79- فالهلاك والعذاب لهؤلاء الأحبار الذين يكتبون كتباً بأيديهم ، ثم يقولون للأميين : هذه هي التوراة التي جاءت من عند الله ، ليصلوا من وراء ذلك إلى غرض تافه من أغراض الدنيا فيشتروا التافه من حطام الدنيا بثمن غال وعزيز هو الحقيقة والصدق ، فويل لهم مما تقوَّلوه على الله ، وويل لهم مما يكسبون من ثمرات افترائهم .
قوله تعالى : { فويل } . قال الزجاج : ويل كلمة تقولها العرب لكل واقع في هلكة ، وقيل : هو دعاء الكفار على أنفسهم بالويل والثبور ، وقال ابن عباس : شدة العذاب ، وقال سعيد بن المسيب : ويل واد في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لانماعت من شدة حرها .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنا أبو طاهر محمد بن أحمد ابن الحارث أنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن المبارك ، عن رشيد بن سعد ، عن عمرو بن الحارث ، أنه حدث عن أبي السمع ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الويل واد في جهنم يهوي فيه الكافر أربعين خريفاً قبل أن يبلغ قعره ، والصعود جبل من نار يتصعد فيه سبعين خريفاً ثم يهوي فهو كذلك " .
قوله تعالى : { للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً } . وذلك أن أحبار اليهود خافوا ذهاب مآكلهم وزوال رياستهم حين قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، فاحتالوا في تعويق اليهود عن الإيمان به فعمدوا إلى صفته في التوراة ، وكانت صفته فيها : حسن الوجه ، حسن الشعر ، أكحل العينين ، ربعة القامة ، فغيروها وكتبوا مكانها طوال أزرق سبط الشعر ، فإذا سألهم سفلتهم عن صفته قرؤوا ما كتبوه فيجدونه مخالفاً لصفته فيكذبونه .
قوله تعالى : { فويل لهم مما كتبت أيديهم } . يعني كتبوه بأنفسهم اختراعاً من تغيير نعته صلى الله عليه وسلم .
قوله تعالى : { وويل لهم مما يكسبون } . من المآكل ويقال : من المعاصي .
{ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ }
توعد تعالى المحرفين للكتاب ، الذين يقولون لتحريفهم وما يكتبون : { هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ } وهذا فيه إظهار الباطل وكتم الحق ، وإنما فعلوا ذلك مع علمهم { لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } والدنيا كلها من أولها إلى آخرها ثمن قليل ، فجعلوا باطلهم شركا يصطادون به ما في أيدي الناس ، فظلموهم من وجهين : من جهة تلبيس دينهم عليهم ، ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق ، بل بأبطل الباطل ، وذلك أعظم ممن يأخذها غصبا وسرقة ونحوهما ، ولهذا توعدهم بهذين الأمرين فقال : { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } أي : من التحريف والباطل { وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ } من الأموال ، والويل : شدة العذاب والحسرة ، وفي ضمنها الوعيد الشديد .
قال شيخ الإسلام لما ذكر هذه الآيات من قوله : { أَفَتَطْمَعُونَ } إلى { يَكْسِبُونَ } فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه ، وهو متناول لمن حمل الكتاب والسنة ، على ما أصله من البدع الباطلة .
وذم الذين لا يعلمون الكتاب إلا أماني ، وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن ولم يعلم إلا مجرد تلاوة حروفه ، ومتناول لمن كتب كتابا بيده مخالفا لكتاب الله ، لينال به دنيا وقال : إنه من عند الله ، مثل أن يقول : هذا هو الشرع والدين ، وهذا معنى الكتاب والسنة ، وهذا معقول السلف والأئمة ، وهذا هو أصول الدين ، الذي يجب اعتقاده على الأعيان والكفاية ، ومتناول لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة ، لئلا يحتج به مخالفه في الحق الذي يقوله .
وهذه الأمور كثيرة جدا في أهل الأهواء جملة ، كالرافضة ، وتفصيلا مثل كثير من المنتسبين إلى الفقهاء .
وبعد أن بين القرآن الكريم فرق اليهود ، توعد الذين يحرفون الكلم عن مواضعه بسوء المصير فقال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } :
والمعنى : فهلاك وفضيحة وخزى لأولئك الأحبار من اليهود الذين يكتبون الكتابات المحرفة والتأويلات الفاسدة بأيديهم ، بدلا مما اشتملت عليه الكتب من حقائق ، ثم يقولون لجهالهم ومقلديهم كذباً وبهتاناً هذا من عند الله ، ومن نصوص التوراة التي أنزلها الله على موسى ، ليأخذوا في نظير ذلك عرضاً يسيراً من حطام الدنيا ، فعقوبة عظيمة لهم بسبب ما قاموا به من تحريف وتبديل لكلام الله ، وخزى كبير لهم من أجل ما اكتسبوه من أموال بغير حق .
فالآية الكريمة فيها تهديد شديد لأحبار اليهود الذين تجرءوا على كتاب الله بالتحريف والتبديل ، وباعوا دينهم بدنياهم ، وزعموا أن ما كتبوه هو من عند الله .
وصرح - سبحانه - بأن الكتابة ب { أَيْدِيهِمْ } ليؤكد أنهم قد باشروها عن تعمد وقصد ، وليدفع توهم أنهم أمروا غيرهم بكتابتها ، ولتصور حالتهم في النفوس كما وقعت ، حتى ليكاد السامع لذلك أن يكون مشاهداً لهيئتهم .
وقوله تعالى : { ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله } كشف عن كذبهم وفجورهم ، فهم يحرفون الكلم عن مواضعه ، ثم يزعمون أنه من عند الله ليتقبله أتباعهم بقوة واطمئنان .
ثم بين - سبحانه - العلة التي حملنه على التحريف والكذب فقال تعالى : { لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } أي كتبوا الكتابة بأيديهم ، ونسبوها إلى الله زوراً وبهتاناً ؛ ليحصلوا على عرض قليل من أعراض الدنيا ، كاجتلاب الأموال الحرام ، وانتحال العلم لأنفسهم والطمع في الرئاسة والجاه ، وإرضاء العامة بما يوافق أهواءهم .
وعبر - سبحانه - عن الثمن بأنه قليل ، لأنه مهما كثر فهو قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العذاب ، وحرموه من الثواب المقيم .
وقوله تعالى : { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } تهديد لهم مرتب على كتابة الكتاب المحرف ، وعلى أكلهم أموال الناس بالباطل ، فهو وعيد لهم على الوسيلة - وهي الكتابة - وعلى الغاية - وهي أخذ المال بغير حق - .
قال الشيخ القاسمي : قال الراغب : فإن قيل : لم ذكر { يَكْسِبُونَ } بلفظ المستقبل ، و { كَتَبَتْ } بلفظ الماضي ؟ قيل : تنبيهاً على ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم ، " من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة " فنبه بالآية إلى أن ما أثبتوه من التأويلات الفاسدة التي يعتمدها الجهلة هو اكتساب وزر يكتسبونه حالا فحالا ، وعبر بالكتابة دون القول لأنها متضمنة له وزيادة ، فهي كذب باللسان واليد . وكلام اليد يبقى رسمه ، أما القول فقد يضمحل أثره " .
وبهذا تكون الآيات الكريمة قد دمغت اليهود برذيلة التحريف لكلام الله عن تعمد وإصرار ووصفتهم بالنفاق والخداع ، ووبختهم على بلادة أذهانهم وسوء تصورهم لعلم الله - تعالى - وتوعدتهم بسوء المصير جزاء كذبهم على الله .
( فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ )
فكيف ينتظر من أمثال هؤلاء وهؤلاء أن يستجيبوا للحق ، وأن يستقيموا على الهدى ، وأن يتحرجوا من تحريف ما يقف في طريقهم من نصوص كتابهم نفسه ؟ إن هؤلاء لا مطمع في أن يؤمنوا للمسلمين . وإنما هو الويل والهلاك ينتظرهم . الويل والهلاك لهم مما كتبت أيديهم من تزوير على الله ؛ والويل والهلاك لهم مما يكسبون بهذا التزوير والاختلاق !
{ فَوَيْلٌ لّلّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هََذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لّهُمْ مّمّا يَكْسِبُونَ }
اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : فوَيْلٌ . فقال بعضهم بما :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق عن الضحاك ، عن ابن عباس : { فَوَيْلٌ لَهُمْ } يقول : فالعذاب عليهم .
حدثنا به ابن بشار ، قال : حدثنا ابن مهدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن زياد بن فياض ، قال : سمعت أبا عياض يقول : الويل : ما يسيل من صديد في أصل جهنم .
حدثنا بشر بن أبان الحطاب ، قال : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن زياد بن فياض ، عن أبي عياض في قوله : { َوَيْلٌ } قال : صهريج في أصل جهنم يسيل فيه صديدهم .
حدثنا عليّ بن سهل الرملي ، قال : حدثنا زيد بن أبي الزرقاء ، قال : حدثنا سفيان بن زياد بن فياض ، عن أبي عياض ، قال : الويل واد من صديد في جهنم .
حدثنا ابن حميد قال : حدثنا مهران عن شقيق قال : وَيْلٌ : ما يسيل من صديد في أصل جهنم .
حدثنا به المثنى ، قال : حدثنا إبراهيم بن عبد السلام بن صالح التستري ، قال : حدثنا عليّ بن جرير ، عن حماد بن سلمة بن عبد الحميد بن جعفر ، عن كنانة العدوي ، عن عثمان بن عفان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال : «الوَيْلُ جَبَلٌ فِي النّارِ » .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثني عمرو بن الحارث ، عن دراج ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «وَيْلٌ وَادٍ في جَهَنّمَ يَهْوِي فيهِ الكافِرُ أرْبَعِينَ خَرِيفا قَبْلَ أنْ يَبْلُغَ إلى قَعْرِهِ » .
قال أبو جعفر : فمعنى الآية على ما روي عمن ذكرت قوله في تأويل وَيْلٌ فالعذاب الذي هو شرب صديد أهل جهنم في أسفل الجحيم لليهود الذين يكتبون الباطل بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله .
القول في تأويل قوله تعالى : { لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِيلاً } .
يعني بذلك : الذين حرّفوا كتاب الله من يهود بني إسرائيل وكتبوا كتابا على ما تأولوه من تأويلاتهم مخالفا لما أنزل الله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم ، ثم باعوه من قوم لا علم لهم بها ولا بما في التوراة ، جهال بما في كتب الله لطلب عرض من الدنيا خسيس ، فقال الله لهم : { فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } .
كما حدثني موسى قال حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط عن السدي : { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلاً } . قال : كان ناس من اليهود كتبوا كتابا من عندهم يبيعون من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله ليأخذوا به ثمنا قليلاً .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، قال : حدثنا بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : الأميون قوم لم يصدّقوا رسولاً أرسله الله ، ولا كتابا أنزله الله فكتبوا كتابا بأيديهم ثم قالوا لقوم سفلة جهال : { هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلاً } قال عرضا من عروض الدنيا .
حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم عن عيسى عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قول الله : { الذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله } قال : هؤلاء الذين عرفوا أنه من عند الله يحرفونه .
حدثني المثنى قال ثنا أبو حذيفة قال ثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد مثله إلا أنه قال ثم يحرفونه .
حدثنا بشر بن معاذ قال ثنا يزيد عن قتادة { فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم } الآية وهم اليهود .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله { فويل للذين يكتبون الكتاب . . . } قال : كان ناس من بني اسرائيل كتبوا كتاباً بأيديهم ليتأكلوا الناس فقالوا هذا من عند الله وما هو من عند الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية قوله : { فَوَيْلٌ لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ ثُمّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنا قَلِيلاً } قال : عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ، فحرّفوه عن مواضعه يبتغون بذلك عرضا من عرض الدنيا ، فقال : { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ } .
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا إبراهيم بن عبد السلام ، قال : حدثنا علي بن جرير ، عن حماد بن سلمة ، عن عبد الحميد بن جعفر ، عن كنانة العدوي ، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ } : «الويل : جبل في النار » . وهو الذي أنزل في اليهود لأنهم حرّفوا التوراة ، وزادوا فيها ما يحبون ، ومحوا منها ما يكرهون ، ومحوا اسم محمد صلى الله عليه وسلم من التوراة ، فلذلك غضب الله عليهم فرفع بعض التوراة فقال : { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني سعيد بن أبي أيوب ، عن محمد بن عجلان ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء بن يسار ، قال : وَيْلٌ : واد في جهنم لو سيرت فيه الجبال لانماعت من شدّة حرّه .
قال أبو جعفر : إن قال لنا قائل : ما وجه َفوَيْلٌ لِلّذِينَ يَكُتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ ؟ وهل تكون الكتابة بغير اليد حتى احتاج المخاطبون بهذه المخاطبة إلى أن يخبروا عن هؤلاء القوم الذين قصّ الله قصتهم أنهم كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم ؟ قيل له : إن الكتاب من بني آدم وإن كان منهم باليد ، فإنه قد يضاف الكتاب إلى غير كاتبه وغير المتولي رسم خطه ، فيقال : كتب فلان إلى فلان بكذا ، وإن كان المتولي كتابته بيده غير المضاف إليه الكتاب ، إذا كان الكاتب كتبه بأمر المضاف إليه الكتاب . فأعلم ربنا بقوله : { فَوَيْلٌ لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ } عباده المؤمنين أن أحبار اليهود تلي كتابة الكذب والفرية على الله بأيديهم على علم منهم وعمد للكذب على الله ، ثم تنحله إلى أنه من عند الله وفي كتاب الله تكذّبا على الله وافتراء عليه . فنفى جل ثناؤه بقوله : { يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ } أن يكون ولي كتابة ذلك بعض جهالهم بأمر علمائهم وأحبارهم . وذلك نظير قول القائل : باعني فلان عينه كذا وكذا ، فاشترى فلان نفسه كذا ، يراد بإدخال النفس والعين في ذلك نفي اللبس عن سامعه أن يكون المتولي بيع ذلك وشراءه غير الموصوف به بأمره ، ويوجب حقيقة الفعل للمخبر عنه فكذلك قوله : { فَوَيْلٌ لِلّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتابَ بأيْدِيهِمْ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ } .
يعني جل ثناؤه بقوله : { فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ } أي فالعذاب في الوادي السائل من صديد أهل النار في أسفل جهنم لهم ، يعني للذين يكتبون الكتاب الذي وصفنا أمره من يهود بني إسرائيل محرّفا ، ثم قالوا : هذا من عند الله ابتغاء عرض من الدنيا به قليل ممن يبتاعه منهم . وقوله : مِمّا كَتَبَتْ أيْدِيهِم يقول : من الذي كتبت أيديهم من ذلك { وَوَيْلٌ لَهُمْ أيضا مِمّا يَكْسِبُونَ }يعني مما يعملون من الخطايا ، ويجترحون من الاَثام ، ويكسبون من الحرام بكتابهم الذي يكتبونه بأيديهم ، بخلاف ما أنزل الله ، ثم يأكلون ثمنه وقد باعوه ممن باعوه منهم على أنه من كتاب الله . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا آدم ، قال : حدثنا أبو جعفر ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ } يعني من الخطيئة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس : { فَوَيْلٌ لَهُمْ } يقول : فالعذاب عليهم قال : يقول من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ يقول : مما يأكلون به من السفلة وغيرهم .
قال أبو جعفر : وأصل الكسب : العمل ، فكل عامل عملاً بمباشرة منه لما عمل ومعاناة باحتراف ، فهو كاسب لما عمل ، كما قال لبيد بن ربيعة :
لِمُعَفّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شَلْوَهُ *** غُبْسٌ كَواسِبُ لا يُمَنّ طَعامُها
الفاء للترتيب والتسبب فيكون ما بعدها مترتباً على ما قبلها والظاهر أن ما بعدها مترتب على قوله : { وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون } [ البقرة : 74 ] الدال على وقوع تحريف منهم عن عمد فرُتب عليه الإخبار باستحقاقهم سوء الحالة ، أو رتب عليه إنشاء استفظاع حالهم ، وأعيد في خلال ذلك ما أجمل في الكلام المعطوف عليه إعادة تفصيل .
ومعنى : { يكتبون الكتاب بأيديهم } أنهم يكتبون شيئاً لم يأتهم من رسلهم بل يضعونه ويبتكرونه كما دل عليه قوله : { ثم يقولون هذا من عند الله } المشعر بأن ذلك قولهم : بأفواههم ليس مطابقاً لما في نفس الأمر .
و ( ثم ) للترتيب الرتبي لأن هذا القول أدخل في استحقاقهم الويل من كتابة الكتاب بأيديهم إذ هو المقصود . وليس هذا القول متراخياً عن كتابتهم ما كتبوه في الزمان بل هما متقارنان .
والويل لفظ دال على الشر أو الهلاك ولم يسمع له فعل من لفظه فلذلك قيل هو اسم مصدر ، وقال ابن جني : هو مصدر امتنع العرب من استعمال فعله لأنه لو صُرِّف لوجوب اعتلال فائه وعينه بأن يجتمع فيه إعلالان أي فيكون ثقيلاً ، والويلة : البلية . وهي مؤنث الويل قال تعالى : { قالوا يا ويلتنا } [ الكهف : 49 ] وقال امرىء القيس :
*فقالت لك الويلات إنَّك مُرْجِلِي*
ويستعمل الويل بدون حرف نداء كما في الآية ويستعمل بحرف النداء كقوله تعالى : { قالوا يا ويلنا إنا كنا ظالمين } [ الأنبياء : 14 ] كما يقال يا حسرتا .
فأما موقعه من الإعراب فإنه إذا لم يضف أُعْرِب إعرابَ الأسماء المبتدإِ بها وأُخْبر عنه بلام الجر كما في هذه الآية وقوله : { ويل للمطففين } [ المطففين : 1 ] قال الجوهري : وينصب فيقال : ويلاً لزيد ، وجعل سيبويه ذلك قبيحاً وأوجب إذا ابتدىء به أن يكون مرفوعاً ، وأما إذا أضيف فإنه يضاف إلى الضمير غالباً كقوله تعالى : { ويْلَكم ثوابُ الله خير لمن آمن } [ القصص : 80 ] وقوله : { وَيْلك آمِن } [ الأحقاف : 17 ] فيكون منصوباً وقد يضاف إلى الاسم الظاهر فيعرب إعراب غير المضاف كقول النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بصير : « وَيْلُ أمِّه مِسْعَرَ حَرْبٍ »
ولما أشبه في إعرابه المصادر الآتية بدلاً من أفعالها نصباً ورفعاً مثل : حمداً لله وصبرٌ جميل كما تقدم عند قوله تعالى : { الحمدُ لله } [ الفاتحة : 2 ] قال أكثر أئمة العربية : إنه مصدر أُميتَ فعله ، ومنهم من زعم أنه اسم وجعل نصبَهَ في حالة الإضافة نصباً على النداء بحذف حرف النداء لكثرة الاستعمال فأصل وَيلَه يا ويله بدليل ظهور حرف النداء معه في كلامهم . وربما جعلوه كالمندوب فقالوا : ويْلاَه وقد أعربه الزجاج كذلك في سورة طه . ومنهم من زعم أنه إذا نصب فعلى تقدير فعل ، قال الزجاج في قوله تعالى : { ويْلَكم لا تفتروا على الله كذباً } [ طه : 61 ] في طه يجوز أن يكون التقدير ألزمكم الله ويلاً . وقال الفراء إن ويل كلمة مركبة من وَيْ بمعنى الحُزن ومن مجرورٍ باللام المكسورة فلما كثر استعمال اللام مع وَيْ صيروهما حرفاً واحداً فاختاروا فتح اللام كما قالوا يَالَ ضَبَّةَ ففتحوا اللام وهي في الأصل مكسورة . وهو يستعمل دعاء وتعجباً وزجراً مثل قولهم : لا أب لك ، وثكلتك أمك . ومعنى : { فويل للذين يكتبون الكتاب } دعاء مستعمل في إنشاء الغضب والزجر ، قال سيبويه : لا ينبغي أن يقال { ويل للمطففين } دعاء لأنه قبيح في اللفظ ولكن العباد كُلموا بكلامهم وجاء القرآن على لغتهم على مقدار فهمهم أي هؤلاء ممن وجب هذا القول لهم . وقد جاء على مثال ويل ألفاظ وهي وَيْح ووَيْس ووَيْب ووَيْه ووَيْكَ .
وذكر { بأيديهم } تأكيد مثل نَظَرْتُه بعيني ومثل : { يقولون بأفواههم } [ آل عمران : 167 ] وقوله : { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] والقصد منه تحقيق وقوع الكتابة ورفع المجاز عنها وأنهم في ذلك عامدون قاصدون .
وقوله : { ليشتروا به ثمناً قليلاً } هو كقوله : { ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً } [ البقرة : 41 ] والثمن المقصود هنا هو إرضاء العامة بأن غيّروا لهم أحكام الدين على ما يوافق أهواءهم أو انتحال العلم لأنفسهم مع أنهم جاهلون فوضعوا كتباً تافهة من القصص والمعلومات البسيطة ليتفيهقوا بها في المجامع لأنهم لما لم تصل عقولهم إلى العلم الصحيح وكانوا قد طمعوا في التصدر والرئاسة الكاذبة لفقوا نتفاً سطحية وجمعوا موضوعات وفراغات لا تثبت على محك العلم الصحيح ثم أشاعوها ونسبوها إلى الله ودينه وهذه شنشنة الجهلة المتطلعين إلى الرئاسة عن غير أهلية ليظهروا في صور العلماء لدى أنظار العامة ومن لا يميز بين الشحم والورم .
وقوله : { فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون } تفصيل لجنس الويل إلى ويلين وهما ما يحصل لهم من الشر لأجل ما وضعوه وما يحصل لهم لأجل ما اكتسبوه من جراء ذلك فهو جزاء بالشر على الوسيلة وعلى المقصد ، وليس في الآية ثلاث وَيْلات كما قد توهم ذلك .
وكأن هذه الآية تشير إلى ما كان في بني إسرائيل من تلاشي التوراة بعد تخريب بيت المقدس في زمن بختنصر ثم في زمن طيطس القائد الروماني وذلك أن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد أمر بوضعها في تابوت العهد حسبما ذلك مذكور في سفر التثنية وكان هذا التابوت قد وضعه موسى في خيمة الاجتماع ثم وضعه سليمان في الهيكل فلما غزاهم بختنصر سنة 588 قبل المسيح أحرق الهيكل والمدينة كلها بالنار وأخذ معظم اليهود فباعهم عبيداً في بلده وترك فئة قليلة بأورشليم قصرهم على الغراسة والزراعة ثم ثاروا على بختنصر وقتلوا نائبه وهربوا إلى مصر ومعهم أرميا فخربت مملكة اليهود . ومن المعلوم أنهم لم يكونوا يومئذ يستطيعون إنقاذ التوراة وهم لم يكونوا من حفظتها لأن شريعتهم جعلت التوراة أمانة بأيدي اللاويين كما تضمنه سفر التثنية وأمر موسى القوم بنشر التوراة لهم بعد كل سبع سنين تمضي وقال موسى ضعوا هذا الكتاب عند تابوت العهد ليكون هناك شاهداً عليكم لأني أعرف تمردكم وقد صرتم تقاومون ربكم وأنا حي فأحرى أن تفعلوا ذلك بعد موتي ولا يخفى أن اليهود قد نبذوا الديانة غير مرة وعبدوا الأصنام في عهد رحبعام بن سليمان ملك يهوذا وفي عهد يوربعام غلام سليمان ملك إسرائيل قبل تخريب بيت المقدس وذلك مؤذن بتناسي الدين ثم طرأ عليه التخريب المشهور ثم أعقبه التخريب الروماني في زمن طيطس سنة 40 للمسيح ثم في زمن أدريان الذي تم على يده تخريب بلد أورشليم بحيث صيرها مزرعة وتفرق من أبقاه السيف من اليهود في جهات العالم .
ولهذا اتفق المحققون من العلماء الباحثين عن تاريخ الدين على أن التوراة قد دخلها التحريف والزيادة والتلاشي وأنهم لما جمعوا أمرهم عقب بعض مصائبهم الكبرى افتقدوا التوراة فأرادوا أن يجمعوها من متفرق أوراقهم وبقايا مكاتبهم . وقد قال : ( لنجرك ) أحد اللاهوتيين من علماء الإفرنج إن سفر التثنية كتبه يهودي كان مقيماً بمصر في عهد الملك يوشيا ملك اليهود وقال غيره : إن الكتب الخمسة التي هي مجموع التوراة قد دخل فيها تحريف كثير من علم صموئيل أو عزير ( عزرا ) . ويذكر علماؤنا أن اليهود إنما قالوا عزير ابن الله لأنه ادعى أنه ظفر بالتوراة . وكل ذلك يدل على أن التوراة قد تلاشت وتمزقت والموجود في سفر الملوك الثاني من كتبهم في الإصحاح الحادي والعشرين أنهم بينما كانوا بصدد ترميم بيت المقدس في زمن يوشيا ملك يهوذا ادعى حلقيا الكاهن أنه وجد سفر الشريعة في بيت الرب وسلمه الكاهن لكاتب الملك فلما قرأه الكاتب على الملك مزق ثيابه وتاب من ارتداده عن الشريعة وأمر الكهنة بإقامة كلام الشريعة المكتوب في السفر الذي وجده حلقيا الكاهن في بيت الرب اه . فهذا دليل قوي على أن التوراة كانت مجهولة عندهم منذ زمان .