أي : شديد عليكم ومشقة . وهو كذلك ، فإنه إما أن يُقْتَلَ أو يجرحَ مع{[3762]} مشقة السفر ومجالدَة الأعداء .
ثم قال تعالى : { وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ } أي : لأنّ القتالَ يعقبه النصر والظفر على الأعداء ، والاستيلاء على بلادهم ، وأموالهم ، وذرَاريهم ، وأولادهم .
{ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ } وهذا عام في الأمور كلّها ، قد يُحِبّ المرءُ شيئًا ، وليس له فيه خيرة ولا مصلحة . ومن ذلك القُعُود عن القتال ، قد يَعْقُبُه استيلاء العدو على البلاد والحكم .
ثم قال تعالى : { وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ } أي : هو أعلم بعواقب الأمور منكم ، وأخبَرُ بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم ؛ فاستجيبوا له ، وانقادوا لأمره ، لعلكم ترشدون .
{ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لّكُمْ وَعَسَىَ أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لّكُمْ وَعَسَىَ أَن تُحِبّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرّ لّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
يعني بذلك جل ثناؤه : كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتالُ فرض عليكم القتال ، يعني قتال المشركين ، وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ .
واختلف أهل العلم في الذين عنوا بفرض القتال ، فقال بعضهم : عنى بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دون غيرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : سألت عطاء قلت له : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أواجب الغزو على الناس من أجلها ؟ قال : لا ، كتب على أولئك حينئذٍ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا خالد ، عن حسين بن قيس ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : كُتِبَ عَلَيْكُمْ الِقتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ قال : نسختها قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا .
وهذا قول لا معنى له ، لأن نسخ الأحكام من قبل الله جل وعز لا من قبل العباد ، وقوله : قالُوا سَمِعْنا وأطَعْنا خبر من الله عن عباده المؤمنين وأنهم قالوه لا نسخ منه .
حدثني محمد بن إسحاق ، قال : حدثنا معاوية بن عمرو ، قال : حدثنا أبو إسحاق الفزاري ، قال : سألت الأوزاعي عن قول الله عز وجل : كُتِبَ عَلَيْكُمْ القِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أواجب الغزو على الناس كلهم ؟ قال : لا أعلمه ، ولكن لا ينبغي للأئمة والعامة تركه ، فأما الرجل في خاصة نفسه فلا .
وقال آخرون : هو على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية ، فيسقط فرض ذلك حينئذٍ عن باقي المسلمين كالصلاة على الجنائز وغسلهم الموتى ودفنهم ، وعلى هذا عامة علماء المسلمين . وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الحجة على ذلك ، ولقول الله عز وجل : فَضّلَ اللّهُ المُجاهِدينَ بأمْوَالِهم وأنْفُسِهِمْ على القَاعِدِينَ دَرَجَةً وكُلاّ وَعَدَ اللّهُ الحُسْنَى فأخبر جل ثناؤه أن الفضل للمجاهدين ، وأن لهم وللقاعدين الحسنى ، ولو كان القاعدون مضيعين فرضا لكان لهمّ السوأى لا الحسنى .
وقال آخرون : هو فرض واجب على المسلمين إلى قيام الساعة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حسين بن ميسر ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، عن ابن جريج ، عن داود بن أبي عاصم ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : قد أعلم أن الغزو واجب على الناس فسكت . وقد أعلم أنْ لو أنكر ما قلت لبين لي .
وقد بينا فيما مضى معنى قوله «كتب » بما فيه الكفاية .
القول في تأويل قوله تعالى : وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ .
يعني بذلك جل ثناؤه : وهو ذو كره لكم ، فترك ذكر «ذو » اكتفاء بدلالة قوله : «كره لكم » عليه ، كما قال : وَاسْألِ القَرْيَةَ . وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن عطاء في تأويله . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء في قوله : وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ قال : كره إليكم حينئذ .
والكره بالضم : هو ما حمل الرجل نفسه عليه من غير إكراه أحد إياه عليه ، والكره بفتح الكاف : هو ما حمله غيره ، فأدخله عليه كرها وممن حُكي عنه هذا القول معاذ بن مسلم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ، عن معاذ بن مسلم ، قال : الكُرْه : المشقة ، والكَرْه : الإجبار .
وقد كان بعض أهل العربية يقول الكرَه والكُرْه لغتان بمعنى واحد ، مثل الغَسل والغُسل ، والضَعف والضُعف ، والرّهب والرّهب . وقال بعضهم : الكُره بضم الكاف اسم ، والكَره بفتحها مصدر .
القول في تأويل قوله تعالى : وَعَسَى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أنْ تُحِبّوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لَكُمْ .
يعني بذلك جل ثناؤه : ولا تكرهوا القتال ، فإنكم لعلكم أن تكرهوه وهو خير لكم ، ولا تحبوا ترك الجهاد ، فلعلكم أن تحبوه وهو شّر لكم . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَىَ أنْ تَكُرَهُوا شَيْئا وَهُو خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَىَ أنْ تُحِبّوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لَكُمْ وذلك لأن المسلمين كانوا يكرهون القتال ، فقال : عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم . يقول : إن لكم في القتال الغنيمة والظهور والشهادة ، ولكم في القعود أن لا تظهروا على المشركين ، ولا تستشهدوا ، ولا تصيبوا شيئا .
حدثني محمد بن إبراهيم السلمي ، قال : ثني يحيى بن محمد بن مجاهد ، قال : أخبرني عبيد الله بن أبي هاشم الجعفي ، قال : أخبرني عامر بن واثلة قال : قال ابن عباس : كنت رِدْف النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال : «يا ابنَ عبّاسٍ ارْضَ عنِ اللّهِ بمَا قَدّرَ وَإنْ كانَ خِلافَ هواكَ ، فإنّه مُثْبَتٌ في كتابِ اللّهِ » قلت : يا رسول الله فأين وقد قرأتُ القرآن ؟ قال : «في قوله : وَعَسَىَ أنْ تَكْرَهُوا شيْئا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَىَ أنْ تُحِبّوا شَيْئا وَهُوَ شَرّ لَكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » .
القول في تأويل قوله تعالى : وَاللّهُ يَعْلَمُ وأنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .
يعني بذلك جل ثناؤه : والله يعلم ما هو خير لكم مما هو شر لكم ، فلا تكرهوا ما كتبت عليكم من جهاد عدوّكم ، وقتال من أمرتكم بقتاله ، فإني أعلم أن قتالكم إياهم ، هو خير لكم في عاجلكم ومعادكم وترككم قتالهم شر لكم ، وأنتم لا تعلمون من ذلك ما أعلم ، يحضهم جل ذكره بذلك على جهاد أعدائه ، ويرغبهم في قتال من كفر به .